Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البحث العلمي عند العرب: الإرث لا يكفي والمنجز لا يشفي

يحتفظ المحيط العربي بإرث حضاري ومعرفي عميق إلا أنه لم يخضع للتطوير وغياب الاستقرار وانعدام التشاركية وضعف الموازنات أبرز الأسباب والهجرة إلى الغرب الملاذ الأخير 

تزخر أقسام الأرشيف والمخطوطات القديمة بابتكارات واكتشافات علمية لأبرز العلماء العرب (أ ف ب)

ملخص

يواجه #البحث_العلمي عربياً ترسانات من الصعوبات والمقاومة، ناهيك بانتشار #الاضطراب_السياسي وأحياناً الأمني في عديد من دول المنطقة. "#اندبندنت_عربية" ترصد واقع البحث العلمي عند #العرب.

القول المأثور "لا كرامة لنبي في وطنه" يجد نفسه وقد حل "العالم" محل "النبي". فقد انتهى زمن الأنبياء، وحان - أو هكذا يعتقد بعض - عهد العلماء. وجرى العرف في المنطقة العربية أن يجد العلماء أنفسهم مشتتين بين قوتين متناقضتين تتجاذبهم بشدة وأحياناً بعنف. الأولى قوة العلم والبحث وشغف الإبداع والولع بالابتكار واعتبار المستقبل مسؤولية الحاضر. والثانية قوة معاداة العلم ومحاربة البحث وشغف تعطيل العقل والولع بالجمود واعتبار المستقبل علماً من علوم الغيب لا ينبغي التدخل فيه بحثاً أو علماً أو حتى استشرافاً بناء على علم.

ومن باب العلم بالشيء، فإن البحث عن "العلم" أو "العلماء" أو "العلم والعلماء" باللغة العربية على الإنترنت غالباً يقود إلى سرديات ونثريات حول "أشهر علماء المسلمين الأوائل" و"أبرز ابتكارات العلماء العرب في العصر العباسي أو الأموي أو العصر الذهبي للإسلام".

كما تزخر أقسام الأرشيف والمخطوطات القديمة بابتكارات واكتشافات علمية لأبرز العلماء العرب: الكندي وابن النفيس وجابر بن حيان والخوارزمي والكندي والفارابي وابن الهيثم وابن باجة وآخرون.

أما الآخرون المنتمون إلى عصور أحدث نسبياً فهم كثيرون أيضاً: عالم الكيمياء المصري أحمد زويل الذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وعالم الرياضيات اللبناني مايكل عطية الذي هاجر إلى بريطانيا، وعالم الذرة الفلسطيني منير حسن نايفة الذي أصبح أميركياً، وعالم الفضاء اللبناني الذي عمل في "ناسا" مصطفى شاهين، وعالم الجيولوجيا المصري فاروق الباز الذي انتقل للعيش في أميركا، وعالم الكيمياء المصري مصطفى السيد المقيم في أميركا، وجراح قلب الأطفال "السير" مجدي يعقوب الذي انتقل إلى بريطانيا فعمل واشتهر فيها قبل أن يعود إلى مصر قبل سنوات وغيرهم.

نصيبٌ من العلم

هذه القائمة الحديثة تشير إلى أن العرب لهم نصيب من العلم وكذلك العلماء. لكنها تشير أيضاً إلى سمة يمكن القول إنها ظاهرة. الغالبية المطلقة من العلماء العرب في العصر الحديث أصبحوا علماء بالمعنى الفعلي للكلمة بعد ما تركوا أوطانهم واتجهوا غرباً.

الاتجاه غرباً حلم يراود كثيرين في المنطقة العربية. وبحسب شبكة "الباروميتر العربي"، فإن نسبة هذه الأحلام في المنطقة كبيرة جداً. في دول مثل الأردن وتونس والسودان، يرغب نحو نصف المواطنين في الهجرة. والأسباب لا تتغير: اقتصاد، وسياسة، وأمن، وتعليم.

 

صحيح أن الراغبين في الهجرة أو المهاجرين فعلياً ليسوا كلهم علماء، لكن بعضاً منهم علماء أو مشاريع علماء. الفصل الخاص بالدول العربية في تقرير العلم الأحدث الذي أصدرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" في عام 2021 يشير إلى أن السنوات القليلة الماضية شهدت توسعاً ملحوظاً في مجال التعليم العالي، وعلى رغم الموازنات السخية المخصصة للجامعات، فإن النسبة المخصصة للبحث والتنمية "آر آند دي" تبقى منخفضة في أغلب الدول العربية، بما في ذلك الدول العربية ذات الدخول المتوسطة والمرتفعة، التي تعتمد بشكل موسع على شراء منتجات وحزم تكنولوجية من الخارج، وليس صناعتها أو ابتكارها.

ورأت "يونسكو" أن ذلك يسلط الضوء على حاجة ماسة إلى الاستثمار والاهتمام وإعطاء الأولوية لمجتمعات البحث والابتكار المحلية العربية، وذلك حتى يكون منتجات هذه البحوث القائمة على تطوير العلوم والابتكارات موائمة لمجتمعاتها العربية.

المجتمعات العلمية والبحثية العربية تختلف من دول إلى أخرى، بل تختلف في داخل الدولة نفسها بحسب الإمكانات والغايات ومدى توافر أو غياب الإرادة السياسية، وكذلك إرادة مجتمع المال والأعمال، إضافة إلى مكانة العلم والعلماء في كل دولة.

مصر... حضرت الأكاديمية وغاب المفهوم

العلم والعلماء والبحث العلمي كلمات لا تشغل بال الغالبية بشكل عام. وبشكل خاص، هي كلمات تعتبرها قاعدة عريضة من المصريين المثقلة كواهلهم بهم الاقتصاد في أوقات الأزمات وبمشاغل الدنيا من زواج وإنجاب وتعليم الأبناء (وربما عدم تعليمهم لعدم الجدوى) وتأمين لقمة عيش، ثم فرصة عمل للصغار، ثم زواج فإنجاب وهلم جرا.

جرى العرف الشعبي على اعتبار التعليم كالماء والهواء، كما كتب الجميع في مواضيع الإنشاء في حصة اللغة العربية. لكن التعليم كثيراً ما يختلط مفهومه بالتعلم بالعلم بالبحث العلمي. وحين تذكر كلمات "العلم" و"العلوم" و"البحث العلمي"، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الجمعي الشعبي هو أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا القابعة في 101 شارع قصر العيني وسط القاهرة. كما يعرف بعض أن وزارة التعليم العالي ملحق باسمها "والبحث العلمي". لكن يبقى البحث العلمي أمراً مبهماً لدى كثيرين، وفي الأغلب غائباً عن الاهتمام الذي يدعو إلى البحث والتنقيب والتعليق.

التعليق الذي غرد به الطبيب والكاتب خالد منتصر قبل أيام على "تويتر" ويحمل تساؤلاً "لماذا التمجيد في مناهجنا الدراسية لمن يحمل سيفاً وليس لمن يحمل ميكروسكوب أو تلسكوب؟!" أجج نيران غضب كثيرين ممن يعانون متلازمة الجمود حيث لا مجال للجمع بين سيف الدين وتلسكوب العلم.

 

تلسكوب العلم ومعمله وأبحاثه ليست مجرد أدوات تحتاج إلى موازنات ومكاتب وإدارات. لكنها بيئة إما مهيأة للبحث العلمي ودعم العلماء، أو مقيدة للبحث مكبلة للتنقيب محجمة للعلماء. بعض يظن أن البحث العلمي يقاس بعدد الاقتباسات من دراسات أو معدل الإشارات لبحوث منشورة في دوريات علمية. ويعتقد بعضهم الآخر أن البحث العلمي يقاس بعدد العاملين في أكاديميات ومراكز ومعامل تحمل عبارة "البحث العلمي" في اسمها، وهي كثيرة في مصر.

في مصر عمت البهجة الأوساط البحثية والمنصات الإعلامية قبل عامين حين نشر أستاذ الطب في جامعة ستانفورد الأميركية جون لونيدس قائمة لاثنين في المئة من علماء العالم هم الأبرز من حيث عدد الدوريات العلمية الدولية الموثقة التي نشروها. سعد المصريون كثيراً بوجود أسماء عدد من العلماء المصريين.

