ليتوانيا كما غيرها من الجمهوريات السوفياتية ورثت الكثير من رموز النظام الشيوعي الذي رزحت تحت حكمه بشكل متواصل من عام 1944، في حين أن العدد الأكبر من هذه الرموز جرى التخلص منها عقب الاستقلال الأخير في 1991 لكن الكثير من الإشارات إلى الحقبة بقيت موجودة لاعتبارها ثانوية وغير ظاهرة المعالم في ليتوانيا الأوروبية الحديثة.
الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي منح سلطات دول البلطيق وليتوانيا منها الدفعة لربما الأخيرة من أجل التخلص من أي رمز مرتبط ليس فقط بالحقبة السوفياتية إنما بالروسية أيضاً وهو ما رفع أحياناً عملية اجتثاث السوفياتية إلى مستوى آخر هو اجتثاث كل ما له ارتباط بروسيا.
النصب التذكاري للجنود السوفيات في مقبرة أنتاكالنيس في فيلنيوس
لم يكن هذا النصب يثير اهتمام السلطات سابقاً، إذ اقتصر رواده على وضع الأكاليل في الأيام الموافقة للأعياد السوفياتية مثل 23 فبراير (يوم المدافعين عن الوطن) و9 مايو (أيار) (عيد النصر)، لكن بعد الغزو الروسي أصبح الحج إلى النصب التذكاري، بالنسبة إلى السلطات، يوازي مباركة "العملية الروسية في أوكرانيا"، ونظر إليها كتعبير سياسي مكروه في ليتوانيا وليس إحياءً للذكرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد إعلان السلطات عزمها تفكيك النصب ونقله إلى مكان آخر (ربما متحف الأنصبة السوفياتية في بلدة غروتاس)، سارع عدد من الناشطين المعارضين إلى تقديم احتجاج لدى لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وهو ما دفع الأخيرة إلى طلب وقف عملية الإزالة حتى إبداء القرار بالأمر.
وزير الثقافة الليتواني سيموناس كايريس رأى أن اللجنة الأممية يجري تضليلها من قبل هؤلاء الناشطين، مؤكداً أن تصرفات بلدية فيلنيوس لا تتعارض مع اتفاقية جنيف حول احترام المدافن. وقال إن الخطوة مجرد رفض لـ"رموز النظام الذي قتل واغتصب"، موضحاً "نحن نتحدث عن آثار أيديولوجية تسيء إلى أمتنا ودولتنا، بل ويمكنني القول إنها تبث رسالة حول تفسير التاريخ المزيف".
وسمحت السلطات الليتوانية للإدارات المحلية باتخاذ القرارات المناسبة في شأن إزالة الأنصبة السوفياتية في المقابر الجماعية والمشيدة في نطاقها. وكانت الرموز السوفياتية في المقابر حتى اللحظة نجت من الإزالة بعكس تلك الموجودة في المساحات العامة في المدن.
مدرسة بوشكين والمسرح الروسي
يصعب على الكثيرين تصور حجم السم الذي بثته عملية بوتين العسكرية في كل ما هو روسي. طبعاً لا يجوز لوم اللغة الروسية وكل ما هو روسي على ما يفعله الكرملين، ولكنها "لحظة انفعال مفهومة" بسبب أهوال ما يحدث في أوكرانيا، وهو ما يترك القليل من المساحة للتعبير المتوازن وغير المنفعل.
من ضحايا الغزو الروسي المباشرين مراكز ثقافية لا علاقة لها بالسياسة. مدرسة بوشكين العامة في كاوناس – ثاني أكبر مدينة في ليتوانيا – التي قررت سلطات المدينة تغيير تسميتها إلى "المدرسة الدولية". هذه المؤسسة المصنفة كمدرسة روسية - أي إنها تشدد على تعليم اللغة والروسية وباللغة الروسية لكن مع تعليم اللغة الليتوانية – وعلى رغم أنها تعمل منذ ثلاثينيات القرن الماضي فإن تسميتها بمدرسة بوشكين لم يحصل سوى في عام 1999 في ذكرى المئتي سنة على ولادة الشاعر الكبير. أي إن التسمية جاءت خلال عهد ليتوانيا المستقلة وليست من رواسب عهود الاحتلال الروسية-السوفياتية.
