للوهلة الأولى يخال الباحث عن تأريخ لـ"القسم المهني" أنه أمام مهمة يسيرة سهلة، ولكن سرعان ما تواجهه صعوبات جمة ناتجة من تداخل القسم بمفاهيم دينية وفلسفية وأخلاقية. فهو عملية دقيقة تهدف إلى تأصيل فعل هو بالحقيقة انعكاس لقوى داخلية وميتافيزيقية، ليصح تشبيه القسم أو اليمين بالمرآة للضمير الإنساني ولمنظومة القيم السياسية والفلسفية والاجتماعية. وقد اتخذ القسم مساراً تطورياً، فمن اللغو في الأحاديث والمعاملات اليومية، ارتقى إلى مستوى الفعل المقدس الذي تحوط به بعض الطقوس، فأصبح لصيقاً بالقول الصادق الموثوق، والشهادة البينة أمام القضاء، ومعياراً للشرعية كإمساك رؤساء الجمهورية والوزراء بمهماتهم، كما بات طقساً ضرورياً من أجل الانتساب إلى حقل المهن الحرة. من هنا كان من البديهي اقترانه منذ القدم بما هو سام ومطلق القوة والوجود، فاستمد فاعليته من اقترانه بنية إشهاد الإله والوجود المقدس على صدق وصحة ما يستبطن في ذاته ويعلن أمام الملأ، ويلتزمه في سلوكه اليومي وحياته المهنية.
الشهادة القضائية الأقدم عهداً
تعتبر الشهادة القضائية الأقدم عهداً بين أنواع قسم اليمين التي بدأ باستخدامها الإنسان من أجل إثبات أو نفي أمر ما. فقد تضمن نص العمود الثالث من قوانين أور- نمو، من تشريعات بلاد ما بين النهرين، "لو وقف رجل شاهداً (في دعوى قضائية) وثبت أنه كاذب عليه أن يدفع 15 شيكلاً من الفضة". وفي مادة أخرى لو وقف رجل شاهداً لكنه رفض أن يشهد مع اليمين، عليه أن يدفع ما يماثل المبلغ الوارد في تلك الدعوى". أما قانون حمورابي فقد جاءت المادة 131 "لو اتهم رجل زوجته (بالزنا) من دون أن يضبطها نائمة مع رجل آخر، عليها، أن تقسم على براءتها بحياة إله وهي طليقة وتعود إلى بيتها". وقد حافظت نصوص أصول المحاكمات على مكانة القسم ضمن الإجراءات القضائية.
اليمين والتنظيم المهني
لا يمكن تحديد تاريخ دقيق لتبلور "القسم المهني"، ولكن بالتأكيد يبقى "قسم الطبيب اليوناني أبقراط" هو الأشهر حتى يومنا هذا. فهو يعكس مجموعة القيم السامية الواجب اتباعها من جماعة الأطباء في علاقتهم مع المريض وفي استقامتهم الذاتية. وجاء فيه: "أقسم بأبولو الطبيب، واسكلابيوس، وهيجا وبانيسيا، وأشهد جميع الآلهة على أني سأحفظ عهدي التالي بحسب إمكاني وحكمي. أن أعز من علمني هذا الفن كمعزتي لوالدي، وأشركه معاشي، وإن احتاج فأقاسمه مالي وأعتبر ذريته كإخوتي، أعلمهم هذا الفن من دون أجر أو شرط. سأبوح لأولادي وأولاد من علمني وجميع التلاميذ الذي قيدوا أنفسهم ووافقوا على قواعد المهنة، لهؤلاء من دون غيرهم - نواميسها ووصاياها". كما تضمن القسم جانباً اجتماعياً عن احترام حرمة المنزل، وعدم إفشاء الأسرار المتعلقة بأسرار الناس.
ابن سينا والرازي
تحول هذا القسم إلى أنموذج صالح لكل زمان ومكان، واستلهمت منه نقابات الأطباء قيمته، باعتبار الطب رسالة. وفي هذا السياق الذي يتصل بأخلاق الطبيب، لا بد من الإشارة إلى إسهامات الرازي وابن سينا. فقد كان الرازي مهتماً بالجانب الأخلاقي في الطب، وقد وضع رسالته "أخلاق الطبيب" إذ شبه العلاقة بين الطبيب والمريض بالعقد الأخلاقي، وقوله "فقد أحسن الظن بك من اختصك لنفسه واعتمد عليك من جعلك أمين روحه". كما حرص على حض الطبيب إلى "المواظبة على تصفح الكتب"، وأنه "ينبغي للطبيب أن يكون رفيقاً بالناس، حافظاً لغيبهم، كتوماً لأسرارهم". من جهته، اعتبر ابن سينا أن على الطبيب أن يتحلى بأخلاق الفلاسفة، لأنه لا يمكن فصل الطب عن الفلسفة، والسياسة عن الأخلاق، إذ تعتبر الفلسفة علاجاً للروح، بينما لا يمكن الاستغناء عن الطب في حياتنا.