"سكوبوس" وهي قاعدة معلومات خاصة بالاقتباسات والإشارات العلمية، وضعت مصر في عام 2020 في المرتبة الـ36 في قائمة تحوي 234 دولة ومنطقة وكياناً من حيث عدد الوثائق التي تمت الإشارة إليها أو الاقتباس منها. إقليمياً ظلت مصر تحتل المكانة الخامسة على مدار ربع القرن الماضي على قائمة المصادر والأبحاث الأكثر إشارة إليها على سبيل الاقتباس.

قوائم مشرفة وأرقام مفرحة

ومع القوائم المشرفة تأتي الأرقام المفرحة. الخط البياني لنسبة الإنفاق على البحث والتطوير بالنسبة المئوية من إجمالي الناتج المحلي المصري، وبحسب معهد "اليونسكو" الإحصائي، شهد قفزة واضحة في عام 2008، واستمر في صعوده حتى عام 2020 حين بلغ 0.96 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. يشار إلى أن متوسط نسبة إنفاق الدول متوسطة ومنخفضة الدخل على البحث العلمي يبلغ 1.86 في المئة، والدول المرتفعة الدخل 2.97 في المئة.

لكن المسألة لا تقتصر على شرف القوائم وفرحة الأرقام. أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة مصطفى السيد قال وقت صدور قائمة ستانفورد إن مكانة البحث العلمي المصري والعلماء المصريين مصدر للفخر والاعتزاز، إلا أنه أشار إلى عدد من النقاط التي يجب وضعها في الاعتبار للتقييم الحقيقي للهادفين إلى تطوير مكانة البحث العلمي والعلماء.

 

قال السيد إن جميع العلماء الواردة أسماؤهم في القائمة، باستثناء عالم واحد فقط، ينتمون إلى فروع العلوم الطبيعية والتطبيقية، لا سيما الطب والصيدلة والعلوم والهندسة، وهو ما يعني أن حالة البحث العلمي في مصر أكثر تقدماً في فروع العلوم الطبيعية والتطبيقية أكثر من غيرها.

وعلل ذلك بانخفاض مستوى إتقان الكتابة باللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية والفرنسية، وهما الأكثر شيوعاً في الدوريات العلمية الموثقة، وكذلك نقص الإلمام بأصول البحث العلمي في كليات العلوم الإنسانية، باستثناء أقسام الاجتماع والنفس. يقول: "باستثناء هذين القسمين يجهل معظم الخريجين أن هدف البحث العلمي هو توليد معرفة جديدة، وليس اجترار ما وصل إليه آخرون".

عمل جماعي لا فردي

آخرون يعرفون أن البحث العلمي الجاد في العالم المعاصر نشاط جماعي وليس استحواذاً فردياً. جمع المعلومات والبيانات وتحليلها يحتاج إلى مجموعات من الباحثين وليس أفراداً يعمل كل منهم على حدة. البحث العلمي الحقيقي الجاد يحتاج إلى وقت وجهد لا يتوفران لدى شخص واحد فقط. يقول السيد إن ذلك يتطلب إما أن يقوم بالبحث من يتفرغون له في الجامعات ومراكزها البحثية، أو يقتطع الأساتذة جانباً من وقتهم لإجراء البحث. وما زال تكوين فرق بحثية لإجراء بحوث جماعية بجهود جماعية أمراً غائباً إلى حد كبير.

ويتطرق مصطفى السيد إلى رابع معضلات البحث العلمي في مصر ألا وهو توافر الأموال. وعلى رغم قيام بعض الجهات، مثل أكاديمية البحث العلمي وبعض الجامعات، بتمويل جزئي لنفقات مشاركة أعضاء هيئات التدريس في مؤتمرات في الخارج لعرض بحوثهم، فإنها لا تكفي لتمويل المشاريع البحثية الطموحة. ويضيف كذلك عامل مهم لتوافر البيئة المناسبة للبحث العلمي ألا وهو أجواء النقاش بلا قيود حول قضايا العلم والمجتمع.

هيمنة رجال الدين

وعلى ذكر العلم والمجتمع والنقاش الحر، تجدر الإشارة إلى أن علماء الدين الأجلاء يهيمنون على جانب غير قليل من تحديد أولويات المجتمع وتقرير مصير العلم. فمثلاً أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية في جامعة الأزهر الشيخ أحمد كريمة يقول إن تحليل البصمة الوراثية (دي إن إيه) يعد قرينة وليس دليلاً على إثبات النسب. الشيخ ذائع الصيت نفسه استنكر بشدة جراحة لزراعة قلب خنزير معدل وراثياً في جسد مريض في الولايات المتحدة الأميركية حتى ولو كان من شأنها أن تنقذ حياة إنسان. ويقول العلماء إن قلوب الخنازير تتشابه تشريحياً وقلوب البشر، لكنها لا تتطابق في ما اعتبر خطوة أولى نحو مزيد من البحث العلمي في شأن زراعة الأعضاء.

 

زراعة الأعضاء، سواء المتبرع بها من شخص حي أو متوف حديثاً بعيداً من الحيوانات، ملف يندرج في الأساس تحت بند البحث العلمي. وعلى رغم أن عمليات زراعة فص كبد من متبرع حي، وكلى من متبرع على قيد الحياة تجري في مصر منذ سنوات، ومع كل اقتراب من مناقشة قانون تنظيم زراعة الأعضاء، تثور موجات من النقاش في مصر. لكنه نقاش لا يتصل بالزراعة أو التبرع أو نسب نجاح العمليات، بل يتصل بما قاله علماء دين رحلوا عن عالمنا في ما يختص بزراعة الأعضاء.

على سبيل المثال يجري الترويج لما قاله عالم الدين المثير للجدل الشيخ محمد متولي الشعراوي المتوفي في عام 1998 الذي تعتبره ملايين المصريين المرجعية الوحيدة لشؤون حياتهم اليومية، الذي أفتى قبل وفاته بسنوات بحرمانية نقل الأعضاء ولو كانت بالتبرع وزراعتها. والجملة الأكثر شهرة في هذا الصدد قوله: "طالما لا تملك ذاتك، فلا حق لك في التصرف فيها".

وعلى رغم التأكيدات المستمرة على أن فتاوى علماء الدين وقراراتهم بتحريم هذا وتحليل ذاك لا تتعارض مع العلم والبحث والعلمي وحرية العلماء، إلا أن التنويه المباشر وغير المباشر بضرورة التزام علماء الطب والدواء والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها بالقواعد والقيود التي يسنها علماء الدين يجعل بعضهم يتساءل عن جدوى البحث العلمي في أجواء يحكمها رجال دين وتتحكم فيها تفسيراتهم الشخصية البشرية للنصوص الدينية.

أكسجين البحث العلمي

معايير وقواعد ومتطلبات البحث العلمي الحقيقي الجاد تتفق على أن التفكير النقدي عامل لا بديل عنه من عوامل إيجاد بيئة بحث علمي. التفكير النقدي القائم على ثقافة مجتمعية وبيئة دراسية تعتمد على طرح أسئلة وفتح أبواب النقاش من دون تهديد أو وعيد أو استثناء طرح أسئلة من دون غيرها ومنع إجابات من دون بحثها أكسجين البحث العلمي.

ربما يواجه البحث العلمي والعلماء في مصر مشكلات مثل نقص معدات أو شح تمويل أو سوء توجيه موارد أو حاجة إلى مزيد من مشاركة القطاع الخاص، وجميعها يمكن حله بإتاحة قدر أكبر من التمويل هنا أو إعادة تدريب وتخطيط لإدارة البحث العلمي هناك. أما تحجيم أجواء البحث العلمي وتقييد بيئته وتكبيل مجالات البحث وتحديد توجهات النتائج ورسم خطوط حمراء يمنع تعديها وعرض الأفكار المستقبلية والنتائج المحتملة المتوقعة من المراكز البحثية على رجال الدين، الأحياء منهم والأموات، للحصول على موافقتهم أو رفضهم فأمور تربك أجواء البحث العلمي بين مؤيد ومعارض وغير مهتم.

