Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ميستيك ريفر" الفيلم الذي خرج فيه كلينت إيستوود عن مألوفه

مع اقتراب الذكرى السنوية الـ20 لإنتاج الفيلم في السنة المقبلة، نظرة تتخطى شخصية "القذر هاري" التي أدى دورها إيستوود، إلى المخرج الذي كان مستعداً لخوض مغامرة لم يجرؤ عليها الآخرون

نال شون بن جائزة أوسكار لأفضل ممثل عن أدائه الناري في دور المجرم الصغير جيمي ماركوم في فيلم كلينت إيستوود "ميستيك ريفر" لعام 2003 (موفي ستور/شاترستوك)

لا يتابع عشاق السينما عموماً أعمال كلينت إيستوود من أجل الدقة أو السلوكيات الأخلاقية المعقدة. فالممثل والمخرج اشتهر بصنع أفلام عن الأبطال والأشرار. وسواء عندما لعب دور "هاري القذر" Dirty Harry في الفيلم الذي أخرجه دون سيغال عام 1971، أو الرجل الذي لا يحمل اسماً في "ثلاثية الدولارات"  Dollars Trilogy المعروفة بـ"سباغيتي ويسترن" Spaghetti Western التي أخرجها سيرجيو ليوني، فإن أدواره الأكثر شهرة على الشاشة الكبيرة كانت على نسق أفراد الشرطة الانتقاميين، أو رعاة البقر المتيقظين للخطر Vigilante Cowboys . وعندما خاض غمار الإخراج السينمائي، غالباً ما كان يروي قصصاً تظهر أنواعاً من الأميركيين من مختلف الفئات، مثل كابتن الطائرة الشجاع "سالي" Sully في فيلمه لعام 2016 الذي حمل الاسم نفسه، ورجال مشاة البحرية الأميركية الوطنيين والبطوليين في فيلم Flags of Our Fathers في عام 2006، أو الشخصيات الأكثر ظلماً في البلاد، كرئيس "مكتب التحقيقات الفيدرالي" FBI الغريب الأطوار جي إدغار هوفر، الذي لعب دوره ليوناردو دي كابريو في فيلم "ج. إدغار" J. Edgar الذي صور حياته وسيرته الذاتية في عام 2011.

لهذا السبب يبدو فيلم "ميستيك ريفر" في عام 2003 شاذاً عن خط الأفلام السينمائية لكلينت إيستوود. فالعمل الذي تدور أحداثه في مدينة بوسطن، يسلط الضوء في العمق على مشاعر الذنب والرعب والغموض. أما الشخصيات الرئيسة فيه فيشوبها كثير من العيوب، وتطاردها سلسلة من الإخفاقات والعثرات التي واجهتها في الماضي. وللمرة الأولى في فيلم لإيستوود، تحدث معظم أعمال العنف بعيداً من الشاشة. ومع ذلك، يصنف هذا العمل بالتأكيد على أنه من أكثر أعمال المخرج سوداوية وأشدها إزعاجاً.

حقق هذا الإنتاج السينمائي جائزتي أوسكار. فقد حاز بطله الممثل شون بن جائزة "أفضل ممثل" على أدائه المحموم كمجرم يدعى جيمي ماركوم، الذي يأخذ على نفسه مهمة إنفاذ القانون بيديه بعد مقتل ابنته البالغة من العمر 19 سنة. وفاز تيم روبينز بجائزة "أفضل ممثل مساعد" على دوره صديق الطفولة لجيمي، ديف بويل، الذي تعرض للاختطاف والاعتداء الجنسي عندما كان طفلاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عاد فيلم "ميستيك ريفر" إلى واجهة الأخبار الأخيرة عندما قدم شون بن إحدى جائزتي الأوسكار اللتين حازهما - فاز بأخرى عن دوره في فيلم "ميلك" Milk في عام 2008 - للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مبادرة تضامن مع أوكرانيا في حربها المستمرة مع روسيا. ومع اقتراب الذكرى السنوية الـ20 لفيلم "ميستيك ريفر" بسرعة، لا بد من أن يحظى الفيلم بمزيد من الاهتمام في الأشهر المقبلة. إذن، أين يدرج هذا العمل في نمط إيستوود؟

"اندبندنت" كتبت في مراجعة أجرتها للفيلم، "إيستوود ينجح في مزج مختلف العناصر بأسلوب محكم وبارع ويضفي لمساته المتناسبة الخاصة في الأجواء المحيطة بالفيلم". ولحظت أن "هذا العمل الفني الجاد والناضج يشير إلى أن إنتاجه السينمائي هو على وشك أن يشهد ازدهاراً آخر في مراحله الأخيرة".

