هي أوبرا لم توجد بالفعل أبداً، لكن كاتب نصها وأشعارها الذي لم ينجزها على الإطلاق، ظل طوال حياته يتحدث عنها وكأنه كتبها، بل حتى كأن الموسيقي صديقه فنشنزو بلليني لحنها "لكن ظروفاً معينة حالت دون تقديمها"، في الحقيقة لم يكن دوماً مجنوناً، فهو كان يعرف حق المعرفة حقيقة الأمر، لكنه تعامل مع تلك "الأوبرا" وكأنها حقيقة واقعة لمجرد رغبته في إحياء ذكرى بلليني والتذكير الدائم بارتباطهما الفني الوثيق من خلال ذلك العمل الذي كان في الأساس فكرة عبر عنها بلليني في سهرة بينهما أخبر فيها الكاتب الفرنسي بأمور تفصيلية عما تناهى إلى سمعه خلال زيارة راهنة قام بها إلى جزيرة صقلية التي له جذور فيها.
خلال تلك السهرة التي دار فيها الحديث في البداية عن زيارة يزمع صاحب "الفرسان الثلاثة" و"الكونت دي مونت كريستو" القيام بها إلى جزيرة صقلية ذات التاريخ المضطرب والشخصية الاستثنائية والحياة الدرامية"، انتقل الحديث إلى تلك الشخصية التي تكاد تكون أسطورية مع أنها شخصية حقيقية عاشت في صقلية بالفعل، "... ولا شك أن من شأن حكاية تلك الشخصية أن تكون حكاية لأوبرا بطولية فجائعية من النوع الذي تحب أن تكتب نصه يا صديقي" قال بلليني هذه العبارات وراح يمتدح أوبرا "الأنقياء" التي كتب دوما نصوصها وكانت قد قدمت بنجاح كبير قبل أيام. والحقيقة أن ألكسندر دوما الذي لم يكن يتوقف عن البحث عن مواضيع درامية، بل فجائعية يخوض بها أكثر وأكثر فناً استهواه كثيراً إلى جانب فن المسرح الرواية وعديد من أصناف الإبداع الأخرى، أحب خوض التجربة التي نصحه بها بلليني واعداً الموسيقي الكبير بأنه سيوافيه بالنص المنشود حال عودته من الجزيرة...
ورحل بلليني
كنا حينذاك في بدايات عام 1835 ولم يكن دوما يعلم بالطبع أن إقامته في صقلية سوف تطول، كما لم يكن يعرف أنه حين سيعود منها سيكون بلليني قد رحل من عالمنا، صحيح أنه عاد حاملاً ما تيسر له كتابته في النص الشعري للعمل الأوبرالي المتفق عليه، لكنه كان قد بدل رأيه منذ سمع بموت صديقه فقرر ألا يتحول نصه إلى عمل أوبرالي طالما أن صاحب الفكرة لم يعد موجوداً، وهكذا نقل النص من الشعر المغنى إلى نص يتراوح بين السيرة والرواية، لكنه لم يوفق فيه إذ بدا واضحاً أنه يشتغل عليه دون حماسة، وهكذا وئد مشروع أوبرا كان من شأنه أن يطلع عملاً عظيماً بالتأكيد من بين يدي الموسيقي الذي كان قد صارح صديقه في سهرتهما القديمة بأنه يحلم بتلك الأوبرا منذ زمن بعيد، بل إنه ألف بالفعل مقاطع موسيقية لها، بيد أن أحداً لم يعثر على النوطات الأساسية وانطوت حكاية بلليني مع "باسكوالي برونو" هنا، ولكن حكاية باسكوالي نفسه لم تنطو طبعاً بموت بلليني، ولا بتوقف دوما عن الاشتغال على الأوبرا نتيجة لذلك، فالحقيقة أن باسكوالي وحكايته التي كتبها دوما على أية حال كنص نثري، كانت موجودة قبل سهرة بلليني – دوما ولسوف تظل موجودة بعد كل ما حدث. وتحديداً في ذاكرة أهل صقلية التي تحفظ حكايات كثيرة تمكنت تلك الذاكرة من أن تختزلها وتعدلها تبعاً للظروف.
بين العقل والعاطفة
أما الحكاية التي نقلها بلليني لدوما فراحت منذ التقطها هذا الأخير تثبت في تلك الصيغة التي تعززت لديه من خلال اشتغاله عليها وهو في الجزيرة سائلاً معارفه مزيداً من التفاصيل مستلهماً حكايات قد تبدو متناقضة لكنها تصب في مكان أساسي يتعلق بالحب والغيرة والندم والبطولة في بوتقة واحدة، وتدور الأحداث بالإجماع في قرية صغيرة هي باوسو التي زارها دوما بالفعل واستمع إلى العجائز من سكانها الذين ربطوا الحكاية بالقلعة الشهيرة التي تطل منها القرية على مدينة مسينا، وهناك أدهشه المكان كما أذهلته الحكاية وقد راح السكان يروونها له على طريقتهم هم الذين باتوا يتخذون من زعيم اللصوص وقاطع الطرق باسكوالي بطلاً تسيّر حكايته حياتهم.
