هي بالتأكيد واحدة من أضعف الأوبرات التي لحنها موتسارت في حياته، لكنها بكل تأكيد وبحسب إجماع دارسي أعمال ذلك الموسيقي المعجزة، العمل الذي ينحو مديرو المسرح إلى تقديمه موسماً بعد آخر منذ ما يقل عن قرنين من الزمن.
وربما يكون ذلك لكون موسيقاها تكشف أسرار عبقرية هذا الفنان، وربما بسبب سهولة ألحان هذه الأوبرا التي تحمل عنواناً ذا دلالة "مدير المسرح"، كما ربما بسبب بساطة موضوعها ما يعني أن تفضيلهم لها لا يعود لجودتها ولا لكونها علامة مميزة في تاريخ الموسيقى كما حال معظم أعمال موتسارت والأوبرالية في شكل خاص.
ومن الواضح أن مجرد إنجاز الموسيقي لهذا العمل في وقت كان ينجز فيه تلك التي ستكون من أعظم الأعمال الأوبرالية في تاريخ هذا الفن، أي "أب"، ويستعد لخوض تجربته الاستثنائية في مضمار الموسيقى الدينية "الجناز" الذي اختتم به موتسارت حياته الفنية والجسدية، يعني أنه إنما شاءه عملاً خفيفاً يرتاح للعمل عليه ويتطلع إلى إنجازه بسرعة كي يمكنه من الحصول على متطلبات عيش كريم يسكت لسان زوجته السليط المطالبة إياه بمزيد ومزيد من المال لتنفق على هواها.
من الكم إلى الكيف
مهما يكن فإن الواقع التاريخي يفيدنا بأن موتسارت لم يكن يعرف، حين كتب "مدير المسرح"، أنه يقترب حثيثاً من نهاية حياته. كان لا يزال في الثلاثين من عمره، وكان واثقاً من أن أمامه عمراً طويلاً يعيشه وإنتاجاً كبيراً يحققه. ومن هنا، فإن سرعة إنجازه عمله لم تكن نابعة، كما أراد بعض الباحثين أن يقول، من إحساس بقرب النهاية، بل من الرغبة العارمة في تحقيق التراكم، الذي سيؤدي لاحقاً إلى ضخامة في الإنتاج تسفر عن ذلك "الكيف" النوعي الذي كان موتسارت يدرك أنه قدره الزاهي في عالم الموسيقى، وأنه قادر دائماً على إنتاجه.
ومن هنا لم يكن ليتردد أبداً في خوض أي مغامرة تلوح له، حتى من دون أن يحسب حساباً. ليس معنى هذا أنه كان متهوراً، بل معناه فقط أنه فنان حقيقي يحس أن ليس له أن يبقى دقيقة من دون عمل. وهكذا حين عرض عليه وكلاء إمبراطور النمسا في عام 1786، أن يلحن أوبرا هزلية يتوق الإمبراطور إلى رؤيتها تقدم خلال أعياد تقام في شونبرون، لم يتردد الفتى المعجزة لحظة، فهو الذي كان يؤمن أن في إمكانه أن يلحن الدستور الهولندي إذا اقتضت الأمور ذلك، لم يكن ليتردد أمام أي نص. وهكذا، حين قرأ النص الذي كتبه ستيفاني لم يتردد لحظة: أدرك أن ليس في وسعه إلا أن ينفذ طلب الإمبراطور.
نص سخيف؟ لم لا
قال في نفسه: إن النص شديد السخف ولكن لا بأس، ستغطي عليه الموسيقى، ثم سأل: من الذي قال إنه يجب على النصوص الشعرية التي تلحن الأوبرات بناء عليها أن تكون عبقرية؟ وهكذا انخرط موتسارت في العمل، وبعد أسبوعين طلع بتلك الأوبرا التي بالكاد يذكرها أحد من دارسيه الكبار، بين أعماله الكبيرة اليوم. صحيح أن هذا العمل لم يغب عن مسارح الأوبرا الهزلية منذ ذلك الحين، وخصوصاً في فرنسا، حين أعاد الكاتبان هاليفي وباتو صوغ الكلمات إنما من دون أن يضيفا على العمل أي عبقرية، لكن أحداً بالكاد يمكنه أن يذكره إذا طاول الحديث أعمال موتسارت الأوبرالية.
واللافت في هذا كله هو أن موتسارت كتب "مدير المسرح" موسيقياً، في وقت كان يشتغل بكل جدية على واحد من أعظم الأعمال الأوبرالية في تاريخ الموسيقى "عرس فيغارو"، بل سيقال لاحقاً إن موتسارت نحى هذا العمل الكبير جانباً لكي ينجز "مدير المسرح"، ملبياً طلب الإمبراطور، كما أنه ما إن انتهى من العملين حتى انكب لينجز رائعته الأخرى "دون جوان". وهكذا، من الناحية الزمنية، تنتمي أوبرا "مدير المسرح" إلى العام نفسه الذي أنجز فيه موتسارت ذينك العملين الكبيرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكي لا نظلم هذا الفنان العبقري، لا بد من الإشارة إلى أن بعض الأجواء الموسيقية في "مدير المسرح" لا تقل من حيث الروعة والأهمية عن أعظم لحظات "دون جوان" أو "عرس فيغارو"، كل ما في الأمر أن الموسيقى في هذين العملين جاءت جيدة التركيب على النصين الأصليين ومتناسبة مع الموضوع، بينما في "مدير المسرح" نلاحظ تفاوتاً في القيمة مذهلاً بين النص واللحن. وهذا ما جعل عدداً من الموتسارتيين الأصفياء يفضلون دائماً فصل موسيقى "مدير المسرح" عن النص وتقديمها وحدها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محاولة هاليفي وباتو لإعادة صوغ الكلمات لا تخرج عن هذا الإطار.