السعودية... تمويل حطزمي لكن الإشكالات باقية

في السعودية يشير أستاذ تخطيط التعليم واقتصاداته المساعد في جامعة طيبة بدر البدراني، إلى أن الإنفاق على البحث العلمي في السعودية يعتمد بشكل أساسي على التمويل الحكومي، إذ إن النسبة العظمى من موازنات البحث تمول من الدولة بواقع 85 في المئة تقريباً، في حين أن نسبة التمويل الحكومي لموازنات البحث العلمي في اليابان مثلاً تقل عن 18 في المئة، وفي الولايات المتحدة 35 في المئة.

وبلغ الإنفاق على الأبحاث العلمية في السعودية 14.5 مليار ريال (3.8 مليار دولار) بحسب آخر تقرير للهيئة العامة للإحصاء، إذ حققت 15 جامعة سعودية إنجازاً بتقدمها ضمن الجامعات العالمية وفق تصنيف "تايمز" بسبب عدد الأبحاث العلمية.

وأضاف البدراني "ما زالت السعودية مستمرة في دعم البحوث العلمية، إلا أنها زادت عليه الاهتمام بالتطوير والابتكار، إذ اعتمدت تطلعاتها لعام 2040 في تنمية وتنويع الاقتصاد الوطني، بأن يحقق الابتكار إضافة 60 مليار ريال (16 مليار دولار) إلى الناتج المحلي الإجمالي للموازنة، وذلك بزيادة الإنفاق على البحوث النوعية والابتكارات بنسبة 2.5 في المئة سنوياً، واستحداث آلاف الوظائف النوعية عالية القيمة في العلوم والتقنية والابتكار".

 

ومن جانبه أبدى وكيل الدراسات العليا والبحث العلمي السابق في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فهد العسكر أسفه، لأن البحث العلمي في جامعات السعودية لا يزال يعاني إشكالات عدة، وهي "غياب الرؤية والاستراتيجية، وضعف العمل وتدني نوع وكم المخرجات".

ويرى العسكر أن البحث "منطلق لاتساق الجهود، وضامن لتفعيل دور مؤسسات التعليم العالي باحتواء المبادرات، ورسم الخطط، وتحقيق الأهداف والغايات، عبر مشاريع تفاخر بها الجامعة، وتنمو بها الجهة التي هي بها، وتعزز صورة العمل الأكاديمي والبحث العلمي بمنجزات تنموية وحضارية وإنسانية"، مضيفاً "من الصعب القول إن للبحث العلمي في بلادنا مخرجات حقيقية أفاد منها الوطن".

ولفت إلى حمى التنافس حالياً بين الجامعات على التصنيفات العالمية، خصوصاً ما يتحقق في مجال البحث العلمي، مشيراً إلى "توجه عدد من الجامعات إلى تعزيز مركزها التنافسي من خلال دعم عمادات البحث العلمي وتقديم التسهيلات والدعم لأعضاء هيئة التدريس لإنجاز أبحاث علمية مميزة وأصيلة، وذات طابع يتواكب مع المستجدات".

الأردن... ضعف الانتشار وتدني الجودة

الاهتمام بالبحث العلمي في الأردن أيضاً يعاني كثيراً، وذلك على رغم الطفرة الكبيرة التي تحققت في ملف العلم والعلماء في السنوات القليلة الماضية. فقد أسست الحكومة الأردنية صندوقاً لدعم البحث العلمي والابتكار في وزارة التعليم العالي، إلا أن هذا التوجه يعاني ضعف الانتشار وتدني الجودة وضعف الانتشار، وغياب الابتكار والإبداع والريادة، وعدم التأثير في الساحة الدولية.

الجامعات الأردنية ما زالت واقعة تحت سطوة الأساليب التقليدية المتبعة لتنمية المهارات والتفكير لدى الطلاب. كما أن المكتبات الجامعية لا تزال تشكو قلة مرتاديها الباحثين، في ظل انتشار ظاهرة شراء البحوث ورسائل الماجستير والدكتوراه الجاهزة.

ففي حين تضم الجامعات الأردنية أكثر من 10 آلاف عضو هيئة تدريس، فإن عدد البحوث المقدمة في العام الماضي مثلاً لم تزد على 300 طلب للبحث العلمي.

شهد البحث العلمي في الأردن قدراً أكبر من الاهتمام خلال السنوات الماضية، إذ استثمرت الحكومة الأردنية بكثافة في مبادرات البحث العلمي، وقد أدى ذلك إلى نمو ملحوظ في عدد مراكز وبرامج البحث.

كما سنت الحكومة حزمة من الحوافز للعلماء لمتابعة مشاريعهم البحثية، بينها تمويل المشاريع البحثية، والمنح للعلماء الواعدين، ودعم التعاون بين مراكز البحث الدولية.

 

على رغم ذلك يرى بعضهم أن الأردن بحاجة إلى ثورة مفاهيمية تعلي من شأن البحث العلمي وأهميته للأجيال المقبلة، ويعظم من حجم التأثير على مستوى التعليم الجامعي تأسيساً لمجتمع معرفي وتنمية مستدامة.

تعلل وزارة التعليم العالي الأردنية ضعف انتشار البحث العلمي في البلاد بغياب التشاركية وعدم الاهتمام بنتائج ما يصدر من بحوث، وضعف الموازنات الجامعية المخصصة للبحث العلمي، التي لا تزيد على 12 مليون دولار.

ويبدو أن هذه المعوقات أدت إلى نتائج سلبية، حيث يحتل الأردن المرتبة الـ 70 عالمياً والتاسعة عربياً في مجال البحث العلمي، على رغم توافر بنية تحتية بحثية في الجامعات، ووجود باحثين مؤهلين.

ومنذ تأسيس صندوق دعم البحث العلمي، استقبل 286 مشروعاً في قطاعات العلوم الطبية والصيدلانية، والعلوم الزراعية والبيطرية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والعلوم الاقتصادية، وعلوم المياه والبيئة.

فجوة كبيرة

ويعاين مراقبون واقع سياسات واستراتيجيات وأولويات البحث العلمي ومخرجاتها. ويطالب آخرون باستثمار البحث العلمي للعمل على مشاريع لحل مشكلات الطاقة والمياه والأمن الغذائي.

تتحدث وفاة الخضراء، عميد سابق لكلية اللغات والاتصال في الجامعة الأميركية، عن عدم وجود محركات تترجم الأبحاث المهمة إلى مشاريع تنموية أو ريادية ابتكارية في الأردن، وأن ثمة كثيراً من الأبحاث والدراسات المهمة التي لم تأخذ حقها في الانتشار لعدم وجود ترجمة لها.

ويشكو أساتذة جامعيون من محدودية الدعم المقدم للباحثين الأردنيين، فمتوسط ما تخصصه الجامعات الحكومية لأعضاء هيئة التدريس يصل إلى 2500 دولار سنوياً، فيما تخصص الجامعات ما نسبته خمسة في المئة فقط من موازناتها.

ويشكك آخرون في أهداف البحث العلمي الحقيقية، ومن بينها السعي إلى الحصول على ترتيب أفضل ضمن التصنيفات العالمية والمحلية. ويقول مدير مديرية صندوق دعم البحث العلمي في وزارة التعليم العالي وسيم هلسة عن الخطط الحكومية في هذا المجال، مؤكداً أن النسبة العالمية للبحث العالمي بلغت 2.9 في المئة، بينما لم تزد النسبة العربية على 0.65 في المئة.

ويشير هلسة إلى أن مؤشر الإنفاق على البحث العلمي يظهر وضعاً متقدماً للأردن مع الحاجة إلى تحسينه، داعياً إلى وجوب إنشاء حاضنات لمشاريع التخرج والبحث العلمي.

تونس... نزيف الهجرة المستمر

ومن الوضع "المتقدم" للأردن بناء على الإنفاق، إلى قصص النجاح "الباهرة" التي شهدتها تونس في مجالات بحثية وعلمية متنوعة، بخاصة في مجال الطب على رغم ضعف موازنة الدولة الموجهة لقطاع البحث العلمي. إنه القطاع الذي يشهد شداً وجذباً بين سلطة الإشراف والباحثين الذين دخلوا في سلسلة من التحركات الاحتجاجية في يناير (كانون الثاني) الماضي، بسبب التقليص من موازنة التعليم العالي والبحث العلمي، وأيضاً للمطالبة بوقف نزف هجرة الأدمغة والكفاءات التي تعرفها البلاد من سنوات.

