ملخص
في هذه الحلقة نتناول قضية #اغتيال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والحركة الوطنية في لبنان #كمال_جنبلاط في 16 مارس (آذار) 1977 وتبين في التحقيقات ضلوع #النظام_السوري في الجريمة وطي الملف خوفاً من بطشه
في هذه الحلقة نتناول قضية اغتيال رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي والحركة الوطنية في لبنان كمال جنبلاط في 16 مارس (آذار) 1977.
في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 1976، عاد وزير خارجية لبنان فؤاد بطرس من دمشق، بعد لقاء الرئيس السوري حافظ الأسد، موفداً من رئيس الحمهورية اللبنانية الجديد الياس سركيس، والهدف استطلاع موقف الأسد من عملية تشكيل الحكومة الأولى وانطلاق العهد الجديد، بعد إرسال قوات الردع العربية إلى لبنان وكانت غالبيتها سورية، كان بطرس قد حمل من سركيس اقتراحاً بتشكيل حكومة سياسية تضم ممثلاً عن كمال جنبلاط، أو حكومة غير سياسية لا تضم ممثلين عن أطراف النزاع، ونقل بطرس إلى سركيس أن الأسد أبدى موقفاً صارماً تجاه كمال جنبلاط ونصح بالعدول عن إحياء التجربة الشهابية التي "مر عليها الزمن" قائلاً "إنكم لا تستطيعون العودة إلى الوراء، انظروا إلى المستقبل... يجب أن تعلموا أن كمال جنبلاط هو سبب الأزمة في لبنان والمنطقة، لقد تآمر على أمن لبنان وسوريا، ولو أنه انتصر لما كان رحم أحداً، إنه يحاول الآن إعادة علاقته معنا ولكننا نرفضها، لقد عزلناه وأوصدنا كل الأبواب بوجهه، فهل تريدون فتحها من جديد؟ بوجود كمال جنبلاط لن يرتاح أحد، لا لبنان ولا سوريا ولا الرئيس سركيس نفسه، جنبلاط قد انتهى ويجب أن ينتهي". ولما سأل بطرس الأسد عما إذا كان يريد القضاء على جنبلاط قال له الأسد إنه لا يريد القضاء عليه جسدياً، بل سياسياً لأنه لا يؤمن بالاغتيال السياسي، وأن جنبلاط يجب أن يعود مواطناً عادياً. (من كتاب "السلام المفقود" لكريم بقرادوني).
تصفية حسابات بين الأسد وجنبلاط
هذا الكلام لم يكن جديداً ومفاجئاً للرئيس اللبناني، عندما التقى الأسد شخصياً في 31 أغسطس (آب) 1976، قبل استلامه السلطة رسمياً استفاض الأسد في إظهار غضبه على كمال جنبلاط وروى لسركيس بعض ما دار بينهما في آخر لقاء في 27 مارس من ذلك العام، عندما حصل الخلاف الكبير بينهما ورفض الأسد السماح لجنبلاط ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات استكمال العمليات العسكرية من أجل الحسم العسكري ضد المناطق المسيحية، بالتالي اعتبر جنبلاط أن الأسد حرمه هذا النصر، وقد نسجت روايات كثيرة حول هذا اللقاء الذي يقال إنه دام سبع ساعات وانتهى بخروج جنبلاط متوتراً من دون أن يودع الأسد أو يصافحه.
هذا اللقاء كان مؤشراً إلى تحول سياسي وعسكري كبير يحصل في لبنان من خلال انفتاح النظام السوري على أحزاب الجبهة اللبنانية المسيحية التي كانت تدافع عن المناطق المسيحية ضد الهجوم الذي شنه عليها تحالف جنبلاط وعرفات، حتى مارس من ذلك العام كان النظام السوري قد أسهم في دعم الحرب ضد "الجبهة اللبنانية" (تجمع لأكبر الأحزاب المسيحية)، ولكن الخلاف بين الأسد وجنبلاط وعرفات خلق التحول الذي كان ظرفياً أيضاً وكان يخفي في طياته صراعاً حول من يسيطر على لبنان.
