ربما لم يسمع القارئ العربي عن "البالاردية"، لأن حظ الروائي البريطاني جيمس غراهام بالارد من الترجمة العربية يكاد يكون معدوماً، وقد يرجع هذا إلى طبيعة أعماله التي تنتمي إلى الخيال العلمي، أحد الفروع المهملة في شجرة الإبداع الكتابي عربياً، لكن البالاردية يمكنك إدراجها إلى جانب الكافكاوية والبورخسية والبروستية والجويسية، والتي حددها قاموس كولينز الإنجليزي على أنها "تشبه أو توحي بالظروف الموصوفة في روايات بالارد وقصصه، لا سيما العوالم الديستوبية الحديثة، والمناظر الطبيعية المقبضة من صنع الإنسان والتأثيرات النفسية للتطورات التكنولوجية أو الاجتماعية أو البيئية"، بينما يصف مدخل قاموس أكسفورد للسيرة الوطنية أعمال بالارد بأنها مشغولة بالحب والموت ووسائل الإعلام والتقنيات الناشئة، تلك السمات هي الأكثر اتضاحاً في قصصه القصيرة التي تحتل الصدارة في تجربته، حتى إن معظم رواياته وجدت بذورها الأولى في تلك القصص بكل ما تفجره من عوالم فنتازية لا تقع في نطاق المستقبل كما اعتدنا من هذا اللون من الإبداع، بل في نوع من الحاضر الرؤيوي، بحسب شرح صاحبها الذي أدخل الخيال العلمي في أرض الواقع كما لم يفعل غيره ممن انطلقوا في غمار تلك التجربة، وهو ما وصفه أميس، قائلاً "يبدو أنه يخاطب جزءاً مختلفاً -مهملاً- من دماغ القارئ".
ولئن عرف بالارد بصفته روائياً عالمياً رائداً خصوصاً في تيار "الموجة الجديدة" لرواية الخيال - علمية والرواية الديستوبية، وحظيت روايات له مثل "إمبراطورية الشمس" و"ارتفاع شاهق" و"معرض الفظائع" برواج ونجاح عالميين، فهو عرف أيضاً وكثيراً بكونه قاصاً رائداً ومتفرداً بعوالمه السردية المتعددة.
عالم القصص القصيرة
لم يعرف بالارد كروائي وقاص إلا نادراً جداً في العالم العربي، وظل غريباً كقاص رائد، عن القارئ العربي، لكن الشاعر والمترجم سامر أبوهواش شاء أن يقوم بما يشبه المغامرة في ترجمة أعمال بالارد القصصية الكاملة في أربعة مجلدات صدرت معاً عن دار المتوسط في ميلانو ودار كلمة في أبوظبي. وافترضت ترجمة هذه الأعمال جهداً كبيراً وربما "شاقاً" لفرادتها الأسلوبية واللغوية ومخزوناتها الشاملة وانتمائها إلى عالم متعدد الهويات والشواغل، لكن أبوهواش الشاعر المتمرس في الترجمة، وصاحب الخبرة في التنقل بين اللغتين، الإنجليزية والعربية، والملم بأسرار اللغة الإنجليزية وتراكيبها، تمكن من تذليل الصعوبات والعوائق ليخرج بترجمة عربية متينة وسلسة، أمينة وإبداعية في وقت واحد.
بدأ بالارد كتابة القصص القصيرة في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي خلال عمله في مجلة خيال علمي. وعلى مدى خمسة عقود تدفقت مجموعاته القصصية ومنها "جواز سفر إلى الأبدية" و"كابوس رباعي الأبعاد" و"منطقة الكارثة"، ونشرت "أفضل قصص بالارد" في عامي 1977، 1978 في كل من المملكة المتحدة وأميركا بالعنوان السابق، لكن أكثر ما أثار الجدل هو مجموعته "معرض الفظائع"، إذ تضمنت قصصاً في غاية الجرأة، واحدة منها بعنوان "لماذا أرغب في مضاجعة رونالد ريغان"، وهو ما جعل بيل بتلر، بائع كتب في برايتون، يتعرض للمحاكمة بموجب قوانين الفحش في المملكة المتحدة لبيعه المجموعة.
لم تصدر الأعمال القصصية الكاملة بالفعل لبالارد في مجلد واحد قبل عام 2009، على رغم محاولات سابقة لم تكن مكتملة منذ صدور أول مجلد يحمل هذا العنوان في 2001. أما المجلد الجديد فيتضمن 98 قصة، حصيلة خمسة عقود من التنقيب وإعمال الخيال، وقد قام بالارد بترتيب القصص بنفسه قبل وفاته في العام نفسه بمرض السرطان، بما يضمن للقارئ تتبع تطورات مخيلة كمخيلة بالارد بشطحاتها الواسعة عبر مراحله المختلفة. وهو ما أصبح الآن، بمغامرة جريئة من الشاعر والمترجم سامر أبوهواش في متناول القارئ العربي، بعد صدور الأعمال القصصية الكاملة لبالارد في أربعة مجلدات عن منشورات المتوسط ومشروع كلمة في أبوظبي.
