أدى تزايد عدد السكان إلى زيادة الحاجة إلى البنية التحتية العامة والمباني السكنية منها وغير السكنية، بما في ذلك المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية وغيرها، الأمر الذي أدى بدوره إلى ارتفاع الطلب على الأسمنت في جميع أنحاء العالم، وعلى رغم أن الإحصاءات الأخيرة تؤكد انخفاض الطلب على الأسمنت خلال جائحة كورونا بنسبة 3.6 في المئة عام 2020 مقارنة مع عام 2019، إلا أن الأسمنت مازال المسهم الرئيس في تغير المناخ.
الأسمنت والبناء
يمكن إرجاع كلمة أسمنت إلى المصطلح الروماني القديم opus caementicium ويعني شظايا الصخور المتكسرة، وكان يستخدم لوصف البناء الذي يشبه الخرسانة الحديثة، ثم أشير إليه لاحقاً بأسماء مثل (cementum, cimentum, cäment, cement).
والأسمنت عبارة عن مادة كيماوية رابطة على شكل مسحوق جاف ناعم، ينتج عند مزجه مع الركام الناعم ملاطاً خاصاً، وعند خلطه مع الركام الخشن مثل الحصى والرمل والماء ينتج ما يسمى بالخرسانة (البيتون)، ويعد من المواد الأكثر استخداماً واستهلاكاً بعد الماء مباشرة.
ويستعمل بشكل أساس في البناء، إذ يعمل على تثبيت والتصاق المواد الأخرى وربطها ببعضها بعضاً ثم تصلبها، وعادة ما يكون الأسمنت المستخدم في البناء غير عضوي، إذ يكون أساسه الجير أو سيليكات الكالسيوم.
ويطلق عليه وصف الهيدروليكي (مثل الأسمنت البورتلاندي) أو غير الهيدروليكي (الأقل شيوعاً)، اعتماداً على قدرته على التماسك بوجود الماء. فالهيدروليكي يتصلب بالماء من خلال تفاعل كيماوي بين المكونات الجافة والماء، أما غير الهيدروليكي فيتماسك عند تفاعله مع غاز ثاني أكسيد الكربون في الهواء.
صناعة الأسمنت
ويستعمل في إنتاج الأسمنت خليط من الجير والسيليكا (ثنائي أكسيد السيليكون) والألومينا (أكسيد الألومنيوم) ومكونات معدنية أخرى، تطحن معاً ثم تسخن على درجات حرارة عالية تصل إلى حوالى 2700 درجة فهرنهايت في أفران دوارة أسطوانية ضخمة مبطنة بقرميد خاص، للحصول على الكلنكر الأسمنتي (منتج وسيط)، الذي يطحن بعد تبريده ويخلط بكميات قليلة من الجبس والحجر الجيري.
وتعد عمليات الاحتراق الكيماوي والحراري المتضمنة إنتاج الأسمنت، مصدراً كبيراً لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
إنتاج حتمي
يمثل النشاط الصناعي نحو 31 في المئة من إنتاج الغازات الدفيئة، إذ تنتج صناعة الأسمنت لوحدها ما يقارب ثلث قيمة هذا النشاط، وهي قيمة مرتفعة جداً إذا ما شكلتها صناعة واحدة، والسبب في هذا الارتفاع أن عملية إنتاج الأسمنت مرتبطة بشكل حتمي بإنتاج ثاني أكسيد الكربون، إذ يتطلب إنتاج الكالسيوم المستخدم في صناعة الأسمنت حرق الحجر الجيري، الذي يصدر أثناء حرقة ثاني أكسيد الكربون.
وبحسب إحصاءات شركة "ستاتيستا" (Statista) الألمانية المتخصصة في بيانات السوق، يستخدم الأسمنت كعامل ربط رئيس في الخرسانة والملاط على نطاق واسع في صناعة البناء في الولايات المتحدة، سواء في مشاريع المباني السكنية أو غير السكنية منها والأشغال العامة، وبدءاً من عام 2021، كانت هناك 98 منشأة لإنتاج الأسمنت في جميع أنحاء البلاد، وبلغ إنتاج الأسمنت في الولايات المتحدة وحدها حوالى 92 مليون طن متري عام 2021.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما تؤكد الإحصاءات أن إنتاج الأسمنت العالمي يصل لأكثر من أربعة مليارات طن في العام، وهذا الرقم يمثل ما يقارب ثمانية في المئة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية.
