يعتقد كثير منا أنه علينا الابتسام دائماً أثناء وجودنا في العمل أو في المقهى أو في السوبرماركت وفي الشارع والحديقة العامة. فالبسمة تدل على الإيجابية وتسهل التواصل مع الآخرين، وتترك انطباعاً مسالماً وتوحي بأن صاحبها اجتماعي وناجح في العمل أو في علاقاته الأسرية والعائلية. كانت هذه وصفة عالم الأعمال والمشاهير وعلوم النفس والاجتماع في القرن العشرين، اعتبرت البسمة حينها أنها الوسيلة الأفضل للتواصل لكي يبقى صاحبها مسروراً وبعيداً من القلق والتوتر الذي قد تسببه متاعب الحياة ومصاعبها. وكانت هذه البسمة تظهر في الأفلام السينمائية وعلى وجوه الممثلين والمغنين والمشاهير ورجال الأعمال والأثرياء الذين انتقلوا إلى الثراء بطريقة سريعة، تشد المتابعين في جميع أنحاء العالم، وربما توحي لهم أن الانتقال من الفقر إلى الثراء هو أمر بالمتناول ويمكن تحقيقه بالطموح والجهد. فالشخصيات كانت تظهر بحالة من السعادة الدائمة في أماكن جميلة وباذخة، إلى أن نعرف بأمر انتحارهم، مثل انتحار المغنية الفرنسية من أصول مصرية داليدا، وانتحار روبن ويليامز الذي اشتهر بتمثيله الأفلام الكوميدية، وانتحار مغني الروك منذ عقود الستينيات، وعلى رأسهم جيمي هندركس ومن بعده بزمن كورت كوبن قائد فرقة نيرفانا، ثم من بعده بعقد آيمي واينهاوس مغنية البوب الإنجليزية الشهيرة بعدوانيتها... ليتبين في ما بعد أن الشهرة والنجومية ليستا بالضرورة تقودان إلى السعادة الدائمة. ويقال إن مارادونا الأسطورة العالمية الذي دامت أسطورته منذ الثمانينيات حتى اليوم بعد وفاته، كان يتعاطى ويتصرف في أواخر سنوات حياته كما لو أنه ينتحر بالفعل، وهذه كانت حال المغني العالمي الأسطورة أيضاً مايكل جاكسون، بعد أن أشاع أصدقاؤه عقب وفاته المفاجئة، أنه كان يرقص لأيام من دون توقف في الأسابيع التي سبقت موته بذبحة قلبية.
هذا ما يضيء على ما بات يسمى في هذه الأيام "الجانب المظلم للبقاء إيجابياً" بحسب موقع "بسيكولوجي توداي"، المرجع في التحليل النفسي الحديث أو تحليل الأمراض النفسية المعاصرة الناتجة عن أنماط العلاقات الاجتماعية الحديثة وليدة تطور وسائل التواصل، وكذلك سلوكيات وأدبيات الناس وتبدل مفاهيم النجاح والهناء والاكتفاء والطموح والحافز أو الدافع نحو التقدم الشخصي على الصعد الاجتماعية كافة. وتقول الباحثة في هذا الموقع ليبي ما lybi ma إن التظاهر بالتفاؤل أو التفاؤل الإجباري في مواجهة مواقف معينة قد تكون له تأثيرات معاكسة جداً للمتفائل أو المتمسك بحافز يحتاج إلى جهد كبير لتحقيقه، وهذا ما يسمى "الإيجابية السامة"، فالإيجابية الزائدة على الحدود قد تتسبب بقمع عواطف مختلفة ذات آثار سلبية على نمط الحياة والصحة.
موقع "كيف أكون في العمل؟"how I’ m in my work يطرح مجموعة من الأسئلة التي ستكون إجابتها، بحسب الموقع، إيجاباً، مثل: هل من الممكن أن تكون متفائلاً للغاية في شأن المستقبل؟ ويعلق الكاتب بالقول "نحن ندرك اليوم أن هذا النوع من التفاعل الإيجابي ذو آثار سامة". ويعطي الكاتب مثالاً حول النصائح والتوجيهات الإيجابية التي تعطى للموظفين من قبل الإدارة، والتي بدلاً من أن تقول للموظف إن أداءه سيئ لكي يقوم بتحسينه بعد تعريفه بطريقة تحسين الأداء، فإن الملاحظات تكون من قبيل "ينصح أن تكون لديك ردود فعل إيجابية" أو أن "تنظر إلى الجانب المشرق من الأمر". الأمر نفسه ممكن أن يطال الوالدين اللذين تخبرهما المعلمة أن ابنهما يمكنه أن يعطي نتائج أفضل بقليل من الجهد، بدلاً من إطلاعهما على الحافز الذي يجب منحه للتلميذ وكيف نعلمه أن يحب المدرسة والمعلمة والمادة.
و"الإيجابية السامة" يمكن أن تكون "على شكل إنكار وعدم اعتراف بالتوتر وبالسلبية والتخلي عن السمات التي تشي بالحذر أو الشعور بالصدمة من أمر ما"، كما وصفها عالما النفس الفرنسيان سوكال وتروديل في مقال نشر عام 2020. إنها التعبير عن مشاعر إيجابية أثناء متابعة تجارب سيئة، وغالباً ما يكون هؤلاء من الأشخاص الذين يرددون فكرة أن الإيجابية تعالج كل شيء، وأن التركيز على النواحي الجيدة في حياتك وتجنب مشاعر الحزن أو القلق مهما حدث لك هو حل سحري لحياة سعيدة.