عبر الجامعيون في وقفة احتجاجية قبل أيام عن استيائهم من تعامل وزارة الإشراف مع ملفهم. وتتمثل أبرز المطالب التي رفعها الأساتذة الجامعيون المحتجون في صرف منحة التشجيع على البحث العلمي، إذ إن المنحة البحثية في تونس لا تتجاوز 400 دولار شهرياً.

وقد أعلنت الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي، في بيان، مغادرة نحو ألفي أستاذ جامعي من مختلف الرتب منذ عام 2014، ما يمثل أكثر من 18.5 في المئة من إجمالي المدرسين الباحثين في هذه الرتب.

كما تراجعت الموازنة التي جرى رصدها لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي من سبعة في المئة من إجمالي موازنة الدولة عام 2012 إلى 4.9 في المئة خلال السنوات الأخيرة.

 

وتذهب نحو 70 في المئة من موازنة وزارة التعليم العالي إلى تسديد الأجور، فيما تقدر الاعتمادات الخاصة بالاستثمار في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بنحو 60 مليون دولار، أي نحو ثمانية في المئة من إجمالي موازنة الوزارة، ويخصص سبعة ملايين دولار فقط للبحث العلمي وتطوير الإنتاج، الأمر الذي جعل الباحثين في تونس يطالبون بالزيادة لإيقاف نزف هجرة الأدمغة.

في هذا السياق يرى الباحث والأستاذ الجامعي عامر الجريدي أن "واقع العلم والبحث العلمي في تونس دون المطلوب بكثير". موضحاً "نقول بالعلم كلاماً، لكن الواقع التنموي أي الاجتماعي والاقتصادي والبيئي متدهور إلى أبعد الحدود مع أزمة قيم وأزمة رؤية ومنهج أردت البحث العلمي إلى مستويات متدنية".

وأضاف "المقاييس الموضوعة لا تبدو بالصرامة التي تمكن من الوقوف على حقيقة وضع البحث العلمي والجامعي، وهي غير ذات جدوى في مناخ تركز فيه النخب السياسية على الحقوق والحريات في تجاهل تام للشأن التنموي، الذي تعتبر فيه التربية والتعليم والبحث العلمي والمسألة البيئية ثانوية بالنسبة إليهم".

ويواصل عامر الجريدي، "الباحثون التونسيون المميزون يجدون مساحات لنشر مساهماتهم الدراسية والبحثية في أرقى منصات النشر في العالم، وهذا لا ينفي أن بعض المؤسسات الجامعية والبحثية تجتهد، وتفيد ببعض البحوث القيمة، التي تشترط مناخاً تعليمياً وتربوياً وتنموياً ملائماً حتى تترجم إلى تطبيقات وممارسات مجدية ومجزية".

الصدارة ليست للعالم

وعن وضع العلم والعلماء يقول الجريدي، "لم يعد المعلم والعالم في صدارة يتمتعان بالصدارة في المجتمع"، مفسراً هذه الأزمة القيمية والتردي التربوي والتعليمي والأزمة التنموية وتوسع دائرة الفقر والفقر المدقع، بسبب غياب الاستثمار والإنتاج وتراجع قيمة العمل والبطالة والمطلبية القطاعية والإضرابات". يقول: "لهذا لم يعد البحث العلمي في حساب الحاضنة الاجتماعية والسياسية للتعليم والعلم، التي أصبحت لها أولويات أخرى". هذا ما يفسر تزايد هجرة العلماء من تونس نحو بلدان تقدر جهودهم وفق تعبيره.

ولا يعتقد الجريدي أن الدين يقف عقبة من دون إعلاء شأن البحث العلمي. يقول: "دين البلاد هو دين اقرأ، لكن التأويلات الدينية التي تصبح مذاهب أردت (اقرأ) إلى ترتيب أدنى لصالح شكليات ثانوية قياساً بالمقاصد الدينية. المشكلة إذاً ثقافية، أي تنبع من عقلية تقودها قيم الفردانية والحرية المنفلتة وغياب ثقافة المواطنة والدولة".

وعلى رغم قدرة القطاع الخاص على أن يلعب دوراً إيجابياً في دعم العلم والبحث العملي، لكن الجريدة يرى أن تحقيق ذلك يتطلب مناخاً سياسياً ملائماً، أي تتوافر فيه إرادة حقيقية وديناميكية تنموية مستدامة. مؤكداً أن مكانة العالم العربي في مجال البحث العلمي والتطور العلمي رهينة عقلية تعلي الرداءة على العلم والشعبوية على الاستشراف والتخطيط الاستراتيجي.

وبحسب الإدارة العامة للبحث العلمي، جرى تبني منهجية ترتكز على إنجاز مشاريع وبرامج بحث بالشراكة مع الأطراف الاقتصادية والاجتماعية، التي جرى تجميعها في شكل برنامج للبحث العلمي تحث إشراف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

وتسعى إدارة البحث العلمي إلى زيادة موازانات البحث والتجديد التكنولوجي من خلال خطوات عدة، مثل مزيد من دعم الموارد العمومية ومساهمة المؤسسات الاقتصادية والتعاون الدولي، ودعم الجهات القادرة على تيسير الاندماج والشراكة بين منظومتي البحث العلمي والإنتاج وغيرها.

لكن على أرض الواقع وعلى رغم ارتفاع عدد الباحثين في تونس، فإن الأوضاع لا تبدو على ما يرام، بحسب مراقبين، إذ يبقى العائق المالي والتخطيط من أبرز المشكلات التي تعرقل الجهود المبذولة.

الجزائر... موازنة هزيلة

جهود مشابهة تبذلها الجزائر من أجل إصلاح أحوال العلم والعلماء. جهود عديدة تبذل لإرساء استراتيجية واضحة في البحث العلمي عبر توجيه السياسات العامة لترشيد استعمال الموارد وتدارك العجز الفادح المسجل طوال سنوات في هذا الملف.

وتعمل الحكومة الجزائرية على توفير المناخ الملائم لتوجيه البحث الجامعي نحو مزيد من الابتكار، بعد رصدها عدم قدرة البحث العلمي على لعب دوره في التنمية بإنتاج حلول مبتكرة تسهم في التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

وعلى رغم الإمكانات البشرية الهائلة، بقي البحث الجامعي جامداً في مراحله الأولى، معانياً نقص الابتكار، إضافة إلى ضعف البحث التطويري في مجال علوم الحياة، بخاصة مجالات العلوم الطبية.

 

وتقدر الاعتمادات المالية لقطاع التعليم العالي والبحث العلمي، لسنة 2023 بالجزائر، بـ446.49 مليار دينار، بزيادة قدرها 61.16 في المئة مقارنة بموازنة 2022، لكنها تبقى ضعيفة، حيث تمثل 4.78 في المئة فقط من إجمالي موازنة الدولة.

وتتوزع الموازنة على مؤسسة التعليم العالي بـ310.812 مليار دينار، المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي بـ222.066 مليون دينار وديوان الخدمات الجامعية بـ173.688 مليار دينار، ديوان المطبوعات الجامعية بـ20.00 مليون دينار، في حين خصصت لمراكز ووكالات البحث ما قيمته 10.650 مليار دينار، أي بنسبة 2.27 في المائة من إجمالي اعتمادات التسيير، وقدرت إعانة الدولة المخصصة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي بست مليارات دينار أي بنسبة 1.29 في المئة.

ويدعو رئيس المجلس الجزائري للبحث العلمي والتكنولوجيات محمد الطاهر عبادلية، إلى "مراجعة نظام البحث الوطني الذي تأسس عام 1973، الذي يعاني المحدودية"، مشيراً إلى وجود إرادة سياسية لعلاج نقاط الضعف الخاصة بالبحث العلمي. ويقول إن المجلس مستعد لاتباع نظام حوكمة أفضل في مجال البحث العلمي، لا سيما من خلال ترشيد استعمال الموارد وتحسين الخدمات.

