الدين، كما يرى محمد أركون، "أخضع للسياسة منذ التاريخ القديم وليس العكس". ونظام الملالي في إيران هو أعلى مراحل الإخضاع السياسي للدين في العصر الحديث. كانت البداية إمساك الإمام الخميني بالثورة الديمقراطية المتعددة القوى على الشاه، ثم تأسيسه حكم رجال الدين تحت عنوان "الجمهورية الإسلامية". وكانت الخطوة المفصلية تبني نظرية "ولاية الفقيه" العامة، لا الخاصة بحسب التقليد، في خلاف مع التيار الواسع لعلماء الشيعة الكبار: آية الله النائيني تحدث عن "ولاية الأمة". الإمام محمد شمس الدين قال: "ولاية الأمة على نفسها". علي مطهري نجل آية الله مرتضى مطهري قال بدوره "ولاية الفقيه هي ولاية الفقه لا ولاية شخص". والمرجع الأعلى علي السيستاني دعا إلى "دولة مدنية تعتمد على مؤسسات دستورية تحترم فيها الحقوق والواجبات".
وهكذا أصبحت كل سلطات "الحكم الإلهي" في يد شخص واحد هو الإمام الخميني الذي ورثه المرشد الأعلى علي خامنئي. وهكذا أحدث نظام الملالي أكبر تأثير على الأحداث في الشرق الأوسط من خلال "تصدير الثورة" عبر ميليشيات مذهبية مسلحة في العراق وسوريا ولبنان واليمن مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني.
لكن الثورة في الداخل الإيراني بدت ثورة يمين رأسمالي في الاقتصاد، ومحافظ في السياسة، ومتمسك بالعودة إلى الماضي. وهي واجهت انتفاضات شعبية دورية عاملتها بأقسى أنواع القمع والعنف، وتواجه منذ أسابيع "ثورة النساء" دعمها طلبة الجامعات والكتاب والإعلاميون والفنانون والرياضيون والمكونات المهمشة من النظام مثل الكرد والبلوش والعرب. والجديد هذه المرة أن الثورة هي ثورة جيل جديد ضد نظام الملالي بجناحيه المتشدد والإصلاحي، فيما كان قادة انتفاضة 2009 من أركان النظام، رئيس الوزراء مير حسين موسوي، ورئيس مجلس الشورى مهدي كروبي، ورئيس الجمهورية محمد خاتمي. جيل يريد التغيير الجذري في مواجهة نظام يقود سقوطه إلى تحولات كبيرة في الداخل والخارج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونظام الملالي خائف من التغيير وعاجز عن الاستمرار في منعه بالعنف والقمع وأحكام الإعدام. وليس حديثه عن وقف "شرطة الأخلاق" التي ماتت على يديها الشابة مهسا أميني سوى احتيال على التغيير المطلوب. فالمشكلة المباشرة هي إلزامية الحجاب بالقانون، بدل ترك التحجب أو أللا تحجب خياراً شخصياً للمرأة التي رفعت في الثورة شعار "امرأة، حياة، حرية". ولا شيء يوحي أن طهران يمكن أن تصل في المراجعة إلى تغيير القانون. والمشكلة الأكبر هي التي عبر عنها حسين حقاني الدبلوماسي الباكستاني والمستشار لرئيسة الوزراء التي اغتيلت بنازير بوتو بالقول "المشكلة الحقيقية هي ما في الرؤوس، لا ما فوقها". وما في الرؤوس أفكار غيبية تستخدم الدين للتحكم السياسي وإقامة نظام استبدادي مستعد لقتل شعبه دفاعاً عن نفسه. شيء يشبه ما فعله الكرادلة أيام محاكم التفتيش في أوروبا. وشيء أقسى بكثير من القمع على يد "السافاك" أيام الشاه.
لكن النظام يتصرف على أساس أن مزيد من العنف ينقذه، وأن الإيحاء الشكلي بالتفكير في مطالب الثورة يقنع الثوار بالتراجع. وهو يراهن على الفارق بين الثورة على الشاه والثورة على "الحكم الإلهي". في الثورة على الشاه كانت القيادات معروفة ومنخرطة في تنظيم الأحداث، والبديل جاهز وهو حكومة وطنية ديمقراطية، بصرف النظر عما فعله الخميني بعد انتصار الثورة بالأحزاب والقوى التي قادتها، وحتى بالفريق الذي جاء معه من باريس. أما في الثورة الحالية، فلا قيادة معروفة، ولا بديل جاهزاً، لكن الانتشار الجغرافي والرد على القمع والعنف والرصاص بالصمود كفيلان باستمرار الثورة بشكل أو بآخر حتى الوصول إلى التغيير الذي لا مهرب منه في النهاية، ذلك أن النظام الذي يقتل شعبه ويتهمه بالعمالة للإمبريالية يفقد عملياً شرعيته، وإن سماها "شرعية إلهية". فالنساء نصف المجتمع، والنخبة الثقافية وطلبة الجامعات والمكونات المهمشة من عشرات الملايين.
في بداية العقد الأخير من القرن العشرين انهار الاتحاد السوفياتي، وكان لانهياره تأثير هائل على أوروبا والنظام العالمي والأنظمة الإقليمية. ونهاية نظام الملالي مرشحة لأن تكون زلزالاً جيوسياسياً في الشرق الأوسط. ولا أحد يعرف متى وكيف تكون النهاية التي ليست سريعة، لكن أخطر نهاية هي الانتقال من حكم العمائم إلى حكم القبعات، بحيث يتولى الحرس الثوري الحكم رسمياً من دون غطاء الملالي.