النقاد الأميركيون كانوا أكثر حماسة. فقد وصفته مجلة "رولينغ ستون" الشهرية الأميركية بأنه "فيلم يعبق بالقوة والحميمية". وأشادت به صحيفة "نيويورك تايمز" واصفة إياه بـ "الفيلم الأميركي النادر الذي يطمح إلى استخدام عناصر التراجيديا وإبرازها بكل ثقلها وقتامتها".

مع ذلك، وجد المنتقدون فيلم "ميستيك ريفر" شديد الميلودرامية. فهو يطمح إلى أن يكون معاصراً يحاكي توجهات الطبقة العاملة (الياقات الزرق) على نحو يشبه إحدى تلك التراجيديات اليونانية التي يكون فيها مصير أبطال الرواية محكوماً عليه حتى قبل أن يبدؤوا دورهم. فلا يمكنهم الهرب من مصائرهم المحددة مسبقاً. وكما قال إيستوود، إنهم "على متن قطار لا يمكن الترجل منه". إلا أن نقاد المخرج رأوا الفيلم على أنه أشبه بتمرين لوسائل التلاعب الشديد بالأفراد. فالسيناريو الذي وضعه برايان هيلغلاند والمقتبس عن رواية دينيس ليهان التي تحمل الاسم نفسه، يعتمد بشكل كبير على عامل المصادفة.

في المقابل، هناك نوع مكثف من الوعي الذاتي الذي يطغى على بعض الأدوار التي يحاول الممثلون من خلالها نقل مشاعر الحزن والصدمة، إذ يجعل الفيلم شوارع وسط مدينة بوسطن تبدو ضبابية وقاتمة تماماً كالجزء الشرقي من مدينة لندن في بعض السنياريوهات الفيكتورية التي تعود إلى القرن الـ19.

من البديهي أن نفهم لماذا كانت شركة الإنتاج السينمائي "وارنر براذرز" Warner Bros حذرة للغاية في تمويل الفيلم، على رغم المجموعة الاستثنائية من الممثلين الذين جمعهم كلينت إيستوود، ومنهم لورا ليني ومارسيا غاي هاردن ولورانس فيشبورن وكيفن بيكون، إضافة إلى شون بن وتيم روبينز. وكان المخرج يسلط الضوء بشكل صارخ على قضية إساءة معاملة الأطفال، التي يعتبرها "من إحدى أبشع الجرائم التي يرتكبها الإنسان على وجه الأرض" بحسب وصفه.

لكن من يمكن أن يود مشاهدة فيلم كهذا؟ هنا يأتي دور الخفة والمهارة في وضع السردية الملائمة. فقد أدرك إيستوود أن لدى الجمهور جهوزية لتقبل الأفلام القاتمة ودنئية المحتوى، طالما كانت تنطوي على حبكات مقنعة يمكن التشبث بها. فقد أخرج قبله فيلمه "سبايس كاوبويز" Space Cowboys عن قصة متقاعد متقدم في السن في عام 2000، وهو أحد أكثر أعماله خفة. إلا أنه مع "ميستيك ريفر" أخذ الجمهور في رحلة مختلفة للغاية، وشاقة أكثر من سابقاتها. وكي يتمكن من إقناع الجمهور بمرافقته، كان عليه أن يمدهم بسيناريو مفعم بالحيوية والإثارة ويضم شخصيات مميزة وعناصر مشوقة.

 

لا تركب سيارة مع غرباء. هذا ما يشعر به غريزياً كل مشاهد لدى متابعته تلك اللقطات المرعبة للغاية التي تفتتح الفيلم الذي نرى فيه ثلاثة أطفال من الحي نفسه في جنوب بوسطن يلعبون الهوكي. شون وديف وجيمي هم أصدقاء مقربون من بعضهم بعضاً. إلا أن حادثتين صغيرتين غير متوقعتين فيما يبدو، تغيران مجرى حياتهم. الأولى، عندما يفقدون الكرة التي تتدحرج لتسقط في المجاري. ثم، عندما يحاولون استرجاعها، يجدون بعض الأسمنت الرطب على الرصيف، فيكتبون أسماءهم عليه. وفي هذه اللحظة، تظهر سيارة سوداء، سائقها (جون دومان) يصيح بهم تأنيباً لتدميرهم "ممتلكات خاصة بالبلدية".

للوهلة الأولى يفترضون أنه شرطي يرتدي ملابس مدنية. أحد الفتيان الثلاثة، ديف، يهم بدخول تلك السيارة. وفي اللحظة التي يقوم بذلك، تتغير حياته إلى الأبد. فهو على وشك أن يؤخذ بعيداً حيث يتم احتجازه داخل قبو لأيام عدة، ويتعرض فيه لاعتداء جنسي، فيغوص في غياهب العالم السفلي الذي يضج بالذئاب ومصاصي الدماء.

