تعد الرابطة الاقتصادية أساس الرابطة الاجتماعية الأولى في حياة الإنسان أو الأساس المادي الذي يقيم عليه عمرانه، فالاقتصاد هو دائماً نقطة الابتداء في بحث حالات الاجتماع البشري. ولما كان لهذه الرابطة من أثر قوي محرك وفاعل في حياة البشر، فإنها ولدت تفاعلاً بشرياً في مكنونات الإنسان النفسية والمادية خلال تعامله اليومي، فخلقت نسيجاً كاملاً من التفاصيل وصاغت أحداثاً ارتبطت بذاكرة الناس وأفئدتهم، وروت قصصهم وتاريخهم انطلاقاً منها. ويعزو كثير من الباحثين أهمية النقود في قدرتها على اكتشاف ما غاب عن المؤرخين أو أهملوه عمداً كتحديد أسماء الملوك والبلدان والمدن، واعتبارها أهم الابتكارات الإنسانية عبر العصور، فلولاها لما استطاع الناس التوصل لحل المعضلات الاقتصادية والتجارية المعقدة.
ولليرة السورية حكايات تفيض بالاشتياق والحنين إلى زمن كان فيه رغد العيش طاغياً والحياة أسهل وحاجاتها أقل والأحلام معظمها شبه محققة.
من الفرنك الفرنسي إلى الليرة السورية
تروي أم سمير، مواليد عام 1949، والابتسامة ترسم ملامح وجهها شديد البياض وتجاعيدها التي تماهت مع حركاتها الطفولية، قصتها مع نصف الفرنك في ذاك الزمن، فتقول واصفة شكله، "كنا نأخذ من والدتي نصف الفرنك المثقوب في الوسط وحجمه صغير جداً، ونذهب لنشتري به حبلاً من البونبون (حلوى)، أما الفرنك الأكبر حجماً فنستطيع شراء سيخ لحمة به (كمية من اللحم المشوي)". والفرنك آنذاك هو وحدة النقد الفرنسي منذ الثورة الفرنسية عام 1789، واستعمل في دمشق أثناء الاحتلال الفرنسي بقيمة خمسة قروش، وكان القرش أو الغرش أصغر وحدة نقدية ويجزأ في الشام إلى نصف القرش أو النكلة.
وقد اتبعت سوريا النظام العشري، فمثلاً تقسم الليرة السورية إلى 100 قرش، وكل خمسة قروش تعادل فرنكاً وأحداً، وكل 20 فرنكاً يساوي ليرة سورية، أما لماذا كان كل عشرين فرنكاً يساوي ليرة، فيعود لأن أول ليرة سورية صدرت عام 1939 كتب عليها من الاحتلال الفرنسي "تدفع لحاملها لقاء شيك على باريس بقيمة 20 فرنكاً"، وبحسبة بسيطة عبر تقسيم مئة على عشرين يكون الفرنك يساوي خمسة قروش.
وبعد رفض سوريا في نهاية الأربعينيات ربط الليرة السورية بالفرنك الفرنسي وقبول لبنان ذلك، أصدرت الجمهورية السورية عملة وطنية ترتبط بالذهب، وبعدها، سنة 1950، صدر قانون بإحداث مؤسسة النقد السوري وغطت الأوراق النقدية بالذهب والقطع الأجنبي والسندات التجارية والسلف بالحساب التجاري، وأخيراً اكتتاب في صندوق النقد الدولي، وأصدرت بعدها عدداً من العملات الورقية من فئات (1-5-10-25-50-100).
العيش ببحبوحة
وتتابع السيدة السبعينية حديثها، "كان تجار حلب في ذاك الزمن يأتون خلال مناسبات عدة ليعرضوا فيها منتجاتهم وبخاصة القماش". وكان تعداد 3.62 ليرة سورية يعادل دولاراً أميركياً واحداً في أوائل الخمسينيات، وأصبح الدولار عام 1963 يعادل 4.1 ليرة سورية.
وعن هذه الفترة يروي سهيل قصة والده الذي استطاع شراء منزل في مدينة دمشق بمساحة 120 متراً، بقيمة 10 آلاف ليرة، وقد أمن هذا المبلغ من خلال قرض خاص بالمنزل، فقد كان يعمل كموظف في إحدى الدوائر الحكومية وراتبه يزيد على 150 ليرة آنذاك، ولو كان من الحاصلين على درجة البكالوريا لارتفع مرتبه أكثر من ذلك.
