ملخص
شملت عمليات الهدم في وسط #مدينة_بنغازي إزالة مبان كانت شاهدة على أحداث بارزة في تاريخ #ليبيا وأخرى عتيقة من العهدين #العثماني والإيطالي.
جزء كبير من تاريخ مدينة بنغازي الحديثة تحول إلى ركام، وجزء آخر بات مهدد بالمصير نفسه، بعدما باشرت السلطات في إزالة أحياء بكاملها في المنطقة التي يطلق عليها السكان "وسط البلاد"، من دون استثناء بعض المباني التي تحمل إرثاً عريقاً، وكانت جدرانها شاهدة على أحداث بارزة في تاريخ ثاني أكبر المدن الليبية.
ولأهمية المنطقة التي تتم فيها عمليات الهدم، كان من الطبيعي أن يثار جدل كبير بين المدافعين عن إرث بنغازي ودعاة الحداثة الذين باركوا عمليات إعادة البناء لهذه الأحياء العتيقة، خصوصاً بعد تعرض غالبية المباني فيها لأضرار جسيمة بسبب المعارك بين قوات الجيش والجماعات الإرهابية بين عامي 2014 و2017، زاد في تأجيجه غموض البدائل وطبيعة مشروع تطوير هذه المناطق.
مشروع غامض
ومما أسهم في زيادة الأصوات المعترضة على عمليات الهدم التي تشهدها مناطق وسط بنغازي العريقة، عدم الكشف عن هوية الجهة التي تتولى عمليات الإزالة والجهة التي ستقوم بإعادة البناء، والنسق المعماري التي ستتبناه في إعادة إعمار هذه المنطقة التي تعج بالمباني التي شيدت في العهدين العثماني والإيطالي.
ولا تقتصر أهمية هذه الأحياء على جماليتها وطابعها العمراني المميز، بل لبعض مباني وسط البلاد خصوصية أخرى بسبب الأحداث التي وقعت فيها مثل مبنى المحكمة الإيطالية التي حكم فيها بالإعدام على قائد المقاومة الليبية ضد الاستعمار الإيطالي عمر المختار وقصر "المنار" الذي أعلن منه استقلال البلاد عام 1951 ومبنى البرلمان البرقاوي الذي شيّد في عشرينيات القرن الماضي، وسوق "الحوت" أعرق أسواق المدينة وأشهرها، وغيرها الكثير.
كما أن بعض البيوت في هذه المنطقة ولد وعاش فيه أبرز الأسماء السياسية والأدبية والرياضية والفنية التي أنجبتها بنغازي، ويكفي أنها قدمت للبلاد قامات فكرية مثل الأديب والمفكر المعروف الصادق النيهوم والكاتب الشهير خليفة الفاخري وشعراء من طينة علي الفزاني ومحمد الشلطامي ورفيق المهدوي، التي كانت مقاهي "وسط البلاد" وأزقتها شاهدة على سجالاتهم الأدبية ومبارزاتهم الفكرية.
وفضلاً عن معالمها الإسلامية الكثيرة، تشتمل مدينة بنغازي على مبان تاريخية مهمة أخرى تعود إلى العهد الإغريقي إضافة إلى فترتي الاحتلال الإيطالي والعهد العثماني، ومن بينها منارة بنغازي الشهيرة، ومعسكر "القشلة" التركية والقصر العثماني ومبنى الكاتدرائية والكنيسة الكاثوليكية والمحكمة الإيطالية ومكتبة المدينة التاريخية ومطبعة برقة ومبنى الولاية سابقاً وغيرها.
تعويض ضئيل
ومن الأسباب الأخرى التي تسببت في اعتراض سكان وسط بنغازي على عمليات الهدم التي طاولت بيوت بعضهم وأحياءهم، كان التعويض الزهيد الذي عرضته عليهم السلطات مقابل إخلاء منازلهم على رغم مواقعها المميزة في قلب المدينة، والذي لم يتجاوز 100 ألف دينار (حوالى 20 ألف دولار تقريباً)، من دون وجود أي توضيح من الجهات المسؤولة عن سبب حملة الهدم أو عن أهدافها، وهو مبلغ لا يكفي لشراء مسكن حتى ولو كان شقة صغيرة بعد الزيادة المطردة في أسعار العقارات بالسنوات الأخيرة، التي من المرجح أن ترتفع أكثر بسبب عمليات الهدم الجارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل هذه الأسباب وغيرها، دفعت 29 حزباً ومنظمة أهلية، في بنغازي، إلى المطالبة بـ "الإيقاف الفوري للأعمال الجارية التي تستهدف المباني التاريخية في مدينة بنغازي، مع توضيح برنامج إعادة الإعمار وأهدافه، تحقيقاً للشفافية، واستجابة لمناداة أبناء المدينة المتكررة لذلك".