وعلى نحو تدريجي، ندرك شيئاً فشيئاً مدى الضرر الذي لحق بديف. فبعد 20 عاماً يظهر كأنه "سلعة تالفة"، عندما يصبح هو نفسه والداً. فقد تحول إلى شخصية محبطة ومضطربة، تعصف بها وتعذبها ذكريات الطفولة.

ينبض فيلم "ميستيك ريفر" بكثير من المشاهد الرمزية واللحظات غير المنطقية التي يمكن أن تغير مسار الأحداث المستقبلية. هذا النوع من الدراما يمكن مشاهدته في الأفلام الأوروبية المستقلة المهمة لمخرجين مثل البولندي كشيشتوف كيسلوفسكي - كفيلميه "فرصة عمياء"Blind Chance  العام 1987، و"الحياة المزدوجة لفيرونيك"  The Double Life of Veronique عام 1991 - أكثر من أفلام هوليوود المليئة بالإثارة والجريمة. الفيلم لا يتمحور فقط على تلك اللحظة المصيرية التي يدخل فيها ديف السيارة برفقة الأشخاص الذين أساؤوا إليه.

يحتوي الفيلم على مشهد آخر مشحون بالمقدار نفسه من الدراما عندما يودع جيمي (بن) باقتضاب ابنته الحبيبة كاتي (إيمي روسوم) وهي تغادر المنزل لقضاء ليلة مع أصدقائها. فإيستوود يسلط الكاميرا على اللقطة الأخيرة لها عند مدخل المنزل، حين يقول لها جيمي: "أراك لاحقاً"، لترد عليه بالعبارة نفسها "لاحقاً" - لكن اللقطة الطويلة تجعلنا نشك على الفور في أنه لن يراها مرة أخرى على الإطلاق.

يحتوي فيلم "ميستيك ريفر" على عدد من مزايا الأفلام البوليسية التقليدية في هوليوود. فالشرطيان شون (بيكون) وويتي (فيشبورن) يقومان بالتحقيق في مقتل الفتاة على نحو مضن، ويعملان على تضييق نطاق قائمة الأفراد المشتبه بهم، وإخضاعهم لاختبارات كشف الكذب، والتدقيق في الأدلة الجنائية الخاصة بهم. ومع ذلك، فإن الفكرة الرئيسة للفيلم هو أن لا شيء يمكن أن ينتهي على نحو دقيق ومنظم.

لا يوجد مرتكب واحد للجريمة أو ضحية واحدة. ففي هذا العالم المشوه والمليء بالكوابيس الذي يستحضره كلينت إيستوود، قد يتحول الأب المنكوب والمصاب بالحزن إلى قاتل هو نفسه.

قد تنمو مع الطفل الذي تعرض لسوء معاملة نزعة جامحة نحو ممارسة العنف. فغالباً ما تتأثر تصرفات جميع الأفراد بالمعاناة التي مروا بها في الماضي. وفي هذا الإطار، يميل الناس بشكل فظيع إلى إساءة تفسير سلوك أصدقائهم وأحبائهم. جميعهم تحملوا الخسارة والمآسي. وفيما يحقق الشرطي (بيكون) في أصدقاء طفولته، يحاول هو نفسه التعامل مع زواجه المتدهور، ولديه طفل لا يعرف حتى اسمه.

إلا أن أحد أفضل الأداءات في الفيلم، تقدمه مارسيا غاي هاردن في دورها زوجة لديف، التي تبدي على نحو متزايد كثيراً من المخاوف والشكوك في سلوكه. لكن أفعالها، شأنها شأن أي شخص آخر في وضعها، ترتد عليها بشكل كارثي. وتبدو بعض أجزاء المشاهد هنا مشغولة بجهد فائق.

فالمشهد الذي يجلس فيه شون بن وتيم روبنز على الشرفة، ويتحدث خلاله بن عن عدم قدرته على البكاء، يبدو مفتعلاً للغاية. مع ذلك، يمكن فهم سبب فوز الممثلين بجائزتي أوسكار. فشون بن يتلاعب بمشاعر روبنز عبر مواقف تنطوي على مزيج من التباهي والشفقة والحيرة، وهي مشاعر مؤثرة في النهاية. إنه متعجرف لكنه أيضاً مرتبك ولا يشعر بالأمان. أما ديف الذي يلعب دوره روبنز، فيشبه إلى حد ما ليني في فيلم "عن الفئران والرجال" Of Mice and Men، وهو شخصية خرقاء وودودة، لكن ينتابها القلق ولا تدرك مدى قوتها.