مثل حنا الذي كان راتبه في سبعينيات القرن الماضي يتراوح بين 250 و300 ليرة سورية آنذاك بما يعادل 75 دولاراً، وكان يعيش وإخوته الثلاثة ووالدته في العاصمة دمشق ببحبوحة، فكل شيء متوفر وبكثرة ويستطيع شراءه واقتناءه، ويصف تلك الحياة بالجميلة والبسيطة والسهلة.
مرحلة صعبة والحاجات الأساسية مؤمنة
كثر الذين عايشوا فترة بداية الثمانينيات من القرن الماضي عندما ثارت جماعة "الإخوان المسلمين" ضد الدولة السورية، وبعد فرض الولايات المتحدة حصاراً اقتصادياً على سوريا، يجمعون أنها على رغم صعوبتها وانقطاع بعض المواد من البلاد واضطرارهم للوقوف ساعات عدة للحصول على السكر أو المناديل الورقية، إلا أنها كانت أفضل حالاً من الوضع الآن، وذلك بسبب اعتماد الدولة حينها على حصر المواد بمؤسساتها لمنع احتكار التجار، إذ سيرت دوريات تابعة لوزارة التموين وحماية المستهلك وأعطتها سلطة بالقبض على من يرفع سعر أي مادة أو يقوم باحتكارها ويعامل معاملة المجرم، واعتمد الاقتصاد آنذاك على شركات صغيرة ومتناهية الصغر، بعكس اليوم حيث يسيطر ما يعرف في سوريا بحيتان التجارة على البلاد ويحتكرون السلع ويتلاعبون بأسعارها من دون ضابط أو حسيب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن هذا تحدث جميل، وهو أستاذ مدرسة متقاعد، "لقد كانت مرحلة صعبة، وعلى رغم وجود تجاوزات كثيرة، فإننا قررنا الصبر لننعم بأهم عامل، وهو الأمان الذي هدد حياتنا بين ليلة وضحاها، كما أن حاجاتنا الأساسية كمواطنين كانت خطاً أحمر والدولة أخذت على عاتقها تأمينها في كل الظروف". وتابع، "عندما كنت شاباً في منتصف الثمانينيات لم يكن هم المواطن تأمين الطعام، فهذه حاجة محققة من دون التفكير بها، ومعظم أحلام الناس آنذاك كانت شبه محققة، ويرجع ذلك إلى القدرة على إيجاد عمل والمردود الجيد في البلاد، إضافة لقلة ومحدودية الخيارات التي يستطيع الإنسان العاقل أن يفاضل بما يريد".
"أم الطربوش"
جاءت فترة التسعينيات مع ورقة النقد من فئة الـ500 أو "أم الطربوش" و"الملحفة"، وهما الاسمان الحركيان اللذان أطلقهما السوريون على هذه الورقة، وقد صنفت من ضمن أجمل أوراق النقد في العالم، بحسب موقع best banknotes المتخصص بالأوراق النقدية. وصدرت للمرة الأولى بتاريخ 1958، وصدر منها لاحقاً بتواريخ عدة كان آخرها عام 1992. وبقيت في التداول لأواخر التسعينيات قبل أن تستبدل بشكل آخر.
والسبب في تسميتها هو صورة الرأس الظاهرة على وجهها وعليه ما يشبه "الطربوش"، وفي الحقيقة هو وجه الأميرة الكنعانية "ملقارت" من مدينة أوغاريت في "رأس شمرا" السورية، وفي وسطها الربة عشتار ترضع طفلين ملكيين، أما على ظهرها فتظهر أحرف أبجدية "رأس شمرا"، وفي الوسط حشوة مستديرة مزخرفة برسوم الحيوانات من آثار أوغاريت القرن الخامس عشر قبل الميلاد، بينما تعود تسميتها بـ"الملحفة" لكبر حجمها.
ويقول حنا في هذا السياق، "إن امتلاكك عدداً من هذه الفئة كان يشعر حاملها بالأمان وبأنه حر في خياراته وكيفية تلبية حاجاته والطموح بأكثر من ذلك".