واقع ضبابي

وعن واقع التعليم العالي والبحث العلمي يقول الباحث في جامعة الجزائر رشيد أوقاص، "لدينا عديد من الجامعات ومراكز البحث والمعامل والمعاهد المتخصصة في كل الميادين العلمية ما يثري الرصيد الوطني في البحث العلمي ويغني الجزائر معرفياً ويؤهلها لتحقيق وثبة حقيقية في كل الميادين، ويحسن من مرتبتها في البحث العلمي. لكن الواقع أيضاً يشير إلى أن البحث العلمي في الجزائر يعيش وضعاً أقل ما يقال عنه أنه في مستوى لا يستوعب الحاصل المعرفي العالمي، ولا يلبي حاجات المواطن البسيطة. ولا يمكن بحالته الحالية عقد أي آمال عليه لتحقيق نهضة حقيقية تشارك في رسم معالم الدولة الحديثة سياسياً وفكرياً واقتصادياً وعلمياً واجتماعياً".

ويشير أوقاص إلى أن النظام المعمول به ما زال يركز على المنحى التعليمي التلقيني منذ المرحلة الابتدائية. ويعتبر أن هذا النظام هو الذي أثر سلباً في الواقع المعرفي الذي يميل إلى الحشو، داعياً إلى إعادة النظر في محتوى المناهج الدراسية، وتقييم الأوضاع العلمية والمعرفية، بناء على واقع الحياة وحاجات المستقبل.

 

ويقول إن البحث العلمي في الأساس هو بحث منهجي في المعرفة وبنائها، ويجيب عن الأسئلة المنهجية الكفيلة بتطوير الحياة البشرية، بيد أنه في الجزائر بحاجة إلى إعادة النظر في منهجية تسيير القطاع وتصحيح مساره.

وبخصوص وجود معايير واضحة لقياس الأثر الحقيقي للبحث العلمي، يقول مدير مخبر بحوث ودراسات الميديا الجديدة بجامعة المسيلة محمد دحماني لـ"اندبندنت عربية"، إن الاستراتيجية التي وضعتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تساعد في انخراط الجامعة في محيطها الاجتماعي والاجتماعي، وجعلها قاطرة للنمو. لكن الأمر لا يخلو من مشكلات وعراقيل أبرزها هجرة الأدمغة التي يصفها بـ"السرطان الذي ينخر جسد دول العالم الثالث".

ويقول الإعلامي الجزائري محمد طيبي، "البحث العلمي ونجاحه مرهون بمدى عناية الدولة بمنظومتها التعليمية وبكفاءاتها العلمية، وبما ترصده من إمكانات مالية لمراكز البحث، وأيضاً مدى تشجيعها للقطاع الخاص للاستثمار في هذا المجال، بعيداً من الشعبوية والتكريمات الفلكلورية لبعض الوجوه العلمية المهاجرة لاستقطاب الرأي العام"، مشيراً إلى أن الواقع يخلو من أية نتيجة تذكر في هذا الصدد.

وعن الإنفاق على البحث العلمي، فهو أحد وسائل قياس اهتمام الدول به حيث تعقد المقارنات بين نسبة ما يجري إنفاقه على العلم والبحث، وما ينفق على بنود أخرى. ويلفت طيبي الاهتمام إلى حجم الإنفاق العربي على البحث العلمي، وهو الإنفاق الذي كلما زاد تقلص تهديد هجرة الأدمغة العلمية إلى الخارج.

العراق... هجرة أدمغة 

هجرة الأدمغة العلمية تمتد إلى العراق أيضاً. تقول الأستاذة في جامعة بغداد بثينة نعمة ثويني إن واقع العراق السياسي غير مستقر أدى إلى ملاحقة بعض العلماء بسبب أفكارهم السياسية وطروحاتهم الفكرية، وهو ما أثر سلباً في الحريات الأكاديمية، وصارت التعامل معهم يعتمد إلى حد كبير على انتماءاتهم المذهبية والسياسية. وتضيف ثويني أن الأمر وصل إلى درجة اغتيال عدد كبير من العلماء والاطباء وأساتذة الجامعات المميزين، لا سيما في المجالات النووية والكيماوية والهندسية والصناعية.

وتؤكد أن أعداداً متنامية من العلماء العراقيين تسعى إلى الهجرة بحثاً عن الأمان وكذلك بحثاً عن وضع اقتصادي أفضل، ووصل عدد العملاء المهاجرين منذ عام 2003 إلى نحو 17 ألف عالم.

العامل الاقتصادي أصبح قوة طاردة لعملاء العراق الذين يعانون تدني الرواتب وظروف العمل وكذلك التهميش من قبل القيادات.

 

الطبيب العراقي المهاجر إلى السويد أحمد عصمت يؤكد ظاهرة هجرة الأدمغة، وتفريغ العراق من مضمونه البحثي والعلمي. يقول إن ما يحدث حالياً من أجواء طاردة للعلماء والبحث العلمي يجري منذ ستينيات القرن الماضي، "لكن الكارثة الكبرى تجسدت في السنوات العشرين الماضية عن طريق التهجير القسري شبه المنظم والقتل المتعمد لكثيرين. كل ذلك أدى إلى ضياع القواعد الأساسية في أصول العلم والتعليم، وانعكس ذلك بوضوح على البحث العلمي في العراق في جميع الاختصاصات."

وقال إن البحث العلمي بحاجه إلى جامعة رصينة، مستقلة عن توجهات الدولة السياسية، على الأقل في قراراتها، وبعيدة من إقحام الدولة في عملها وأهدافها العلمية المفيدة للمجتمع.

على رغم ذلك فإن مواد عديدة في الدستور العراقي لسنة 2005 تنص على حق التعليم، واعتباره حقاً مقدساً لا يجوز التنازل عنه. يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة النهرين سلمان على حسين إن العراق من أول الدول التي أكدت أهمية العلم والبحث العلمي. كما سعت قوانين وزارة التعليم العالي العراقية وتعليماتها النافذة إلى التواصل والاستمرار في التحديث بما يتناسب وطبيعة تطور البحث العلمي في بلدان العالم، سواء على مستوى الدراسات الأولية أو الدراسات العليا، عبر حث الباحثين على مواصلة نشر البحوث في للارتقاء بالمستوى العلمي والعمل على تطوير الجامعات، سواء في الميادين العلمية المختبرية أو الدراسات الإنسانية، إضافة إلى تخصيص موازنات معقولة للبحث العلمي.

بحوث حبيسة الأرفف

يقول حسين إن قياس أثر البحث العلمي يخضع لمعايير معتمدة ومحددة، كما أنه وثيق الصلة بالاقتصاد، حيث حجم ونوع البحث العلمي يتم تحديده بحسب احتياجات الدولة، ولا تقبل البحوث الخارجة عن السياق العام للمجتمع واحتياجات السوق.

ويشير إلى أنه بسبب الحروب والحصار وعدم الاستقرار السياسي بعد عام 2003، جرى تجاهل عديد من هذه المعايير. وأصبح الهم الأكبر لوزارة التعليم العالمي استيعاب مخرجات وزارة التربية أكثر من السعي إلى تقديم مخرجات تخدم المجتمع، فتم إهمال عديد من البحوث المهمة التي كان في مقدورها أن تخدم المجتمع، أو جرى إنجازها لكن بقية حبيسة الأرفف.

ويؤكد سلمان آسفاً أن هذه البحوث هي التي تطرح المعالجات الحقيقية والواقعية لمشكلات الدولة والمجتمع، ولا بد من الاهتمام بها وتخصيص موازنة محددة تمكن العلماء من الإسهام في إنقاذ المجتمع.

 

ويدق على وتر عدم الاستقرار السياسي وأثره السلبي في العلم والعلماء أيضاً. الأستاذ في الحوزة العلمية فالح الموسوي، الذي يقول إن الشعوب المستقرة سياسياً والمرفهة اقتصادياً تبدع في التفكير البحثي والمعرفي، وكلما كانت البيئة العلمية مستقرة يكون الخط البياني للارتقاء بالبحث العلمي تصاعدياً. كما يمكن أن يكون لنوع الصراعات وحجمها تأثيراً في بلورة الثقافة العامة أو تشكيل قناعات نوعية ترسم خريطة التفكير البحثي، وتؤثر سلباً في مخرجاته العلمية.