يلمح الفيلم إلى الكنيسة الكاثوليكية. إذ يبدو أن أحد المعتدين على ديف كان كاهنا. ويتم قتل الفتاة المراهقة في الليلة التي تسبق موعد احتفال أحد أصغر أطفال جيمي بمناسبة تناول قربانته الأولى. كما تظهر أفلام لاحقة مثل "سبوت لايت" Spotlight في عام 2015، أنه كان لمدينة بوسطن تاريخ طويل ومخجل من الاعتداءات الجنسية على الأطفال من جانب رجال دين.

بعد فيلم "ميستيك ريفر"، واصل إيستوود مساراً فنياً مماثلاً تخلله بعض الأعمال القاتمة الأخرى، بما فيها فيلم "فتاة المليون دولار" Million Dollar Baby في عام 2004، وفيلم "استبدال" Changeling عام 2008. في الأول، تصبح الملاكمة التي تلعب دورها هيلاري سوانك الحائزة هي الأخرى جائزة أوسكار، مصابة بشلل رباعي، وتعيش حالاً من اليأس تجعلها تتمنى الموت. وفي الفيلم الثاني، تقع أم عزباء (أنجلينا جولي) في حال من الصدمة لدى اختطاف طفلها. ويتضاعف استياؤها عندما تستعيد إبنها - إذ إنها تكتشف أنه الولد الخطأ.

هذه الأفلام أنتجت في الفترة السابقة لتلك التي أصبحت فيها أفلام الأبطال الخارقين تستقطب نجاحاً قوياً في شبابيك التذاكر. وعلى رغم المحتوى السوداوي لأعمال إيستوود، إلا أن أسلوبه الأخاذ والشجاع في الدراما لاقى نجاحاً مدهشاً. فقد حقق فيلمMystic River  عندما تم إطلاقه في الولايات المتحدة، ما تسميه الصحف التجارية بـ Boffo [أعمال مكتوب لها النجاح المؤكد]. وعرض في البداية في بضع صالات عرض، لكن معدلات مشاهدته كانت، على حد تعبير مجلة "فارايتي"  Variety، "مدهشة"، حتى أن إجمالي مداخيله بلغ نحو 160 مليون دولار (131 مليون جنيه استرليني) في مختلف أنحاء العالم.

بعد مرور نحو 20 عاماً، لا يمكن تصور أن فيلماً كهذا يمكنه أن يحقق تلك الأرقام. فقد تتخذ خدمات البث عبر الإنترنت المخاطرة في عرض مثل هذا المحتوى، لكن من غير المحتمل العثور في أيامنا هذه على أعمال درامية سوداوية تسلط الضوء على قضية مشينة كإساءة معاملة الأطفال وقتل فتاة مراهقة في مجمع محلي، تحظى بنسبة مشاهدة تعادل تلك التي حصدتها أفلام مثل "أفاتار" Avatar أو "الفهد الأسود" Black Panther.

أصبح إيستوود اليوم في التسعينيات من عمره. ولا يمكن تخيله يقوم الآن بإخراج فيلم أو تولي دور بطولة في أفلام أخرى بعد فيلم العام الماضي "كراي ماتشو" Cry Macho. وعلى رغم الأوسكارين اللذين حققهما فيلمه"ميستيك ريفر" إلا أن جمهوره لا يعتبره أحد أهم المحطات في مسيرته المذهلة التي استمرت 60 عاماً نجماً ومخرجاً. فهو في نهاية المطاف عمل يتضمن محتوى ذا طابع منحرف ومروع. إذ يفضل تذكره بشكل أساسي من خلال أفلام الويسترن وأبطال الشرطة الساعين للانتقام. ومع ذلك، من الصعب عدم الشعور بالحنين لما يمثله الفيلم، ولا سيما الحقبة غير البعيدة حين كانت الأعمال الدرامية عميقة المحتوى وقائمة على شخصيات قوية ما زالت قادرة على استقطاب شريحة واسعة من الجمهور العام... طالما كان اسمه [إيستوود] مدرجاً عليها.

قد يكون كلينت إيستوود بالفعل أحد أكثر رواة القصص تلاعباً بالمشاعر في هوليوود، لكن انظروا إلى ما هو أبعد من شخصية "هاري القذر" فستجدون مخرجاً مستعداً لخوض مغامرة لم يجرؤ عليها آخرون في مجاله.

فيلم "ميستيك ريفر" متوفر على منصة البث التدفقي "أمازون برايم"

© The Independent

المزيد من سينما