موسيقى هزلية لجلد الذات
ومهما يكن الأمر، علينا أن ندرك أولاً وأخيراً، أن "مدير المسرح" أوبرا هزلية، وأن الموسيقى التي وضعها لها موتسارت تكاد وحدها تقول كل ما في العمل من أبعاد وأجواء، حيث في لحظة دفق إبداعي استثنائي، وربما انطلاقاً من رغبة عارمة في السخرية من ذاته، لاضطراره بين الحين والآخر إلى خوض مثل تلك المغامرات، لأسباب لا علاقة لها بالإبداع، تمكن موتسارت من أن يكتب موسيقى هي أشبه بجلد الذات: موسيقى تبدو وكأنها تسخر من كاتبها أكثر مما تسخر من الآخرين. ولكأن لسان حال موتسارت هنا، ما قاله شاعرنا العربي الكبير أبو الطيب المتنبي، معتذراً عن مدحه كافور: "وما كان ذلك مدحاً له/ ولكنه كان مجد الورى".
المهم في الأمر أن "مدير المسرح" أوبرا موجودة، حتى وإن كانت تنسى لدى تعداد أعمال موتسارت. والمهم أن هذه الأوبرا قدمت في الموعد المضروب وفق طلب الإمبراطور، وحققت نجاحاً هائلاً، يعزوه المؤرخون الموسيقيون أحياناً، ليس إلى الموضوع ولا حتى إلى موسيقى موتسارت، بل إلى وجود اثنتين من كبيرات الغناء الأوبرالي في أوروبا في ذلك الحين: السيدة كافالييري والسيدة لانغي، حيث إن هاتين المغنيتين شغلتا الخشبة طوال الوقت تقريباً متنافستين بصوتهما السوبرانو لإمتاع الحضور. والحال أن الأوبرا نفسها تتحدث، أصلاً، عن تنافس حاد يقوم بين مغنيتين في المسرح نفسه في سالزبورغ تتنافسان ليس فقط للفوز بإعجاب الجمهور، لكن أيضاً بإعجاب مدير المسرح. وأتاح هذا التنافس بين صوتين عظيمين يلعبان اللعبة بهزل رائع، لموتسارت أن يكتب صفحات موسيقية جزلة، وذلك عبر جمل موسيقية شديدة القصر. غالباً ما تقطعها هذه المغنية أو تلك تبعاً للموضوع حيث بالكاد تترك واحدتهما للأخرى مجالاً لتستكمل غناءها.
ومن المقطوعات الموسيقية المتميزة التي تلفت النظر في هذا العمل، الافتتاحية، التي كثيراً ما تقدم وحدها من بين ريبرتوار موتسارت، وكذلك هناك لحنان كبيران مكتملان تؤديهما المغنيتان تباعاً في شكل أخاذ ويكاد يقطع أنفاس المشاهدين المستمعين. وهناك ثلاثي تريو صاخب لا يمكن نسيانه، إضافة إلى الخاتمة، التي إذ تستعيد بعض جمل الافتتاحية سرعان ما تستقل بذاتها كقطعة هي الأخرى منفردة.
مواسم باريسية متتالية
إن هذه القطع هي التي لا تزال تجتذب الرواد حتى اليوم، وخصوصاً في "أوبرا كوميك" الباريسية حيث لا تزال "مدير المسرح" تقدم هناك موسماً بعد آخر، وحيث تلقى، على رغم ضعفها، قبولاً كبيراً من الناحية الموسيقية. وولفغانغ أماديوس موتسارت (1756-1791) كان يتوقع لهذا العمل، على أية حال، هذا النوع من النجاح الخفيف والسريع، حتى وإن كان قد أبدى خلال السنوات المتبقية من حياته، إذ إنه مات بعد خمس سنوات من إنجاز "مدير المسرح"، نوعاً من الندم إزاء أعمال يكلف بها ويضطر إلى إنجازها في وقت يكون فيه منهمكاً في كتابة أعمال كبيرة له.
وموتسارت (1756 – 1791) هو ذلك الموسيقي النمساوي العبقري، الذي تفتحت مواهبه منذ كان طفلاً صغيراً، وراحت هذه المواهب تنمو وتترسخ خلال عمره القصير، فخلف للإنسانية بعض أروع الأعمال في مجالات الأوبرا، والكونشرتو، والسيمفونية، لا سيما في مجال الموسيقى الدينية، التي كان آخر إنتاج له في إطارها ذلك القداس الذي بالكاد كان أنجزه حينما مات في شكل غامض، تاركاً إياه كوصية فنية - روحية استثنائية.