ويضيف "لا تخفى حالة التأخر لدى المؤسسات البحثية العربية في مواكبة مسار البحث العلمي العالمي، نتيجة تأخر العالم العربي عن ركب العالم وتفاعله معه. فالمحيط العربي يحتفظ بإرث حضاري ومعرفي عميق، إلا أنه لم يخضع للتطوير، ولم يواكب حركة البحث المؤثرة في مسار الحضارة. كما يلعب الجانب الأيديولوجي دوراً كبيراً في رسم السياسات العامة للبحث العلمي".

أما الأستاذ في قسم المسرح عماد هادي الخفاجي والحاصل على براءتي اختراع في تقنيات المسرح فيقول إن المعضلة الرئيسة في البحث العلمي في العراق هي التمويل، ضارباً مثلاً بما ابتكره من تقنيات مفيدة للمسرح، لكنها ظلت حبيسة الوراق، بسبب عدم وجود تمويل للتنفيذ بطريقة علمية صحيحة، وهو ما يمثل بيئة طاردة للعلم والابتكار والعلماء.

السودان... بيئة طاردة 

بيئة مشابهة يعاني منها السودان يتحدث عنها المحاضر الجامعي ومؤسس "مركز العز بن عبدالسلام للعلوم والثقافة" في الخرطوم عز الدين عمر موسى الذي يتساءل: "لماذا هاجر علماء السودان من الجامعات السودانية إلى جامعات الخليج العربي والجامعات الأفريقية؟ هل الأسباب مالية فقط؟ أم البيئة المحيطة لا تمكنهم من التفوق العلمي ناهيك بالمشكلات الاجتماعية والمجاملات التي تهدر أوقاتهم؟".

وعن دور القطاع الخاص في التعليم والبحث العملي، يقول إن المركز الذي أسسه جرى تشييده بأموال مؤسسيه مع بقاء أيدي الرغبة في التعاون ممدودة للقطاع الخاص. مشيراً إلى أن المطلوب هو أوقاف منظمة ومقننة من أصحاب المال والأعمال لدعم البحث العلمي. وفي ظل عدم وجود ذلك، يجد نفسه متشائماً في ما يتعلق بمستقبل البحث العلمي في السودان.

وعلى رغم ذلك، يقول إن مكانة العلم والعلماء في السودان وحجم الاهتمام الرسمي والشعبي بهم عميقة الجذور. وتمثل ذلك في إنشاء المدارس والمعاهد العلمية منذ دخول الحكم التركي للبلاد. وتمثل ذلك في إنشاء أول مدرسة متوسطة في الخرطوم باسم الأميرية، ثم تبعها التعليم الحديث بإنشاء كلية غردون التذكارية في العام 1902، التي كانت البذرة الأولى لجامعة الخرطوم، ثم توالى تأسيس الجامعات ومعاهد العلم.

مثقفون لا علماء

وأشار إلى أن ما سماه بـ"انهيار التعليم الحكومي" في الآونة الأخيرة وانتشار التعليم الخاص، تحول جانب من التعليم عملاً استثمارياً، "ومن الطبيعي أن ينتج هذا التطور مثقفين، لكن ليسوا علماء ورواداً". وأشار إلى أن "الانحدار في التعليم لا يستغرب أن يرافقه عدم اهتمام من جانب الدولة بالبحث العلمي. فإذا كانت الدولة لا تهتم بالمعلمين الذين هم أساس العملية التعليمية، فكيف تخصص موازنات للبحث العلمي صادرة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. هذه الموازنة على الورق فقط. وعلينا أن نقارن أنفسنا بإسرائيل التي تخصص اثنين في المئة للبحث العلمي من الدخل القومي، أما في الدول العربية مجتمعة، بما فيها السودان فتخصص اثنين من ألف، مما تعد كارثة في حق البحث العلمي".

 

ويشير موسى إلى أن الدستور السوداني يتطرق إلى أهمية البحث العلمي، لكن المشكلة تكمن في التطبيق. يقول "توجد مقاييس ومعايير للبحث العلمي، لكن هل يجري تطبيقها في واقعنا العلمي؟ هناك مقاييس مثلاً عن المقدار المسموح به للاقتباس من الكتب والإشارة لذلك، فهل نتبعها؟ لا أعتقد. ولا أعرف إن كان ذلك سببه الكسل أم الخوف من الحسد". وأشار موسى إلى وجود مؤلفات تتطرق إلى تفشي ظاهرة الحسد بين العلماء سيما المعاصرين"!.

وبعيداً من الحسد بين العلماء، يقول رئيس هيئة علماء السودان الأسبق إبراهيم الكاروري أن أغلب الشعوب تسعى إلى تطوير معارفها وعلومها في كل المناهج العلمية بهدف مواجهة الأمراض وعلاجها على سبيل المثال. كما أن البحث العلمي الجيد ينعكس إيجاباً على تحسين مستوى المعيشة للمواطنين، ويحسن من الأداء الاقتصادي للدول. وشدد على دور الدول الراغبة في التطور والنهوض في توفير البيئة الصديقة للعلم والداعمة للعلماء حتى لا يضطروا إلى الهجرة إلى دول تدعم البحث العلمي والعلماء عملياً لا نظرياً.

سوريا... بين الدستور والواقع

نظرياً المادة 31 من الفصل الرابع من الدستور السوري تقول "تدعم الدولة البحث العلمي بكل متطلباته، وتكفل حرية الإبداع العلمي والأدبي والفني والثقافي، وتوفر الوسائل المحققة لذلك، وتقدم الدولة كل مساعدة لتقدم العلوم والفنون، وتشجع الاختراعات العلمية والفنية والكفاءات والمواهب المبدعة وتحمي نتائجها".

وفي عام 2005 صدر مرسوم تشريعي رقم 68 ينص على إحداث الهيئة العليا للبحث العلمي ومقرها دمشق وترتبط برئيس مجلس الوزراء، وتهدف إلى رسم السياسة الوطنية الشاملة للبحث العلمي والتطوير التقاني واستراتيجياتهما.

 

هذا في الشكل، أما في المضمون، يبدو أنه حتى العاملين في المجال العلمي لم يسمعوا بعد بالهيئة. يقول مهندس معماري حاصل على ماجستير تخطيط وعمارة مدن ومدرس في جامعة تشرين فضل عدم ذكر اسمه: "لا أستطيع تقييم عمل هذه الهيئة فلم أسمع عنها سابقاً، فلا يوجد منجز يذكر لها على الصعيد العلمي. أثناء عملي على رسالة الماجستير اصطدمت بعوائق عدة، فمشروعي كان يصب في البحث عن منهجيات تحقيق الاستدامة التخطيطية للساحل السوري، وهذا يتطلب جمع المعلومات الحقيقية والموثقة وتحليلها كمهمة أولية، لكن الحصول على معلومة واحدة لم يكن بالأمر السهل، فقد اضطررت إلى طرق عدد من الأبواب داخل المؤسسات المختصة في نطاق بحثي، ولا أعلم لماذا كانوا خائفين من تقديمها لي، كما كانوا يعتبرون أن هذه المعلومات خطرة جداً على أن يحصل عليها طالب دراسات عليا".

يقف الباحث مشدوهاً أمام ما يراه أو يعترضه من أجواء تناهض توفير المعلومات، فالدستور والمرسوم كفلا له حقوقه في ما يريد إنجازه عبر بحثه، لكن بعض القائمين على هذه المؤسسات مبتلى بعقلية فردية تجعله مزاوداً على ما جاء في الدستور والقانون، ظناً منه أنه يحمي الوطن، بينما هو يتبع سياسة لا توصل إلا للدرك الأسفل. فطالب الدراسات العليا تعرض لابتزاز مالي، "لقد وافق بعضهم على إعطائي المعلومات، لكن بشرط أن أدفع له مقابلاً مادياً"، وهذا ما جعله يلجأ إلى توثيق علاقته ببعض الأشخاص، الذين ربما يستطيعون تقديم معلومات مؤكدة شرط أن لا يفصح عن مصدرها.

حالة فريدة

وفي حالة فريدة، استطاع الباحث في الفيزياء النظرية رائد شيا، الحاصل على شهادة البكالوريوس في الفيزياء من جامعة دمشق، تقديم نسخة جديدة من التفسير الإحصائي لميكانيكا الكم تستند إلى صياغة جديدة وموسعة لنظرية الاحتمالات، كما نشر منذ مدة ورقة بحثية محكمة تابعة لجهتين علميتين هامتين IET وWiley.