أما سهيل فقد استطاع في أواخر التسعينيات امتلاك منزل في قريته بريف حمص الغربي بمبلغ 120 ألف ليرة سورية بمساحة 100 متر، وبما يعادل 6000 دولار أميركي آنذاك، وأثناء حديثه توقف لبرهة، وابتسم بسخرية قائلاً، "اليوم 6000 دولار لا تستطيع أن تأتي لأحد بمنزل حتى في الأحياء الفقيرة، لقد أصبحت عملتنا عبارة عن عدد بلا قيمة وهو ما يجعلنا كمواطنين أحياناً نسير ونحاكي أنفسنا، وكل ما حصل ويحصل الآن هو فوق قدرة الإنسان على الحساب والفهم".
صدمة جيل
أن يشعر جيل الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات بفرق الحياة وكلفةها هو أمر طبيعي بسبب الفجوة الواضحة بين حياة بسيطة وبطيئة وقليلة الكلفة وحياة سريعة ومرتفعة الكلفة، وتعمد هذه الأجيال دائماً في أحاديثها عن تلك المرحلة على الوقوف على أطلال تلك الأيام، بينما يقف جيل منتصف الثمانينيات والتسعينيات والجيل الحديث عند حياة بدت أنها سهلة وتسير بهدوء في بدايتها، وفجأة وجد نفسه إما عالقاً في منتصف الطريق أو لا يعرف أين يذهب أو ماذا يفعل، فمن حياة هادئة إلى حياة لا تسير فقط بسرعة، بل تسابق من يكون أسرع في كل شيء، فلا وقت للتفكير بما تريد، وعليك فقط أن تستهلك، وهو ما جاء مع مفهوم التسويق الذي غزا العالم وظهرت له نظريات شتى وفي مفاصل متعددة، فالكل يريد من هذا الإنسان، بخاصة المولودين في هذه الأزمنة، أن يستهلكوا معظم ما يعرض لهم بغض النظر إن كانوا بحاجة إليه أم لا، وهذا ما خلق صدمة لهذه الأجيال وجعلها في حيرة من أمرها ومن الطريقة التي تحيا بها، فهي في معظم الوقت على فوهة بركان بخاصة مع حرب شوهت نظرتها لمستقبلها ولما تريده، وحدت من قدرتها على الحصول على أشياء منعت عن بلادها، بالتالي شعرت بعجز مضاعف، فالعالم الافتراضي أتاح كل شيء أمامها والحياة الواقعية حاصرتها بالسياسة والحروب والأدوار التي لا ناقة له بها ولا جمل.
مفارقات غير مفهومة
ردينة فتاة من مواليد 2000 تحاول أن تفهم معادلة بسيطة في الفرق الذي أصبح جلياً بين سنة وأخرى، فتقول "كنت أستطيع شراء عدد كبير من البسكويت ومن النوع الفاخر بـ100 ليرة، اليوم لا تستطيع هذه الـ100 أن تقدم لك شيئاً، وأصبحت أخجل من إعطائها لمتسول، فإذا أردت أن تعطي أحدهم في الشارع عليك أن تفكر إن كانت تقدم له شيئاً يسد رمقه أو لا".
هذه المقاربة بدت واضحة عندما تحدث كيورك قائلاً، "كنت أتقاضى سنة 2011 راتبي البالغ 55000 ليرة سورية ما يعادل 1200 دولار أميركي، واليوم وبعد عمل 35 عاماً، أصبح راتبي عام 2018 يعادل 100 دولار، والآن صار 20.4 دولار، أي ما يعادل 150 ألف ليرة سورية، وهذا لا يكفي لضرائب الكهرباء والماء والنظافة والهواتف الأرضية والمحمول".
وفي هذا السياق خرج بعض المتخصصين في الاقتصاد السوري عن صمتهم متسائلين كيف يعيش المواطن اليوم مع هذا التضخم الذي لم يسبق له مثيل، داعين الحكومة لاتخاذ إجراءات عاجلة في تلافي هذه الفجوة التي تزداد يوم عن يوم. وهذا يعني أن المواطن أصبح يحتاج لما يقارب 400 دولار لعيش بكرامته في سوريا، فنسبة الأمان أصبحت هامشية ومن دون قوة شرائية وتخضع للمد والجذر.
وهذا يشبه ما تحدث به حنا، "لقد أصبح تأمين الطعام اليوم أهم أمنيات المواطن السوري بمعظم فئاته وهذا ما يهدد قدرته على التفكير بأي شيء آخر، بخاصة مع اتساع رقعة الحاجات وتفاقمها والانهيار الذي أصاب الاقتصاد السوري وليرته خلال الحرب التي برأيه سببت ضياعاً لأجيال بكاملها".