عن 86 سنة غيب الموت رئيس مجلس النواب اللبناني السابق حسين الحسيني لتطوى معه مسيرة 50 عاماً من العمل السياسي المباشر. الرجل الذي اختزن تجارب كثيرة أخذ معه أيضاً أسراراً كثيرة لعل أهمها ما يتعلق بالدور الذي لعبه في التوصل إلى اتفاق الطائف والمحادثات التي سبقت ذلك، خصوصاً في لقاءاته مع البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير.
ينتمي الرئيس حسين الحسيني إلى جيل مضى من تاريخ لبنان. جيل يحكى كثيراً عن محاولاته تغيير صورة لبنان وهويته في ظل الأزمة التي يعيشها. وطالما هاجم الراحل المسؤولين عنها واتهمهم بأنهم أوصلوا البلاد إلى هذا الانهيار.
يبقى حسين الحسيني واحداً من رجال السياسة اللبنانيين القلائل الذين لم تكن لهم خصومات قاسية ولا عداوات. كان أحد رواد الدعوة إلى اعتبار أن اللعبة الديمقراطية في السياسة يجب أن تسمو على الانتقام والطعن. في مفهومه يمكن أن تكون السياسة لعبة نظيفة وأن يتمتع السياسيون بهذه الصفة أيضاً. ربما لذلك لم تصبه سهام الاتهامات بالفساد أو الانتفاع أو المؤامرات ولكنه كان ضحية لها.
مع موسى الصدر
في عام 1972 دخل حسين الحسيني إلى عالم السياسة المباشرة بعد انتخابه نائباً في مجلس النواب اللبناني. قبل ذلك كانت المقاعد النيابية في دائرة بعلبك الهرمل حكراً على العائلات الكبيرة خصوصاً أيام رئيس مجلس النواب الأسبق صبري حماده الذي كانت الزعامة معقودة له بنسبة كبيرة، إذ كان مدعوماً من الشعبة الثانية والمخابرات. أما الحسيني فقد دخل إلى عالم السياسة من خلال تعيينه رئيساً لبلدية شمسطار بلدته، ومن خلال الانضمام إلى حركة الإمام موسى الصدر الذي عمل على تشكيل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ليكون الهيئة الروحية المستقلة للشيعة اللبنانيين.
العمل إلى جانب موسى الصدر الوافد الجديد في بداية الستينيات على عالم لبنان السياسي والديني كان يشبه المغامرة ذلك أن حضوره كان موضع متابعة ومراقبة من القيادات السياسية الشيعية التي رأت فيه مزاحماً لها، ومن هنا كان دخول حسين إلى مجلس النواب فتحاً لأبواب جديدة داخل عالم الطائفة الشيعية خصوصاً أن نشاط الصدر لم يقتصر على الناحية الدينية بل تعداها إلى العسكرية عندما جيش الشيعة ودعاهم إلى حمل السلاح "لأنه زينة الرجال"، وأسس حركة "أمل" لكي تكون الجناح العسكري للطائفة الشيعية وتشارك في الحرب اللبنانية.
لم تطل تجربة الإمام الصدر في الحرب. في آخر أغسطس (آب) 1978 ذهب إلى ليبيا للقاء العقيد معمر القذافي بحثاً عن حل لمسألة الأمن في جنوب لبنان وسعياً إلى إرسال الجيش اللبناني ليحل محل المنظمات الفلسطينية ولكنه اختفى هناك. نتيجة ذلك تولى النائب حسين الحسيني رئاسة حركة أمل ولكنه لم يكن منسجماً مع الدور العسكري الذي كان يجب أن تقوم به قياساً على تطورين: الإشكالات التي كانت تحدث مع المسلحين في التنظيمات الفلسطينية بالجنوب ومعظم سكانه من الشيعة، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران التي بدأت تبحث عن مواطئ نفوذ بين الشيعة في العالم العربي. وكانت تريد أن تجند حركة أمل في خدمة مشروع تصدير الثورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حركة أمل ونبيه بري
زار الحسيني طهران ولكن أي اتفاق لم يحصل معه نظراً إلى أكثر من سبب: أنه لم يكن مقتنعاً بالأصولية الإسلامية الشيعية التي تبشر بها الثورة نظام حياة متكامل في ظل ولاية الفقيه والحكم الديني المباشر، ولأنه كانت هناك لدى مؤيدي الإمام موسى الصدر في لبنان شكوك حول دور ما للنظام الإسلامي الجديد في إيران بإخفائه خصوصاً أنه لم يسع إلى بحث اختفائه مع النظام الليبي الذي تقرب منه، وكون قيادات عديدة في الثورة تدربت مع حركة أمل في لبنان وكانت قريبة من الإمام الصدر تم إبعادها بطرق مختلفة عن سلطة القرار.