إيجابية مفرطة وسامة
عام 2006، قامت مجموعة من الباحثين في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو وجامعة بوسطن بدراسة الإيجابية المفرطة من خلال جمع 60 شخصاً يعانون اضطرابات وتقلبات في المزاج والقلق والرهاب. طلب من نصف المشاركين قمع عواطفهم أثناء مشاهدة فيلم مؤثر، ومن البقية القبول بالمشاعر التي سيشعرون بها بشكل طبيعي. وخلص الباحثون في نتائج الدراسة إلى أن كبت المشاعر كان ذا تأثير سلبي وخفض من المشاعر الإيجابية، وشعر المشاركون بتدني احترام الذات وكأنهم يكذبون على أنفسهم في عدم إخبارهم بمشاعرهم الحقيقية، بينما كانت النتيجة معاكسة لدى من عبروا عن أحاسيسهم التي شعروا بها خلال مشاهدتهم الفيلم.
ويقول مارك مانسون في كتابه "نهج غير بديهي لعيش حياة جيدة"، "تعلمنا أن كل شيء يستحق العناء في الحياة يتم كسبه من خلال التغلب على التجربة السلبية المرتبطة به. أي محاولة للهروب من السلبية أو تجنبها أو سحقها أو إسكاتها، وهذا ما سيحقق نتائج عكسية فقط. تجنب المعاناة هو شكل من أشكال المعاناة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مجموعة من المعالجين في فورت لودرديل فلوريدا يعرفون "الإيجابية السامة" بأنها التعميم المفرط وغير الفعال لحالة سعيدة ومتفائلة في جميع المواقف. و"تؤدي عملية الإيجابية السامة إلى إنكار وتقليل وإبطال التجربة العاطفية الإنسانية الأصيلة". أما علامات "الإيجابية السامة" أو الجانب المظلم من المشاعر الإيجابية، بحسب ما تسميه سامارا كوانترو Samara Quintero في مجلةPsyD ، فتتمثل في محاولة "المضي قدماً في الأمر" عن طريق فرض مشاعر معينة على الذات، رداً على رفض مشاعر أخرى حقيقية، وكذلك الشعور بالذنب لشعورك بما تشعر به، والتقليل من قسوة تجارب الآخرين مع استخدام عبارات من قبيل "أشعر بالرضا" أو "لم يعد همني أن أقلق بأي شأن". وكذلك منح النصيحة للآخرين من أجل التخفيف عنهم من قبيل "من الجيد أن الأمر انتهى هكذا، كان يمكن أن تكون النتائج أسوأ"، وذلك بالتناقض مع مشاعر صاحب المشكلة نفسه، سواء أكان صديقاً أو زميلاً في العمل. أما تلميذ الرائد في علم النفس سيغموند فرويد وغريمه في معظم استنتاجاته، كارل يونغ، فيقول "إن فرض نظرة إيجابية على الألم هو تشجيع للآخر على التزام الصمت في شأن ما يقاسيه".
وتخلص مراجعة مجلة "علم النفس اليوم" إلى أنه من المهم الاعتراف بعواطفنا بالتعبير اللفظي وبأي طريقة أخرى. و"هذا ما يبقينا عاقلين وبصحة جيدة، ويريحنا من التوتر الناتج من قمع الحقيقة".
التعارض الإيجابي بين نظريتين
ويمكن عرض مجموعة كبيرة من الأمثلة على العبارات التي نستخدمها يومياً في حياتنا الاجتماعية، والتي تظهرنا وكأننا إيجابيون بينما نكون بالفعل نبث نوعاً من "الإيجابية السامة"، ومن هذه العبارات والجمل "لا تفكر في الأمر، ابق إيجابياً" بينما يجب أن تكون النصيحة على الشكل التالي "صف ما تشعر به، أنا أستمع"، أو جملة نستخدمها دائماً مثل "لا تقلق، دع القلق جانباً. كن سعيداً"، بينما يجب قول التالي "أرى أنك متوتر حقاً، هل يمكنني تقديم المساعدة؟"، أو عبارة "كل شيء سينجح في النهاية" بدلاً من "هذا صعب حقاً، أنا أفكر بك بحق"، أو الجملة الأكثر تداولاً بين الناس وهي "كف عن القلق، كان يمكن للأمر أن يكون أكثر سوءاً".
لكن هناك معارضين لهذا النوع من التحليل بشكل تام، ومعاكس تماماً. ففي مقالتها بعنوان "كيفية تطوير موقف إيجابي في مكان العمل" تكتب جينيفر بوست في يومية "أخبار الأعمال"، أنه عندما يحدث خطأ ما خلال العمل فإن أول ما يجب أن نقوله للمخطئ هو ما قد يسمح له بـ"البقاء قوياً" أو "البقاء إيجابياً". وبرأي الكاتبة فإن هذه التأكيدات والتطمينات الصغيرة تعمل في بعض الأحيان كالسحر لدى متلقيها الذي يشعر بالذنب بسبب خطأ اقترفه. نظرتها هذه يساندها فيها معظم كتاب الموضوعات التي تدعو إلى الإيجابية أو التي تحدد وترسم الطرق التي يجب اتباعها للبقاء إيجابياً، وهي من كتب الجيب الموجودة في كل مكتبات العالم وكذلك في المطارات وصالات الانتظار الكبرى، بعد أن لاقى هذا النوع من الكتب رواجاً كبيراً، وهي تحمل عناوين من قبيل "كيف ترى الحياة باللون الزهري" أو "دليلك الفوري إلى قمة النجاح"، وغيرها. وتؤكد نظرتها بما قالته إيمي فينلي الشريك المؤسس لـEdinburgh IFA، أن النظر إلى الجانب المشرق والتفكير الإيجابي والابتسام بشكل عام هي العناصر الأساسية للموقف الشخصي الإيجابي.