تمتلك روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والصين القدرة على منع دولة استبدادية عدوانية من الدرجة الثانية، هي أذربيجان، من الاستمرار في محاصرة بلد بهدف تجويع سكانه البالغ عددهم 120 ألف نسمة. يشكل الحصار جريمة ضد الإنسانية ويخالف عدداً من الاتفاقات، لكن الأذريين أفلتوا من العقاب واستمروا في فرض ذلك الحصار لشهرين حتى الآن، ولا يزال هذا الوضع مستمراً.
وتتمثل منطقة النزاع بممر يمتد من منطقة "ناغورنو قره باغ" غير الساحلية حتى أرمينيا، عبر بلدة "لاشين" المحاطة بالأراضي الأذرية. وتعتبر وصلة حيوية ينتقل عبرها كل يوم 400 طن من السلع الأساسية إلى الأرمن في "قره باغ"، كذلك تفسح المجال أمام حركة المواطنين وطلاب المدارس وسيارات الإسعاف. لا شك في أن كل هذه التنقلات ستكون أسرع جواً لكن الحكومة الأذرية هددت بإسقاط أية طائرة، سواء أكانت تنقل ركاباً أو بضائع، تحاول الهبوط في عاصمة "قره باغ"، وهي مدينة "ستيباناكرت".
وتفصيلاً، يعتبر ذلك الجيب أسيراً لأذربيجان والتاريخ على حد سواء. إذ انتمى بالأساس إلى أرمينيا، ولطالما سكنته غالبية أرمنية عرفت بكنائسها التي تعود إلى أيام المسيحية الأولى، وسجادها الفريد من نوعه.
ثم احتلته روسيا في القرن الـ19. وفي عام 1921 أخطأ ستالين بضم هذا الجيب المسيحي بشكل عشوائي إلى أذربيجان المسلمة، باعتباره محافظة مستقلة فيها. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، طالب سكانه بالاستقلال وخاضوا حرباً لتحقيق مسعاهم.
جاء حصار أذربيجان لمدينة "ستيباناكيرت" شكلاً مصغراً عن حوادث "غرنيكا" [مدينة في إسبانيا دمرها الطيران النازي أثناء الحرب الأهلية في ذلك البلد، قبيل الحرب العالمية الثانية]. إذ انهمرت القذائف والنيران الأذرية على المستشفيات والمدارس وقتلت آلاف المواطنين. أنقذت الطريق المفتوح الذي يمر عبر مدينة "لاشين" الأشخاص الذين يصارعون للبقاء على قيد الحياة ، فأصبحت ممراً إنسانياً يحميه القانون الدولي باعتباره طوق نجاة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتصر الأرمن في عام 1994، وتمتعوا بسلام نسبي حتى عام 2020 حين هاجمتهم أذربيجان، ولقي سبعة آلاف شخص مصرعهم قبل التوصل إلى اتفاق سلام. مثلت روسيا الجهة الضامنة لهذا الاتفاق، وخصصت ألفي عنصر من "حفظة السلام" لحراسة الممر. في المقابل، أثبتت روسيا عجزها أو ربما عدم استعدادها، لفض تجمع لأشخاص يعرفون عن أنفسهم بأنهم ناشطين بيئيين قطعوا الطريق عام منذ 14 ديسمبر (كانون الأول) 2022، بتشجيع من حكومة غالباً ما تحظر الحركات الاحتجاجية وتسجن المعارضين السياسيين.
بالطبع، لا يمت هؤلاء المحتجون بصلة إلى "الناشطين البيئيين". في البداية، تمكنوا من خداع طواقم المحطات التلفزيونية (ومن بينها "بي بي سي"). لكن، سرعان ما كشفت عن هوياتهم وتبين أنهم موظفون حكوميون وجنود سابقون، وبعضهم طلاب يحصلون على درجات أكاديمية لقاء التظاهر بدل المشاركة في المحاضرات الدراسية. ويزعم هؤلاء أنهم معارضون للتنقيب عن الذهب في مناجم "قره باغ"، لكن هدفهم الفعلي ليس إغلاق المناجم بل نقلها إلى سيطرة الأذريين.
كذلك يضع عديد من أولئك المتظاهرين وشوماً تميزهم كأعضاء في حركة "الذئاب الرمادية"، وهي حركة شبابية أذرية تنتمي إلى اتجاه الفاشية الجديدة (الذئب رمز نازي كذلك).
ويشجع الديكتاتور المحلي، إلهام علييف، هؤلاء المتظاهرين ويثني عليهم باعتبارهم "خيرة شبابنا" ويحثهم على الصمود بوجه الروس غير الآبهين أساساً بتفريقهم.
التقى مجلس الأمن في الأمم المتحدة يوم 20 ديسمبر 2022، فطالب أعضاؤه روسيا بتوجيه الأمر لقواتها بإخلاء الممر، وأذربيجان بإبعاد ناشطيها البيئيين المزيفين. لكن شيئاً لم يحدث قبل يوم 18 يناير (كانون الثاني) 2023، حين أجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتصالاً هاتفياً متأخراً بنظيره الأذري، وطلب منه أن يفرق المظاهرة.
في الحقيقة، لم يكن ما قيل له سوى أن يهتم بشؤونه الخاصة، في إشارة صارخة عن مدى تراجع النفوذ الروسي منذ غزو أوكرانيا. وتنبهت أرمينيا من جهتها أيضاً إلى خطر "دعم" الكرملين. فقد دانت حفظة السلام الروس عديمي الذكاء وتدرس احتمال الانسحاب من معاهدة دفاع مشترك مع روسيا.
لا تساعد هذه التطورات مواطني "قره باغ" الجوعى في شيء. إذ نجح علييف حتى الآن بتفادي العقوبات، رغم صلاته التجارية الوثيقة بالشركات الغربية. واستطراداً، تستطيع المملكة المتحدة والولايات المتحدة أن تضغطا عليه بشكل خاص من خلال هذه القناة [علاقاته مع الشركات الغربية]. كذلك تصدر بوادر مؤشرات تدل على رغبة مجلس الأمن في التحرك حيال هذا النزاع تعويضاً عن عجزه عن التحرك في النزاع الأوكراني. بالتالي، يستطيع مجلس الأمن أن يستبدل الروس العاجزين بالخوذ الزرقاء التابعة للأمم المتحدة، التي يفترض أن تكلف بإخلاء الممر. وبالنتيجة، فمن العبث أن نطلب من روسيا الحفاظ على السلام في الوقت الذي تدمر فيه السلام في منطقة أخرى.
* المحامي جيفري روبرتسون، مؤلف كتاب "إبادة جماعية مزعجة، من يتذكر الأرمن؟" (بايتباك، 2014)
© The Independent