لم تطل إقامة الحسيني في رئاسة حركة أمل. حوادث غامضة وقعت معه، بينها إطلاق النار على منزله وهذا ما أدى إلى ابتعاده عن المشهد ليحل محله المحامي نبيه بري الذي كان لا يزال شخصية مغمورة سياسياً ولم يسبق له أن قام بأدوار مهمة. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يأخذ فيها بري مكان الحسيني.
رئاسة المجلس
في عام 1984 انتقل الحسيني من مقاعد النواب إلى مقعد رئيس مجلس النواب. كان سلفه الرئيس كامل الأسعد ساعد في انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية وأثار نقمة النظام السوري عليه. عندما اختار رئيس الجمهورية اللبنانية أمين الجميل تغيير سياسته والتنسيق مع النظام السوري بعد قراره إلغاء اتفاق 17 مايو مع إسرائيل، وضع النظام السوري شروطاً عدة عليه كان أحدها انتخاب حسين الحسيني رئيساً لمجلس النواب محل كامل الأسعد وقد التزم الجميل بهذا الأمر. ولكن في الواقع لم يكن الحسيني رجل النظام السوري ولكنه كان الرجل الأفضل للقيام بهذا الدور في تركيبة مجلس النواب المنتخب في عام 1972.
كان النظام السوري من خلال هذا الاختيار يريد أن يتحكم بانتخاب رئيس للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس الجميل في سبتمبر (أيلول) 1988 ولكن المحاولة فشلت، وعين الجميل حكومة انتقالية برئاسة العماد ميشال عون الذي أعلن حرب التحرير ضد الجيش السوري في لبنان وكانت نتائجها كارثية على اللبنانيين، خصوصاً على المناطق المسيحية التي كانت واقعة تحت سيطرة عون.
الطريق إلى الطائف
نتيجة هذه الحرب بدأ البحث عن حل، وعمل الحسيني على التوصل إلى هذا الحل مع البطريرك الماروني نصرالله صفير من خلال طرح مسودة تعديلات للدستور اللبناني تؤمن المساواة في التمثيل بين الطوائف والصلاحيات. بناء على هذه المسودات والنصوص ذهب في آخر سبتمبر 1989 النواب اللبنانيون إلى الطائف في السعودية للبحث في التعديلات بعد وساطات قام بها الموفد الأخضر الإبراهيمي باسم اللجنة العربية الثلاثية التي كانت ترعى عملية التوصل إلى حل في لبنان.
لعب رئيس مجلس النواب دوراً رئيساً في التوصل إلى هذا الاتفاق وتذليل الاعتراضات وكان حاضراً بقوة أيضاً وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل و(الرئيس) رفيق الحريري كممثل أيضاً للسعودية راعية الاجتماع، والاتفاق الذي تم بنتيجته انتخاب النائب رينيه معوض رئيساً للجمهورية في مطار القليعات شمال لبنان في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. وكان الرئيس الحسيني اللاعب الأساس في نقل النواب وجمعهم وإدارة اللعبة الانتخابية خصوصاً أنه كان يراهن على دور الرئيس الجديد في إنجاح تجربة الطائف، ولكن اغتياله في 22 نوفمبر شكل صدمة له. إذ كان الاغتيال مقدمة أيضاً للانقلاب على الطائف وعلى دور الرئيس الحسيني.
خارج اللعبة
حتى لا تتوقف عجلة الطائف لبى الحسيني رغبة الرئيس السوري حافظ الأسد في انتخاب النائب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية. ولكن الانقلاب السوري على الاتفاق كان يشمل استكمال الانقلاب على من صنعه أيضاً. بعدما كانت الانتخابات النياببة مقررة في ربيع عام 1994 أتت تعليمات من دمشق لتقليص ولاية المجلس النيابي وإجراء الانتخابات في ربيع عام 1992 في ظل مقاطعة مسيحية رعاها البطريرك صفير ولم يماشها الحسيني فدفع الثمن من خلال خسارته مرجعيته النيابية في منطقته قبل أن يخسر رئاسة مجلس النواب لمصلحة الرئيس نبيه بري الذي أعطته دمشق الأفضلية على مستوى التمثيل الشيعي وأعطت حزب الله الدور الرئيس في اللعبة الأمنية ليكون وحده من يحتفظ بسلاحه، وليشكل لاحقاً مع حركة أمل ثنائياً شيعياً يحتكر التمثيل النيابي والوزاري والديني.
بقي حسين الحسيني نائباً في مجلس النواب حتى عام 2008 ولكنه بقي وحيداً من دون أن ينتمي إلى كتلة نيابية أو أن تكون له مثل هذه الكتلة. في 12 أغسطس 2008 اختار أن يخرج نهائياً من مجلس النواب فقدم استقالته وأدار ظهره ومشى، ولكنه ظل بمثابة الحارس على محاضر اتفاق الطائف وعلى مسيرة سياسية امتدت منذ عام 1972 وانتهت بوفاته وبإعلان الحداد ثلاثة أيام عليه في لبنان كوجه من وجوه تاريخ البلاد التي انطوت.