يقول شيا إن البحث العلمي في سوريا شبه معدوم، وهذا واضح من ترتيب الجامعات السورية وانعدام الأبحاث والجوائز العلمية الحاصلة عليها تقريباً. ويعزو أصل المشكلة للمنظومة التعليمية وغياب واضح للمنهج العلمي ولأسس التفكير المنطقي. ويشير إلى أن غياب الطرح العلمي وأسس التفكير النقدي عن منهاج التعليم له عميق الأثر، كما أن من يصيغون هذه المناهج لا يمتلكون بغالبيتهم طريقة التفكير هذه، ويظهر هذا من خلال غياب الاتساق في المادة العلمية ذاتها، إضافة إلى عدم وجود صلة وصل بين الفروع مع بعضها بعضاً كالفيزياء والرياضيات.

 

شيا دفع ثمن هذا الوضع الذي أخر تخرجه عدة مرات عبر اتجاهه للتعلم ذاتياً، وهذا ما أدى إلى معرفته تفاصيل وطرق تتعارض مع ما يدرسه في الجامعة، إذ لم يكن يستطيع حفظ وتقديم امتحان بمعلومات هو غير مقتنع بها. يقول "في الجامعات الوضع أسوأ، وذلك بسبب شبه غياب للرقابة عن المدرسين وآلية عملهم، إضافة إلى معاملة المواد العلمية معاملة أية مادة حفظية يطلب من الطالب حفظها لتقديمها في الامتحان وعند الانتهاء منها ينساها، فيتخرج في الجامعة من دون تكوين علمي، إضافة إلى كونه معرضاً للإيمان بشتى أنواع الخرافات.

وقد أسهمت الأوضاع السياسية والأمنية في سوريا بتعجيل هجرة الشباب السوري، بخاصة من لديه شيء يريد تقديمه والعمل عليه. واستطاعت البلدان التي هاجروا إليها إلى حد ما فتح باب الفرص لهؤلاء الشباب الذين لا تمر فترة من دون بروز اسم أحدهم في إنجاز واضح ومميز.

أما عن مستقبل البحث العلمي في سوريا، فيربطه شيا بالحل السياسي، "وأن تصبح سورية دولة علمانية، وتعمل على فصل السلطات والمحاسبة وتفعيل دور القضاء والقانون. عندئذ نستطيع أن نعقد الآمال على تكوين مستقبل علمي في هذا البلد".

لبنان... الجامعات صامدة رغم الأزمة

ومن سوريا إلى لبنان حيث إنفاق الدولة على البحوث العلمية لا يتخطى نسبة 0,02 في المئة (2019)، دون تناول الجامعات الخاصة التي تلعب دوراً أيضاً في هذا المجال. وبعيداً من قلة الاستثمار في هذا الجانب الحيوي، تشير الأمينة العامة للمجلس الوطني للبحوث العلمية الدكتورة تمارا الزين، في حديثها مع "اندبندنت عربية"، إلى أن هذه البحوث لم تكن تسهم حتى في اتخاذ القرار، ولا تستند السلطة السياسية إلى نتائجها لوضع سياسات عامة. وأكثر بعد، لم تكن هذه البحوث تسهم في التنمية الاجتماعية، كما من المفترض أن يحصل، وهي لم تتمكن أيضاً من تقريب المواطن من العلوم وتوعيته حول أهمية البحوث العلمية ليدرك أهمية أن يطلق أحكامه على أسس علمية.

وتضيف الزين أنه من صلب مهمات المجلس وضع سياسة علمية وتنفيذها ودعم طلاب الدكتوراه في الجامعات والمشاريع البحثية. تقول: "قبل الأزمة كان ذلك يطبق ولو بنسبة معينة، لكن بعدها، لم يعد ذلك ممكن".

تشير أرقام الدراسة الأخيرة للمجلس الوطني للبحوث العلمية إلى أن 90 في المئة من مجمل المقالات العلمية تنتجه تسع جامعات كحد أقصى لها إمكانات لذلك، من 50 جامعة في البلاد. الجامعات الكبرى استطاعت الصمود في مسار البحث العلمي بفضل الدعم الخارجي وليس بدعم الدولة، خصوصاً أن مؤسسات الدولة بذاتها لم تحصل على أي دعم في هذا المجال. أما في السابق، فكان تمويل بحوث الجامعات يشكل نسبة 80 في المئة من مجمل نفقات المجلس الوطني، فكان يخصص الدعم لـ 60 منحة دكتوراه و400 مشروع بحثي.

ضوء في نفق الأزمة

حالياً تبقى معظم المشاريع البحثية في البلاد عبارة عن مشاريع صغيرة قصيرة المدى، فيما الأجدى أن يذهب التمويل إلى مشاريع بحثية كبرى بعيدة المدى ذات فائدة كبرى. على رغم ذلك تبقى هناك نقاط مضيئة على رغم الأزمات، فلبنان في مراتب متقدمة بين الدولة العربية، من حيث المؤشرات الكمية، وبالنظر إلى أعداد الباحثين فيه، خصوصاً أنه أقدم في الثقافة البحثية من دول عربية أخرى.

ومن حيث الجودة العلمية للأبحاث يعتبر لبنان من الأفضل في هذا المجال. وهذا لا يزال حقيقياً حتى بعد الأزمة بالنظر إلى مستويات الباحثين الموجودين في لبنان، وفق الزين. لكن من المتوقع أن تتراجع القدرة على الصمود في هذا المجال، في ظل الأزمة، إلا في حال تأمين التمويل الخارجي اللازم. لذلك تتكثف المساعي لتأمين الدعم للبحوث من مصادر محددة، سواء على صعيد الدولة أو على صعيد الجامعات، حول مواضيع محددة.

 

وقد عادت الأزمة بإيجابيات عندما أكدت للكل استحالة الاستمرار بالتمويل العشوائي من دون سياسة واضحة. فأصبح وضع خطط واضحة ضروري لتنمية جوانب معينة وتمويل البحوث العلمية، فأصبحت الإعلانات موجهة وفق خطط معينة. الهدف اليوم العمل على بحوث علمية تسهم باتخاذ القرار من حيث المعطيات التي تقدمها، والأهم هو الخروج بناتج بحثي معين يسهم بالتنمية أو بوضع سياسات معينة في الدولة.

ومن الخطط التي توضع حالياً في سبيل تعزيز دور البحث العلمي، تطوير العلاقة بين العلم والمجتمع لوجود شرخ واضح بينهما. فيجب أن يكون البحث العلمي في متناول المجتمع للاستفادة منه، وتصل المعلومة العلمية بطريقة أقرب إلى الناس يتطلب مهارات معينة لتعميم البحوث ونشرها على نطاق أوسع لتترك أثراً حقيقياً لدى الناس.

لذلك يبقى البحث العلمي محصوراً في بيئة أكاديمية، فيما المطلوب تخطي التفكير التقليدي في النظر إلى البحث العلمي حتى لا تذهب جهود الباحثين سدى. هذا، مع ضرورة التعاون وجمع الأبحاث العلمية التي ثمة تداخل بينها لخدمة المجتمع.

سجن التصنيف

وطالما أن الجامعات لم تخرج من السجن الذي وضعت نفسها فيه بسبب التصنيف المعتمد على الكميات، يبقى الباحث مضطراً إلى إهمال مختلف المعايير الأساسية لينتج كماً أكبر من البحوث سنوياً. فالتصنيفات هذه لها تداعيات خطرة على البحوث العلمية، ولا يمكن الاستهانة بها.

أما تأثير الدين أو السياسة فينحصر في الأغلب، وبشكل محدود في العلوم الإنسانية. قد تتأثر هذه البحوث بأفكار الباحث عندما لا يرتكز على المعايير العلمية المطلوبة، وهو ما يصعب تخطيه في لبنان. وقد يضطر الباحث إلى التعديل في بحثه بما يتناسب مع الناشر ما يحد من هامش الحرية الأكاديمية.

تكثر التحديات في لبنان أمام البحوث العملية، لكن الخطأ الأكبر هو التركيز على التكنولوجيا فيما يمكن الإبداع في مجال العلوم الإنسانية، نظراً إلى التنوع الموجود فيه للانطلاق في البحث العلمي. اعتماد الجامعات على التكنولوجيا على حساب العلوم الإنسانية والاجتماعية بدلاً من وضعها ضمن أولوياتها، من الخطوات التي سيدفع ثمنها المجتمع في السنوات المقبلة.