في أول يونيو (حزيران) 1976، حصلت المواجهة العسكرية بين القوات السورية التي كانت دخلت إلى لبنان وبين القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية، وكانت المعركة الأساسية في صوفر وبحمدون (في محافظة جبل لبنان)، وانتهت إلى انكسار هذه القوات، واستكمال تقدم القوات السورية نحو بيروت وانتشارها في جبال لبنان وعاليه والشوف، منطقتي نفوذ جنبلاط، وفي 20 نوفمبر 1976، أعلن جنبلاط موافقة الحركة الوطنية على اتفاق وقف إطلاق النار، الذي أعلنته قمة الدول العربية المصغرة في الرياض، والتي أوصت بإرسال قوات الردع العربية إلى لبنان، التي شكلت القوات السورية الموجودة أصلاً في لبنان عصبها الرئيس، وكان جنبلاط يتلو البيان ويبدو عليه التوتر، وإلى جانبه الأيسر جلس محسن إبراهيم رئيس منظمة العمل الشيوعي وكان يدخن بعصبية، وإلى يمينه جلس صامتاً رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي المعارض للتدخل السوري إنعام رعد.
كان هذا المؤتمر تسليماً بالنتيجة التي انتهى إليها التحول العربي الكبير في تبني محاولة إنجاح عملية السلام في لبنان، وبدء عهد الرئيس سركيس ببناء الأمل في ظل الأمن السوري، وكان بمثابة استسلام للأمر الواقع ودخولاً غير آمن إلى الحل في ظل خلاف كبير مع النظام السوري، كان جنبلاط مدركاً أن الخلاف الكبير مع الأسد لن يكون من السهولة تجاوزه، وصلت إليه معلومات بأنه قد يغتال، وتلقى نصائح بالخروج من لبنان والإقامة في مصر، ولكنه رفض، وكان قد أصبح مغلوباً على أمره ومكشوفاً أمنياً في ظل وجود نحو 25 ألف جندي سوري في لبنان، ونشر مفارز مخابرات تابعة لهم في مختلف المناطق، وكان جنبلاط تعرض للتضييق الأمني على الحواجز السورية، فاضطر إلى تخفيف مواكبته الأمنية الأمر الذي جعله هدفاً سهلاً للاغتيال.
ضابط المباحث وسيارة الـ"بونتياك"
في 16 مارس 1977، كان لقاؤه مع القدر والاغتيال، في ذلك اليوم كان الضابط في المباحث الجنائية عصام أبو زكي، الذي صار لاحقاً قائداً للشرطة القضائية، وهو درزي من الشوف ومقرب من كمال جنبلاط، متوجهاً من بيروت إلى بعقلين في منطقة الشوف بمفرده، وعند وصوله إلى مفرق بلدة دير دوريت شاهد سيارة "بونتياك"، لونها أسود وأحمر، متوقفة فوق حافة الطريق ومفتوحة الأبواب، تحمل لوحة عراقية، فتساءل عن سبب وجودها في تلك الظروف الأمنية الحرجة في منطقة توجد فيها قوات سورية، تابع سيره وفوجئ عند المنعطف بوجود جثتين على الأرض إحداهما بلباس عسكري والثانية بلباس مدني، لم يعرفهما بل ربط بينهما وبين سيارة الـ"بونتياك"، وما ان أكمل سيره حتى فوجئ بسيارة كمال جنبلاط الـ"مرسيدس" التي تحمل الرقم (5888)، وكان لا يزال في داخلها والدم ينـزف منه، وكانت قوات الأمن غائبة، فاتخذ قراراً بالحفاظ على مسرح الجريمة، وضبط الرصاصات التي تركت في المكان، واستدعى مصوراً لالتقاط بعض الصور، ونقل السيارة إلى المختارة، إذ حضر وليد كمال جنبلاط، بعدما كان مر على حاجز للجيش السوري في الدامور الذي صادر منه مسدساً كان يحمله، وحضر قادة الطائفة الدرزية وشيخ العقل محمد أبو شقرا وحاولوا في البداية وقف عمليات القتل التي بدأت ضد المسيحيين في الشوف، بعد انتشار خبر مقتل جنبلاط من دون تحديد الجهة التي اغتالته.