فالمواد الأولية والوقود والإضافات الكيماوية المستخدمة في صناعة الأسمنت، كلها تولد قدراً كبيراً من الانبعاثات مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكاسيد النيتروجين وأكسيد الكبريت وغيرها، التي تسهم جميعها في زيادة الاحتباس الحراري وانخفاض جودة الهواء، مما يؤثر في صحة الإنسان والغلاف الجوي، بحسب الخبراء.
لذا نحتاج إلى طرق جديدة مبتكرة في البناء واستخدام مواد بناء أخرى غير الأسمنت، أو ربما إيجاد طرق أخرى لإنتاج الأسمنت نفسه، ومن هنا سنعود عبر الزمن 2000 سنة للوراء لكشف سر قوة المنشآت القديمة وديمومتها.
الأسمنت "البوتسولاني"
استبدل "الأسمنت البوتسولاني" ( Pozzolanic) بالأسمنت البورتلاندي منذ ما يقرب من 200 عام نظراً لسرعة تماسك البورتلاندي، لكن الأكيد أن البوتسولاني أقوى وأكثر متانة، إذ لا تزال القنوات الرومانية التي بنيت منذ أكثر من 2000 عام سليمة وقيد التشغيل حتى الآن، ولا تزال البانثيون في روما أكبر قبة في العالم مصنوعة من الخرسانة غير المسلحة، الأمر الذي جذب الاهتمام خلال السنوات الماضية، إلى أن توصلت حديثاً مجموعة دولية من الباحثين من معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا، إلى تفسير مبني على مجموعة استنتاجات من خلال التحليل المجهري لعينة من الخرسانة الرومانية على جدار مدينة بريفيرنوم القديمة باستخدام تقنيات الأشعة السينية.
كشفت التحليلات عن قدرة هذه الهياكل على "التعافي الذاتي" self-healing، على حد قول الباحثين، وسلط هذا الضوء على تركيبة الخرسانة الرومانية، المؤلفة من الحجر البركاني والركام الخشن والملاط الرابط لهما، الذي كان يشكل من الجير ومادة البوتسولانا pozzolana (مادة موجودة في الرماد البركاني، سميت على اسم مدينة بوتسوولي الإيطالية)، فعندما كان الهيكل يتشقق ويخترقه الماء، كان يتبع ذلك تفاعل كيماوي ينتج منه محلول من الكالسيوم المشبع الذي يتبلور على شكل كربونات الكالسيوم ويملأ الشقوق بسرعة، كما يتفاعل مع مادة البوتسولانا ويزيد من قوتها.
ووصف الباحثون هذا التفاعل بأنه "عملية كيماوية على شكل شفاء ذاتي يحدث بشكل عفوي وإلى أجل غير مسمى"، ويحدث بسبب طريقة تصنيع هذه الهياكل، إذ أشاروا إلى أن الجير الحي (أكسيد الكالسيوم) لم يكن يخلط بالماء قبل إضافته إلى المكونات الأخرى، أي إن الجير الحي كان يخلط بالرماد والركام أولاً، قبل إضافة الماء إليه.
ومع هذه النتائج، يعتزم العلماء استخدام الأساليب هذه نفسها في إنشاء الخرسانة الحديثة بحيث تحمل خصائص "الترميم الذاتي"، وأشاروا إلى أن هذه الطريقة تقلل البصمة الكربونية للأسمنت وتحسن عمر الخرسانة إلى جانب تقليل الحاجة إلى إصلاح شامل، الأمر الذي يسهم في تقليل التأثير البيئي من جهة وتحسين دورة الحياة الاقتصادية للمباني الأسمنتية الحديثة من جهة أخرى.
والجدير ذكره أن الأسمنت الأخضر يطرح اليوم على شكل مبادرة لتقليل التهديدات الناتجة من الانبعاثات، ويقدم كحل مع مجموعة من الميزات، مثل أنه صديق للبيئة وعالي الجودة ويوفر الطاقة، والأهم أنه منخفض البصمة الكربونية، إذ تقل انبعاثات الكربون فيه بنسبة تتجاوز 80 في المئة مقارنة مع الأسمنت البورتلاندي، إضافة إلى كونه أقوى وأطول أمداً، إذ يصنع بطريقة إزالة ثاني أكسيد الكربون (سالب الكربون) باستخدام النفايات الصناعية المهملة مثل خبث الأفران العالية والطين الرخو والجبس.