والحقيقة أن ثمة مشهدين من مشاهد الحكاية لفتا نظر دوما حقاً إذ وجدهما يتناسبان تماماً مع فهمه للحب والبطولة، المشهد الأول الذي يتعلق بحكاية الصبية الحسناء تيريزا التي تعمل وصيفة لدى سيدة المكان كونتيسة كاستلنوفو وكانت موعودة منذ صغرها لباسكوالي برونو الفتى المعروف بشجاعته وأخلاقه، لكن تيريزا التي وازنت الأمور بعقلانية مطلقة فضلت على "خطيبها" القديم هذا، الوصيف في قصر نائب الملك في المنطقة المدعو غايتانو الذي بدا لها أكثر منطقياً هي التي آثرت إرضاء عقلها على إرضاء قلبها، وعلى هذا نجدنا وسط الاحتفال بزفاف تيريزا على غايتانو وكاد كل شيء يجري على ما يرام لولا حضور باسكواليين العرس مطالباً بحقه في أن تكون له الرقصة الأولى مع العروس، لكن غايتانو يتصدى له قائلاً أن الرقصة الأولى يجب أن تكون للعريس، وتلاسن الرجلان لينتهي الأمر بطعن باسكوالينو لغايتانو طعنة قاتلة ما قلب العرس مأتماً فيضطر باسكوالينو إلى الهرب نحو الجبال حيث تبدأ حياته الجديدة كخارج عن القانون، بينما يترك وراءه تيريزا وقد فقدت عقلها إزاء هول ما حصل وحظها التعيس.
الحب لا ينسى
وإذ تجري الأمور بالنسبة إلى الحكاية ككل كما تجري مثل تلك الأمور عادة ويصبح باسكوالينو بطلاً شعبياً وزعيماً يحاول أن ينسى حياته المنصرمة إنما دون أن يفلح في نسيان الجانب العاطفي منها، فهو بعد كل شيء كان مغرماً حقاً بتيريزا معتبراً إياها امرأته وحبيبته.
مهما يكن من أمر هنا، قد يكون منطقياً أن نتبع ما يتوصل إليه الكاتب الفرنسي المعاصر دومنيك فرنانديز، عضو الأكاديمية الفرنسية الذي يصل إلى تفسير سياسي للحكاية حتى وإن كان يؤكد لنا أنها حكاية حدثت حقاً، بل كثيراً ما يحدث ما يتشابه معها تماماً في صقلية، ففي نهاية الأمر لا شك بالنسبة إلى فرنانديز أن ديمومة وجود هذه الحكاية بالذات في تاريخ صقلية تعود إلى الإحتلالات العديدة والمتعاقبة التي غزتها منذ أيام الإغريق حتى أيام الفرنسيين مروراً بالرومان والبيزنطيين والعرب... وهي احتلالات لم تقف الجزيرة موقفاً سلبياً من أي منها، بل كانت حالها دائماً حال تيريزا: توزع فؤادها بين "خاطبيها" ما جعل مأساتها الأساسية تكمن في ذلك التوزع حتى وإن لم تحكم دائماً واحداً من اثنين: عقلها أو قلبها، وهذا ما يقودنا إلى المشهد الثاني الذي من الواضح أنه أثار حماسة الكسندر دوما وكان من شأنه أن يفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى الموسيقي بلليني: المشهد الذي يستعيد فيه باسكوالينو وتيريزا لقاءً أخيراً بينهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هي أم شُبّهت لهم
فباسكوالينو كان قد أضحى قاطع طريق، ولكنه لص نزيه بات بطلاً بعد ثلاث سنوات من مقتل غايتانو وفراره هو، لكن السلطات والإقطاعيين راحوا جميعاً يطاردونه للقبض عليه وتسليمه إلى الجلادين، ولسوف ينتهي الأمر بهم إلى التمكن من ذلك في وقت كانت تيريزا قد فقدت عقلها تماماً، ولا شك أن ذلك المصير البائس المزدوج يتساوق مع مصير الجزيرة نفسها ضمن المنطق الفجائعي الذي هو منطق حكايات صقلية كلها، حيث لا يمكن للبطل في نهاية الأمر إلا أن يخرج خاسراً.
وبهذا ها هي السلطات تحكم على "البطل" بالموت، وتحديداً في ساحة أعدت لذلك في جوار المأوى الذي أودعت فيه تيريزا، وعند الفجر وفيما ينقل المحكوم إلى مكان الإعدام يلاحظ وجود تابوت سجي فيه جثمان ما، يحاول أن يقترب من التابوت بأشد ما في مقدوره، لكن يعجز وإن كان يتكهن أن الجثمان المسجى داخله ليس سوى جثمان حبيبته التي شاءت الأقدار أن يرتبط مصيرها بمصيره في ساعتهما الأخيرة، هي ميتة وهو في طريقه إلى الموت في الساعة نفسها.
الحقيقة أن عجز باسكوالينو عن التأكد من أن جثمان التابوت هو جثمان تيريزا يكاد يكون متطابقاً مع رغبة الكسندر دوما (1802 – 1870) النهائية في عدم تحويل تلك الحكاية إلى أوبرا مكتفياً بتحويلها إلى سيرة لبطل يبجله كل صقلي ويتغنون بسيرته، بل يكتبون الأغاني من وحيها كما من وحي حبيبته التي سيصعب أن نعرف ما إذا كانت ماتت معه حقاً أو "شُبّهت لهم"...