كان كمال جنبلاط ينتظر اغتياله لا سيما بعد أن تعرض منـزله في بيروت إلى حادث انفجار، قبل شهرين كما كانت جرت محاولة مماثلة في 26 سبتمبر (أيلول) بعد لقاء جمعه إلى رئيس الجمهورية الياس سركيس في المنطقة الفاصلة بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية.
يوم الحادث كانت سيارة الـ"بونتياك" موجودة على مثلث بعقلين، قريبة من الحاجز السوري هناك، وكانت مهمتها مراقبة سيارة كمال جنبلاط إثر خروجها من المختارة، فما أن مرت سيارة جنبلاط من مثلث بعقلين حتى لحقت بها سيارة الـ"بونتياك"، ومن خلال التحقيقات تبين أنه بينما كان جنبلاط راكباً في سيارته الـ"مرسيدس" إلى جانب سائقه حافظ الغصيني، ويرافقه العريف في قوى الأمن الداخلي فوزي شديد، متجهين نزولاً من بعقلين ناحية دير دوريت باتجاه بيروت، وكانت الساعة تقارب الثانية والربع بعد الظهر، لحقتهم سيارة الـ"بونتياك" وبداخلها أربعة مسلحين، يرتدي اثنان منهم لباساً عسكرياً مرقطاً، وبوصولهم عند منعطفات طريق دير دوريت اعترضوا سيارة الـ"مرسيدس" بعد أن تجاوزوها وأقفلوا عليها الطريق، ثم ترجلوا منها وأرغموا سائقها على التوقف واقتادوه مع العريف إلى سيارة الـ"بونتياك"، بينما صعد مسلحان إلى سيارة المرسيدس، حيث كان جنبلاط، وجلس أحدهما وراء المقود بينما الثاني جلس في المقعد الخلفي وراء جنبلاط الذي كان يجلس في المقعد الأمامي، وعلى مسافة 882 متراً بالتحديد من المكان الذي أوقفت فيه السيارة حصلت الجريمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف حصلت الجريمة؟
بحسب ترجيحات التحقيق أنه عندما شعر جنبلاط انه أصبح في دائرة الخطر، وبما أنه في منطقته، حاول أن يلفت إليه الانتباه، فقام بتغيير اتجاه مقود السيارة، فأوقفها المسلح الذي يقودها بشكل مفاجىء فاصطدمت بها من الخلف سيارة الـ"بونتياك" التي تجاوزتها، وأُطلقت النار على جنبلاط من المسلح الذي يجلس خلفه ثم ترجل مع رفيقه من السيارة، وتابعا إطلاق النار عليه، كما قام الاثنان الموجودان في سيارة البونتياك بإنزال الغصيني وشديد وأطلقا عليهما الرصاص، وركب الأربعة سيارة الـ"بونتياك" ونزلوا باتجاه بيروت وعند وصولهم إلى منعطف اصطدمت السيارة بتلة ترابية وتعطلت، فنـزل منها المسلحون الأربعة مع أسلحتهم المكونة من رشاشات كلاشينكوف وأوقفوا أول سيارة صادفوها، وكانت سيارة فيات وفيها السائق وإلى جانبه شاب، فأنزلوا الشاب وطرحوه أرضاً وهددوه إذا تحرك فسيقتلونه، وصعدوا بالسيارة مع السائق وأكملوا طريقهم إلى بيروت حتى وصلوا إلى مكتب القوات السورية في سن الفيل عند مستديرة الصالومي.
وجد داخل سيارة الـ"بونتياك"، خنجران مسنونان وصفيحة بنـزين وبدلة عسكرية مرقطة، وجذمة عسكرية، وقد نقلت هذه الأغراض بصورة سرية إلى قصر العدل، وبحسب التحقيقات كان من المخطط له أن يُخطف كمال جنبلاط، ويقتل ويحرق مع السيارة في منطقة مسيحية لاتهام المسيحيين باغتياله.