مفهوم جديد
في مقدمته يدرك أبوهواش الهوة الواسعة بين مفهومنا عن الخيال العلمي ومفهوم الغرب عنه، وما ترتب عليه من ضعف علاقة المجتمعات العربية بأدب الخيال العلمي، والتي تكاد تقتصر على ما ورثناه من قصص شعبية تراثية. يصف أبوهواش انطلاقه في تلك التجربة بالمغامرة على النحو الآتي: "لم يسبق لي ترجمة شيء من هذا الأدب الذي أكن له الكثير من التقدير والشغف الشخصيين، ولأنني كنت أعرف منذ قرار الشروع في هذا العمل، أنني سأواجه تحديات جمة، خصوصاً في ما يتعلق بوصف العوالم المستقبلية لبالارد، أو عوالم الحاضر/ المستقبل التي يصفها، لكن الإغراء أيضاً كان كبيراً".
يجمع الكتاب بأجزائه الأربعة جميع القصص القصيرة التي كتبها بالارد بين عامي 1956 و1990، ما خلا عدداً قليلاً من القصص (زهاء خمس قصص) نشرت في صحف ومجلات، لكن الكاتب الذي أشرف على تحرير هذا المجلد بنفسه، لم يضمنها مجموعاته القصصية المتفرقة مثلما أسقطها من هذه الأعمال القصصية الكاملة، كما يقول أبوهواش.
في مدينة شنغهاي النابضة بالبشر والألوان والحدائق الأثرية، ولد الكاتب البريطاني جيمس غراهام بالارد عام 1930 لعائلة ثرية لم يخطر ببالها يوماً الاختلاط بالمجتمع الصيني، إذ اقتصرت دائرة المعارف والعلاقات على أمثالهم من الغربيين الذين تمتعوا بميزات هائلة تحت الهيمنة الأجنبية. عاشت العائلة حياتها على النمط الأميركي واتخذت من السكان الأصليين خدماً لها، بالتالي لم يجر على لسان الطفل جيمي القابض على هويته الإنجليزية بشراسة كلمة واحدة من اللغة الصينية، كما لم يتناول أول وجبة صينية إلا في بريطانيا، بعد فترة طويلة من رحيله قسراً أثناء الحرب العالمية الثانية واجتياح اليابان الصين. وكان من ضمن تبعات الاجتياح عيش جيمس في معسكر الاعتقال لمدة عامين، أكل فيها أطباقاً من الأرز كانت تحفل بالسوس. غير أن الجانب المشرق في شخصيته، انتصر للتجربة وقد أتاحت له قرباً حميمياً من والديه للمرة الأولى في حياته "كنت أنام وآكل وأقرأ وأرتدي ملابسي على بعد بضعة أقدام منهما في الغرفة الصغيرة نفسها، مثل العائلات الصينية الفقيرة التي شعرت بأسف شديد تجاهها في شنغهاي".
يوم غابت شمس بريطانيا
على قدر تنوع مظاهر العنف التي التقطتها عينا الطفل الذاهلتان، كأن تصطدم دراجته في مرورها بالجثث الملقاة في شوارع شنغهاي، اتضح له لاحقاً أن العنف المرئي هو الأكثر احتمالاً لدى مقارنته بمثيله المستتر في طيات مجتمعه البريطاني العريق. وكشخص ناضج، راح ينقب عميقاً في أغوار الشخصية الإنجليزية وفي الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ويعود بقدر لا بأس به من الحيرة والارتباك والتشوش يضاف إلى رصيده السابق، باعتبار أن تعرض طفل في سنه لفظائع الحرب قد يفسر الطبيعة المروعة والعنيفة لكثير من رواياته.
لا غرابة إذاً لو فرضت بريطانيا أجواءها على كل أعماله، حتى لو تعمد الانطلاق بخياله الجامح إلى بقاع بعيدة، من الشقق في كاليفورنيا إلى "كان" الفرنسية، وحتى لو هبط بشخصياته فوق أرض القمر أو جعلها تدور مع الكواكب السيارة. يقول الكاتب البريطاني آدم ثيرلويل في حديثه عن عالمية المكان في قصصه "لكن الموقع الحقيقي هو دوماً بريطانيا على نحو ما".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ظهر اسم بالارد في الستينيات مرتبطاً بـ"الموجة الجديدة" للخيال العلمي. في تلك الفترة انشغلت أعماله بالكوارث الطبيعية كالفيضانات والجفاف كما في "العالم الغارق" (1962)، لكن حساسيته المفرطة تجاه العالم هي ما ميزه منذ بواكير أعماله، فتمكن من تحويل "الجمال الرائق للندن تحت الماء إلى غابة من الكتل التكعيبية تشبه مجاري آسنة". تلك الحساسية قدر لها أن تتطور في مرحلته التجريبية في السبعينيات تحت تأثير الكاتب ويليام بوروز، كما ظهر في "تصادم" و"معرض الفظائع" و"ارتفاع شاهق" التي قد تكون أفضل رواياته. غير أن الاعتراف والشهرة الواسعة لم يصلا إليه إلا بعد صدور روايته الحربية "إمبراطورية الشمس" عام 1984، وهي سيرة شبه ذاتية تؤرخ للفترة التي عاشها في شنغهاي أثناء الاحتلال الياباني، وإن شابها بعض التحريف كتغييب دور والديه عمداً من المشهد، لمنح السرد أبعاداً أكثر تراجيدية وقد نجح بالفعل. كتب عنها الروائي مارتن أميس بأنها "تقدم شكلاً ملموساً لما أسهم في تشكيله"، لأن من الصعب أن يمر الإنسان بتجربة الحرب من دون أن تتغير تصوراته عن العالم إلى الأبد.