فتحت اليمين المهنية الباب أمام مباحث أخرى، منها ما يتصل بالأخلاق المهنية للعلماء وبروز "البيوتيقا" (البيو تعني الحياة، وأتيقا الأخلاق) أي أخلاقيات الحياة التي تربط الإنسان والبيئة وجودياً وأخلاقياً في ظل اتساع إمكانات العلم التجريبي الحديث. والثاني يتعلق بتنظيم المهنة الطبية، إضافة إلى الآداب الطبية والموجبات المهنية للأطباء في معرض ممارسة رسالتهم في الحفاظ على صحة الإنسان، وصولاً إلى ترتيب المسؤولية عن الأخطاء المرتكبة التي تأخذ في الاعتبار البعد التقني انطلاقاً من اعتبار موجب الطبيب هو "بذل عناية وتأمين أفضل معالجة مناسبة للمريض واستمراريتها" و"ليس موجب نتيجة لأن تحقيق الغاية النهائية وشفاء المريض ليست بيد الطبيب".
اليمين الدستورية
مع تبلور الأنظمة الدستورية، ولج القسم إلى داخل الدساتير والقوانين، وأصبح "خطاب القسم أو حلف اليمين الدستورية" محطة أساسية في معرض مباشرة رئيس الدولة أو الملك، ممارسة الصلاحية واستلام المنصب الأعلى في هرم السلطة السياسية. وفي النموذج اللبناني، فإن رئيس الجمهورية هو وحده من يؤدي القسم من دون سائر الرؤساء والوزراء في البلاد، وذلك بموجب المادة 50 من الدستور، ويحلف بيمين الإخلاص للأمة والدستور. إذ يقول: "أحلف بالله العظيم إني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه".
في المقابل فإن نطاق اليمين الدستورية يتسع في ظل أنظمة سياسية أخرى، حيث تحلف اليمين مكونات السلطة كافة بما فيها رئيسا السلطة التشريعية والتنفيذية والوزراء.
قسم المهن الحرة والقضاء
كما أدى تنظيم المهن الحرة والسلطة القضائية إلى ترسيخ محورية "القسم"، بما ترافقه من إجراءات شكلية وطقوس احتفالية مرافقة. في لبنان، وبحسب مرسوم رقم 906 تاريخ 28/9/1934، على القضاة الذين ينتظمون في سلك القضاء أن يحلفوا قبل مباشرتهم الوظيفة اليمين الآتية: "أقسم بأني أقوم بمهام الوظيفة قياماً حسناً بكل أمانة وبأن أحافظ تمام المحافظة على سر المذاكرات وأن أتصرف من جميع الوجوه تصرف القاضي الشريف الصادق".
أما في ما يتصل بمهنة المحاماة، لا يجوز للمحامي أن يبدأ في ممارسة المحاماة قبل حلف اليمين، ونظمت المادة 10 من قانون تنظيم مهنة المحاماة نص القسم، الذي لا يجوز للمحامي أن يبدأ في ممارسة المحاماة قبل حلفه هذه اليمين. حيث يحلف المحامي عند صدور القرار بتسجيله، سواء في جدول المحامين المتدرجين أو المحامين غير المتدرجين، أمام محكمة الاستئناف المدنية وبحضور النقيب أو من يستناب عنه. كما حددت نص اليمين في ما يأتي: "أقسم بالله العظيم، وبشرفي، أن أحافظ على سر مهنتي، وأن أقوم بأعمالها بأمانة، أن أحافظ على آدابها وتقاليدها، وأن أتقيد بقوانينها وأنظمتها، وألا أقول أو أنشر، مترافعاً كنت أو مستشاراً، ما يخالف الأخلاق والآداب، أو ما يخل بأمن الدولة، وأن أحترم القضاء، وأن أتصرف، في جميع أعمالي تصرفاً يوحي الثقة والاحترام".