وطالبت الأحزاب والمنظمات الأهلية، في بيان، "الجهات القائمة على إعادة الإعمار بالالتزام بالمسؤولية عن حفظ وحماية المباني التاريخية التي ترجع إلى عهود سابقة قديمة، ما أكسبها قيمة تاريخية كبيرة، فأصبحت تمثل جزءاً من تاريخ مدينة بنغازي، وتطورها عبر العصور والعهود التاريخية، وسمة من سمات المعمار التاريخي"، ودعت أيضاً إلى "ضرورة الاستعانة بالخبرات الوطنية في مجال الآثار والتراث والتنسيق من خلال لجنة مشتركة محايدة في المدينة لحماية هذا الموروث المعماري وعدم الإخلال بالتشريعات الوطنية والقرارات الصادرة عن منظمة اليونسكو الخاصة بالمباني التاريخية والقديمة".
خسارة إرث كبير
من جانبها، اعتبرت مراقبة آثار بنغازي أن "الآلية المتبعة في إزالة المباني التاريخية في منطقة وسط البلاد، وبهذا الأسلوب ستسبب بخسارة هذا الإرث العمراني التاريخي"، وأضافت أنها "قامت بدورها إدارياً بمراسلة عميد بلدية بنغازي وجهاز إعمار بنغازي تستوضح عن برنامج الإعمار وأهدافه"، موضحة أنه "لم تتواصل معها أي جهة معنية بهذا الخصوص". وتابعت المراقبة "أوردنا توصياتنا بالمحافظة على هذا الإرث، وأن تؤخذ كل التجارب السابقة عالمياً كنماذج لإعادة هذه المباني التاريخية كما كانت عليه، مع المحافظة على النسيج العمراني التاريخي للمدينة التاريخية"، وشددت مراقبة آثار بنغازي على أنه "لا بد من تكاتف الجهود من كل الجهات ذات العلاقة، مصلحة الآثار، وجهاز المدن التاريخية، والشرطة السياحية، ومكتب الآثار بالخبرة القضائية، والمؤسسات العلمية بتوجيه مذكرات توضيحية بالقيمة والأهمية وكيفية معالجة الأمور". وختمت بيانها قائلة "نحن كمراقبة آثار بنغازي ندعو كل هذه الجهات المعنية لإعداد مذكرة ومقابلة من لهم علاقة ببرامج إعمار بنغازي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووضع برنامج علمي لإعادة إحياء هذا الإرث العمراني التاريخي والمحافظة على قيمته وأهميته".
رسائل طمأنة
في المقابل، كانت بلدية بنغازي، الجهة الرسمية الوحيدة، التي انبرت للرد على تساؤلات سكان بنغازي عما يجري في أقدم وأعرق أحياء المدينة، وحاولت طمأنتهم بخصوص طبيعة مشروع الهدم وإعادة البناء التي تتم فيها قائلة إن "هناك بعض المباني التاريخية سيعاد بناؤها بما كانت عليه في السابق مثل سوق الحوت وسوق الربيع، حفاظاً على هوية المدينة التي تتميز بها"، وأكدت البلدية، في بيان، "حرصها على إعادة ترميم وتأهيل وتطوير المباني المتضررة وإعادة بناء المباني المدمرة، طبقاً لمشروع تحديث المخطط العمراني العام لمدينة بنغازي الجاري تنفيذه، وكذلك المعايير التخطيطية والنمط المعماري للمدينة القديمة التاريخية".
سجال لا يتوقف
ومع اشتعال الجدل في شأن التغييرات الكبيرة التي تتعرض لها أهم المناطق التاريخية في بنغازي بموروثها المتنوع، شاركت شخصيات ليبية بارزة في هذا السجال إما بمعارضة المشروع والمطالبة بإيقافه الفوري أو بمباركة عملية التحديث والتطوير لوسط المدينة، وهذه النقاشات شاركت فيها حتى شخصيات كان من النادر أن تعلق على الأحداث العامة في ما سبق، مثل الأمير محمد الحسن الرضا المهدي السنوسي الذي قال إن "الهدم الذي طاول أجزاء مهمة من مدينة بنغازي لها من القيمة التاريخية الشأن الرفيع، هو تعدٍ مستهجن على ذاكرة الشعب الليبي"، وأضاف في تغريدة عبر حسابه على موقع "تويتر"، "مهما طاول أحياء مدننا العريقة من دمار أو إهمال بتقادم الزمن أم بفعل فاعل، فإن الأولى دائماً أن نحاول ترميمها بالطرق الهندسية الحديثة لا أن نعمل في تاريخنا تحطيماً وهدماً". وأشار السنوسي إلى أن "هذا ينطبق على كل المدن الليبية، لأن تاريخنا من هذه اللحظة التي نبني فيها دولتنا الجديدة، يجب أن يكون ممتداً كبقية الأمم".
أما عضو ملتقى الحوار السياسي آمال بوقعيقيص فأشادت بـ"عملية التطوير" التي تشهدها بنغازي مشددة على أن "المدينة تستحق تصاميم جميلة مسكونة بالفن كروحها المتمردة الشابة". واستغربت بوقعيقيص الانتقادات التي توالت على أعمال لجنة إعادة إعمار بنغازي، واصفة إياها بـ "النوستالجيا من أناس غادروا منذ زمن بعيد إلى الحداثة وتركوا الأزقة المتربة العاثرة لأهلها، وهؤلاء يريدون فرض ذكرياتهم الباهتة على المستقبل".