وقد أفاد السائق الذي أقله، أنهم عندما مرورهم على حواجز القوات السورية كانوا يبرزون بطاقاتهم فيسمح لهم بالمتابعة، وعند وصولهم إلى مستديرة الصالومي نزلوا إلى مكتب لقوات الردع السورية، وهناك قالوا له بأن يلزم الصمت، وهددوه بالقتل وتركوه ينصرف.
حكاية السيارة
سيارة الـ"بونتياك" كانت مضبوطة من الجمارك اللبنانية في مرفأ بيروت في الثامن من يناير (كانون الثاني) 1977، وتبين أن في مخابئها كمية من حشيشة الكيف المخدرة، وأنها نقلت إلى سوريا ثم أعيدت إلى لبنان من طريق الحدود اللبنانية – السورية في 10 مارس1977، وعليها لوحتها العراقية، وذلك قبل ستة أيام من تاريخ الاغتيال، وقد شوهدت في بيروت في أماكن عدة، إذ كان المسلحون الأربعة يستقلونها، وكانت تتوقف أمام فندق "لورنـزو موزارت" الذي كان الأربعة من نـزلائه، وهذا الفندق كانت تستخدمه المخابرات السورية.
باشر التحقيق الفوري في قضية الاغتيال القاضي سعيد ميرزا، وكان مدعياً عاماً في جبل لبنان، وبعد إحالة الجريمة إلى المجلس العدلي أعلى هيئة قضائية في لبنان، عُين القاضي حسن قواس محققاً عدلياً، ولكنه تعرض للتهديد أكثر من مرة ولمحاولة خطف، ثم أُطلقت قذيفة صاروخية على منزله فأحرقته وجرحت ابنه.
لم يكمل القاضي قواس التحقيق، على رغم تكوين صورة كاملة عن مجريات عملية الاغتيال والضالعين فيها والمحرضين عليها في ظل وجود الجيش السوري في لبنان، وتحكمه بالقرارين السياسي والقضائي ما منع إصدار القرار الاتهامي، وطوي الملف نهائياً قبل أن يسقط وليد جنبلاط حقه، وقبل أن يتقرر لاحقاً إسقاط الدعاوى والملاحقات الجزائية والكف عن التعقبات واسترداد المذكرات الصادرة وحفظ الرسوم والمصاريف. التحقيقات كانت توصلت إلى تحديد هويات المسلحين الأربعة وهوية الضابط السوري المشرف على العملية، وهو ابراهيم حويجي وكان مسؤولاً عن مكتب القوات السورية في سن الفيل، حيث لجأ المسلحون بعد ارتكابهم لجريمة الاغتيال، وقد أصبح لاحقاً مديراً عاماً للمخابرات الجوية في سوريا.
وليد جنبلاط ولقاء من اغتالوا والده
في الرابع من مايو (أيار) 2015 مثل وليد جنبلاط أمام المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري في لاينسدام في هولندا وقال في إفادته، "علاقتي مع النظام السوري بدأت عام 1977 بعد الأربعين من اغتيال كمال جنبلاط على يد النظام السوري وأمام الخطر المحدق بلبنان الذي كان يتعرض إلى مؤامرة كان لا بد لي أن أوقع اتفاقاً سياسياً مع من اغتالوا والدي".
وأضاف، "المرحوم حسن قواس قام بالتحقيق بمقتل كمال جنبلاط وتفاصيل السيارة التي لحقت به وكيف قتلوه على مشارف قرية بعقلين، وكيف ذهبت تلك السيارة إلى مركز المخابرات السورية في سن الفيل، ولكن القضية حُولت كسائر الجرائم السياسة الكبرى إلى المجلس العدلي الذي لا يستطيع أن يبت مثل هذه القضية في خلال الوصاية السورية على لبنان، وكان هناك خوف منها".