كذلك المسرح الروسي في فيلنيوس والذي يقدم عروضاً مسرحية وفنية باللغة الروسية تقرر – بعد استشارة خبراء في المجال الثقافي - تغيير تسميته إلى مسرح فيلنيوس القديم.
أفعال النظام الروسي تلصق بكل ما هو روسي
وعبر عدد من سكان فيلنيوس عن استغرابهم للقرار، ففي حديث مع موقع "دلفي" الإخباري، قال أحد المواطنين من الأصول الروسية "إذا كان اسم والدتي سفيتلانا، فكيف يمكن إعطاؤها اسماً آخر، حتى لو، على سبيل المثال، قامت سفيتلانا أخرى بقتل شخص ما؟!"، فيما دعت مواطنة ليتوانية أخرى إلى عدم تحميل الناطقين بالروسية من مواطني ليتوانيا مسؤولية ما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
الشارع الروسي في فيلنيوس
يوجد في فيلنيوس شوارع عديدة بأسماء بلدان أو شعوب مختلفة، الشارع الألماني، والشارع اليهودي إلخ. ويوجد أيضاً الشارع الروسي الذي يثار الجدل حوله الآن إذ يطالب حزب "اتحاد الوطن - الديمقراطيون المسيحيون الليتوانيون" (TS–LKD) عبر ممثليه في مجلس مدينة فيلنيوس بإعادة تسميته ويقترح له اسم "الروثاني" Rutheni وهو لقب عرف به أحد الشعوب السلافية في القرون الوسطى، في الأراضي التي تشكل اليوم أوكرانيا وبيلاروس الحديثة، قبل تفرعه إلى التسميات الحالية.
بعكس موقفه من النصب السوفياتي في مقبرة أنتاكالنيس، يعارض عمدة مدينة فيلنيوس، ريميغيوس شيماشيوس، هذا التوجه. ويقول في تصريح نقله موقع "ديلفي"، "اسم هذا الشارع في فيلنيوس موجود منذ عدة قرون. وأنا أعلم أن هناك أشخاصاً يثيرون هذه القضية ويحاولون تسييسها. ومن المزعج للغاية أنهم لا يرون أن هذه مسألة تعود إلى تاريخ ليتوانيا القديم، وننسى أنه عندما أنشأ الدوق الليتواني الكبير غيديميناس مدينة فيلنيوس [منذ 700 عام]، أطلق على نفسه اسم ملك الليتوانيين وعديد من الروس"، مؤكداً أن اسم الشارع لا علاقة له بالحقبة القيصرية أو السوفياتية.
موقف أستاذ في جامعة فيلنيوس، وهو أول وزير للتعليم والثقافة في ليتوانيا بعد استعادة الاستقلال داريوس كوليس، يتوافق مع موقف العمدة، إذ يرى أن محاولات تغيير التسميات من شأنها الإيحاء وكأن كل ما هو روسي هو تابع للكرملين وموسكو، أي إنه ليس هناك ما هو روسي مخالف لما تمثله موسكو. ووصف الأمر بأنه يلعب على أنغام لحن موسكو التي تقول إن كل ما هو روسي هو خاص بها.
أصبحت الحرب في أوكرانيا بالنسبة إلى البعض حرباً ضد روسيا الاتحادية من أجل الحق في استخدام اللغة الروسية نفسها
من جهته، لا يأبه رجل الأعمال دميتري من فيلنيوس كثيراً بتغيير التسميات لكن يحزنه "أن أفعال النظام الروسي تلصق بكل ما هو روسي".
اللغة الروسية
تتعالى الأصوات أخيراً مطالبة بإلغاء تدريس اللغة الروسية في المدارس العامة كلغة أجنبية ثانية والتركيز على لغات الاتحاد الأوروبي مثل الألمانية والفرنسية والإسبانية.