تقلبات مشهدية
لعل النجاح الساحق للنزعة شبه الذاتية أدى إلى فيضان مخزون الذاكرة، هو ما أغرى بالارد باستكمال فترة شبابه حتى منتصف العمر في كتابه "لطف المرأة" عام 1991. وفي "معجزات الحياة" 2008، نراه حريصاً في نهاية حياته على سد الثغرات التي تركها فاغرة في العملين السابقين، موفراً سيرة ذاتية حقيقية محفوفة بالألغام والتفاصيل المروعة، تنتصر لوالديه اللذين اقتطعا من العملين السابقين، في مشهدية حافلة بالتقلبات، ولكن من دون رتوش عاطفية أو شعور بالمرارة كما يفعل من ينظر إلى الحياة من عل.
يقول في حوار معه عام 2002 "كثيراً ما قال لي الأشخاص الذين قرأوا (إمبراطورية الشمس) يا لها من حياة غريبة، كم هي غير عادية، وكنت أرد عليهم، في الواقع، أن الحياة التي عشتها في شنغهاي أثناء الحرب العالمية الثانية وقبلها، ليست بغريبة، فمعظم الناس على كوكبنا اليوم في هذا القرن تحديداً، عاشوا حياة أقرب إلى الظروف التي مررت بها... حروب أهلية ومجاعات، فيضانات، جفاف، فقر، مرض، إنها معايير التجربة البشرية".
مع نضج كتابات بالارد تبلورت تلك الحساسية الفريدة، وظهر افتتانه بالهندسة المعمارية الحديثة كالحدائق الاصطناعية والطرق السريعة واللوحات الإعلانية وأحواض السباحة المجففة وتطور المساكن والمطارات، وقد وصف هذه الأماكن بأنها نوع من القطع الجائر للمناظر الطبيعية، يؤثر في مشاعرنا ويقيد جموح خيالنا، لهذا لم يكن بالارد يثق في كل من التكنولوجيا والطبيعة البشرية!
أحداث متدفقة
كان بالارد بلا جدال، الكاتب الأكثر تأثيراً بين معاصريه، معظم قصصه ورواياته التقفتها السينما وكيفتها الدراما، ومنها "إمبراطورية الشمس" للمخرج ستيفن سبيليرغ 1987، و"اصطدام" 1997 لديفيد كروننبيرغ، الفيلم الذي أثار جدلاً واسعاً أدى إلى حظره في بريطانيا. وكذلك رواية "ارتفاع شاهق" التي قدمت بعنوان "ناطحة سحاب" 2015 للمخرج بين ويتلي، و"معرض الفظائع" من إخراج جوناثان فيس سنة 2000.
لكن تأثير بالارد امتد أيضاً إلى الموسيقى الشعبية، فراح نجوم الغناء يستلهمون كلماته وعناوينه، ومنها ألبوم "ميتامتك" لجون فوكس، وبعض الأغاني لجوي ديفيغن، أشهرها "معرض الفظائع". كذلك اقتبس منه الرسامون في لوحاتهم ومنهم إدوارد روشا، كما جرت كلماته على ألسنة كثير من الممثلين مثل مادونا، وأقر الفيلسوف جون غراي بأن بالارد كان له تأثير كبير في أفكاره. وهو ما يحيلنا إلى تحديد بالارد الفارق بين كتاباته وكتابات معاصريه "إن السواد الأعظم مما لا يزال يكتب، هو استعادي بطبيعته... يفسر الحاضر بلغة الماضي، ويستخدم التقنيات السردية، عبر السرد الخطي الذي تظهر فيه الأحداث إلى هذا الحد أو ذاك، من خلال التسلسل الزمني الذي يتوافق معها. أما حين يلتفت المرء إلى الحاضر، ما أشعر أنني قمت به في القصص التي كتبتها هو إعادة اكتشاف الحاضر بنفسي، فأعتقد أن الكاتب يحتاج إلى تقنية غير متصلة زمنياً، ببساطة، لأن حياتنا اليوم لا تعاش وفقاً للنمط الخطي المتصل. فهي أميل إلى الكم أكثر من السابق، دفق من الأحداث العشوائية التي تقع".