وبحسب الزين، فإن لبنان غير قادر على المنافسة في مجال البحوث العلمية المتعلقة بالتكنولوجيا، خصوصاً أن الإنفاق يبقى محدوداً في هذا المجال بالمقارنة مع الدول الكبرى الصناعية. لذلك ترى أن الأفضل التركيز على نقاط القوة والاستثمار فيها بدلاً من الاستثمار في المكان الخطأ. تقول: "هذه البلاد حقول اختبار في المجالات الاجتماعية والإنسانية، ولا بد من الاستفادة من ذلك".

المغرب... مرتبة متأخرة

حقول اختبار أخرى تستحق مكانة أفضل في العلم والبحث العلمي موجودة في المغرب. وعلى رغم ذلك، فإن واقع الحال يشير إلى أن البحث العلمي ليس أولوية. واقع الحال يشير إلى قلة الاهتمام بالبحث العلمي، وعلى رغم وجود عديد من الجامعات والمعاهد والمؤسسات الحكومية والقوانين التي الداعمة، ناهيك عن سلسلة البرامج الإصلاحية في مجال التعليم، إلا أن مرتبة المغرب البحثية متأخرة.

مجال البحث العلمي ما زال في طور الإنشاء، حيث المؤسسات المنظمة له بدأ إنشاؤها في مطلع الألفية. ويشير المجلس الأعلى التربية والتكوين والبحث العلمي (الحكومي) في تقرير صدر عام 2022 أن نظام البحث العلمي الذي أنشئ حديثاً بالمغرب بمساهمة أولى الجامعات، تمكن من تحقيق عديد من المكاسب التي من شأنها فتح آفاق جديدة في مجال المنافسة بين الجامعات ومراكز البحث العلمي على المستوى الدولي، وكذا في إطار القيمة المهمة لمجال المعرفة.

فجوة التوصيات والواقع

وعلى رغم ذلك لا يحظى البحث العلمي بالاهتمام المطلوب في السياسات العامة المتعاقبة منذ الاستقلال. ويسلط الأستاذ الباحث في مجال القانون يونس مليح، الضوء على قيمة البحث العلمي كإحدى أهم الأدوات في عملية تطوير مجتمع المعرفة وقوة دافعة للتنمية، إضافة إلى الأهمية المحورية للاقتصاد القائم على المعرفة.

وأضاف أن المغرب ينفق أقل من واحد في المئة من الناتج الداخلي الخام على مجال البحث العلمي، مشيراً إلى أنها "موازنة ضعيفة بمقياس المعايير الدولية، (البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة) التي تحدد نسبة الإنفاق المثالي على البحث العلمي في أكثر من اثنين في المئة، وتكون جيدة إذا كانت من اثنين في المئة إلى 1.6 في المئة، ومن 1.6 في المئة إلى واحد في المئة تكون حرجة، ودون ذلك ضعيفة جداً". ويقول إن "إنفاق المغرب على البحث العلمي يبقى أقل من الأهداف المنصوص عليها في الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، حيث حدد تخصيص 1.5 في المئة من الناتج الداخلي الخام في أفق 2025، واثنين في المئة في أفق سنة 2030". مضيفاً أن الموازنة المرصودة للبحث العلمي بالمقارنة مع دول عربية كالإمارات العربية المتحدة مثلاً التي تنفق 1.45 في المئة من ناتجها الإجمالي المحلي على البحث العلمي، تبقى ضئيلة ولا ترقى للمستوى المطلوب.

 

وتحدثت مديرة الهيئة الوطنية للتقييم لدى المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي رحمة بورقية، عن ضعف الإنتاج العلمي في المغرب على رغم التطور الطفيف للبحوث في التخصصات الصاعدة، موضحة أن من أبرز التحديات غياب التربية على البحث والثقافة العلمية في مراحل التعليم الأولي، فينشأ الصغار من دون تربية عملية وبحثية.

ويقول الباحث يونس مليح إن المغرب يحتل المرتبة 85 من أصل 132 دولة في مؤشر المعرفة العالمي، الصادر في تقرير المعرفة العالمي لعام 2022. كما أشار التقرير إلى تواضع المغرب من حيث البنية التحتية المعرفية، حيث يحتل المرتبة 85 بين 132 دولة في مؤشر المعرفة العالمي 2022 والمرتبة الرابعة بين 25 دولة ذات تنمية بشرية متوسطة، بينما احتل في مجال البحث والابتكار والمعرفة المرتبة 84.

بطالة وهجرة

وبسبب أزمة البطالة المزمنة وبسبب يفضل كثيرين من الشباب من ذوي الكفاءات الهجرة إلى الدول الغربية لضمان مستقبل مهني جيد، يشير يونس مليح إلى أن إحصاءات الأمم المتحدة تبرهن على ظاهرة هجرة الأدمغة والكفاءات العربية من بلادها. ويرجع الأسباب إلى ‏عدم تقدير العلم والعلماء، وعدم ثقة الدولة في أصحاب الاختراعات والأفكار، وعدم وجود المناخ الملائم للبحث العلمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقترح مليح حزمة من الحلول للارتقاء بالعلم والبحث العلمي في المغرب. يقول "يجب العمل على إيجاد حلول للربط بين البحث العلمي والواقع العملي، وعدم الفصل بين البحث العلمي والمشكلات الواقعية بالمجتمع، بخاصة في مجالات تطرح مثل المياه والزراعة والطاقات المتجددة وتحقيق السيادة الرقمية، إضافة إلى إنشاء مراكز تنسيق بين مختلف المؤسسات والمنشئات البحثية وربطها بالقطاع الخاص"، محذراً أنه من دون البحث العلمي لن يستطيع المغرب تجاوز هذه النقائص مستقبلاً، ولن نستطيع الوصول إلى حلول لمشكلات اليوم فكيف بضغوط  الغد؟".

ضغوط الغد عليها أن تدفع الدول العربية لمزيد من التفكر في وضعها العلمي والبحثي ومكانة علمائها. الدول العربية يشار إليها باعتبارها "العالم العربي". هذا العالم يتشارك في التاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة، وكذلك في أجواء العلم والبحث العلمي. وإذا كانت دول العالم المتقدم أدركت منذ عقود طويلة أن الطريق الوحيد للتطور وحل الأزمات هو طريق البحث العلمي وتطوير المعارف وتوسيع آفاقها، إلا أن هذا الإدراك متعثر بعض الشيء عربياً.

العلم والعلماء والبحث العلمي وأجواء العلم في أغلب الدول العربية تواجه ترسانات من الصعوبات والمقاومة، ناهيك بانتشار عدم الاستقرار السياسي وأحياناً الأمني في عديد من دول المنطقة. وعلى رغم ذلك، تظهر المنطقة شغفاً بالتصنيع والتطوير، لكن اعتماداً على منتجات الغرب التقنية والفكرية والعلمية.

الاهتمام بالكم على حساب الكيف، والاكتفاء بمعدلات النشر ونسب الاقتباس، وضعف مخصصات الإنفاق على العلم والعلماء، وعدم وضوح أو ربما هدم وجود رؤية واضحة حول "ماذا يريد العرب من أنفسهم في ما يختص بالعلم والعلماء؟" جميعها يؤدي إلى المرتبة الحالية غير المرضية للعلم والبحث العلمي العربي.

يشار إلى أنه منذ بدء منح جوائز نوبل في عام 1901 في مجالات السلام والأدب والاقتصاد والطب والكيمياء والفيزياء، حصلت الدول العربية على ثماني جوائز ذهبت أربع منها لشخصيات مصرية. وبين الجوائز الثماني، ست في السلام وواحدة في الأدب للأديب المصري الراحل نجيب محفوظ، وواحدة في الكيمياء للعالم المصري الراحل أحمد زويل.

مؤسسات علمية غربية عدة تبحث وتنقب وتكتب محللة حول "لماذا أدار العالم العربي ظهره للعلم؟". أما الأسباب الحقيقية فتبقى لدى أصحاب الشأن وقيد إرادة من يهمهم وبيدهم الأمر.

المزيد من تحقيقات ومطولات