والحقيقة يندر أن يمشي المرء في شوارع فيلنيوس من دون أن يسمع حوارات باللغة الروسية، وهذا مرده ليس إلى نسبة الروس الكبيرة في المدينة (لا تتعدى 10 في المئة) بل إلى التدفقات الكبيرة من الأشخاص الناطقين بالروسية.
الموجة الأولى كانت لمواطني بيلاروس الهاربين من نظام لوكاشينكو خصوصاً بعد قمع الاحتجاجات الذي أعقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة في عام 2020، كما إلى تركز المعارضة السياسية للوكاشينكو في العاصمة الليتوانية. تلاها موجة اللاجئين الأوكرانيين الذين بغالبيتهم يأتون من المقاطعات الشرقية والجنوبية الناطقة بالروسية. وأخيراً موجة المعارضين والناشطين والصحافيين الروس الذين تركوا بلادهم على دفعات بعد إعلان بوتين حربه ضد أوكرانيا في فبراير 2022.
هذه الموجات الثلاث، إضافة إلى وجود متجذر وإن ليس قوياً للأقلية الروسية في البلاد، أعاد زخماً للغة الروسية، فباتت اللغة المشتركة بين مختلف اللاجئين من البلاد التي شكلت يوماً اتحاداً سوفياتياً.
سحب حصرية اللغة من بوتين
بافيل لافرينيتس، رئيس قسم اللغة الروسية بجامعة فيلنيوس، يصف مبادرات إعادة تسمية "قصيرة النظر وعديمة المعنى" ويقول في تصريح لـ"دلفي"، "تغيير اسم الشارع ليس بالأمر الصعب، ولكن ما الذي يحققه ذلك؟ إذا ولدت المبادرة من الرغبة بمساعدة أوكرانيا، فكيف ستساعدها؟ إذا كانت من الرغبة في معاقبة المعتدي بطريقة ما، فكيف ستعاقبه؟... والأخطر: يكمن إن الخطوة تعبّر عن كراهية الأجانب، ورفض القيم الأوروبية، وصورة معكوسة لـ"العالم الروسي" [الذي يروج له بوتين]".
ويتخذ عالم فقه اللغة الروسي حسين حسينوف من أوكرانيا مثالاً لتوضيح علاقة الناس باللغة. ويقول إن الغزو الروسي دفع الأوكرانيين أولاً إلى الالتفاتة للغتهم الأوكرانية وثانياً إلى الاشمئزاز من اللغة الروسية بسبب ارتباطها بالغزو، ولكن مع اتساع نطاق الحرب واستيلاء الجيش الروسي على مناطق في شرق أوكرانيا التي يغلب على سكانها اللغة الروسية، أصبحت الحرب بالنسبة إلى البعض حرباً ضد روسيا الاتحادية من أجل الحق في استخدام اللغة الروسية نفسها.
ويقول في مقال له على موقع "ميدوزا" الروسي [مقره لاتفيا]، "بفضل التوسع في البث باللغة الروسية من الجانب الأوكراني، أصبح من الواضح أن مقاومة أوكرانيا مكرسة ليس فقط لدعم حق الأوكرانيين في لغتهم الخاصة ولكن أيضاً لحرمان روسيا البوتينية من حقها في إساءة استخدام اللغة الروسية بالشكل النفاقي".
القرارات التي تشهدها اليوم دول البلطيق وليتوانيا منها، قد تكون متشددة أكثر من اللازم، وربما غير ذات نفع، ولكنها وليدة لحظتها ولا يمكن قراءتها إلا ضمن السياق الأوسع وهو أن أوروبا تشهد غزواً لا مثيل له، وأوروبا الشرقية وتحديداً دول البلطيق اختبرت أكثر من غيرها معاني الاحتلال الروسي-السوفياتي. ومع ذلك تبقى هذه الدول حاضنة ليس فقط لعدد هائل من مواطنيها من الأصول الروسية، بل أيضاً لجاليات كبيرة من الأوكرانيين والبيلاروس والروس الذين يستخدمون اللغة الروسية في حياتهم اليومية، لكن في الوقت نفسه معظمهم ينأى بنفسه عن أفعال الكرملين وبوتين.