Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شعراء أفريقيا يواصلون نضالهم ضد العنصرية الثقافية

أنطولوجيا جديدة تكشف ثراء الشعر في القارة السمراء وتنقّب عن الأسماء المجهولة عربياً

 جماليات الفن الأفريقي للرسام جيرالد شوكواما (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

يعيش #الأدب_الأفريقي ظلماً مزدوجاً، فهو غير متداول محلياً، ويكفي الوقوف على مدى اطلاع عرب أفريقيا على نصوص جيرانهم، أما اطلاع #الأفارقة من غير العرب على #الأدب _العربي فهو شبه معدوم

حين اختار الشاعر والمترجم المغربي نجيب مبارك أن يسمي أنطولوجيا الشعر الأفريقي المعاصر "همس الأسلاف" (دار خطوط وظلال - عمان)، فقد فتح للقارئ باب التأويل بخصوص وضع هذا الشعر بين الآداب العالمية، ونظر الأوساط الثقافية المركزية له. إننا أمام صوت خفيض في مواجهة أصوات عالية، أسهمت في علوها عوامل إعلامية ودعائية من جهة، وعوامل أخرى تاريخية مرتبطة بالسياق الكولونيالي وبهيمنة دول من دون سواها. فقد صار من الواضح أن الدول القوية اقتصادياً وعسكرياً هي القادرة على الدوام على فرض ثقافتها والترافع بالتالي عن آدابها. وإذا كانت القارة السمراء قد عاشت ردحا من الزمن تحت نير الاستعمار والاستغلال العالمي لخيراتها، فإن هذا الوضع السالب قد أسهم في تغييب آدابها على رغم مما تتميز به من عمق واختلاف من شأنه أن يثري الآداب العالمية. 

يعيش الأدب الأفريقي ظلماً مزدوجاً، فهو غير متداول محلياً، ويكفي الوقوف على مدى اطلاع عرب أفريقيا على نصوص جيرانهم من غير العرب، أما اطلاع الأفارقة من غير العرب على الأدب العربي فهو شبه معدوم. والجانب الثاني للحيف الذي يعانيه هذا الأدب هو حضوره خارج القارة الأفريقية، فما يعرفه العالم الغربي عن الأدب الأفريقي لا يشكل إلا نسبة ضئيلة منه، ولا يعكس بالضرورة حقيقته وقيمته. فالكاتب الأفريقي عليه أن ينتقل إلى فرنسا أو بريطانيا أو أميركا إذا أراد أن يكون له حضور في الأوساط الثقافية العالمية، هذا إذا حالفه الحظ أصلاً، أو أن ينتظر جائزة عالمية أو اعترافاً لا يحدث إلا لماماً. فالقارئ الغربي ومعه الإعلام والفاعلون الثقافيون لا يتجشمون عناء البحث والتنقيب عن الكتّاب الأفارقة، بل ينتظرون وصولهم إليهم على بساط الصدفة.

واللافت أن العالم العربي قد انفتح في السنوات الأخيرة على الأدب الأفريقي، المكتوب من لدن غير العرب، بعد أن ظل بالنسبة إليه، لزمن طويل، قارة مجهولة. والغريب والمفارق في الأمر أن الكاتب الأفريقي كان عليه أن يخرج بأدبه إلى أوروبا وأميركا كي يصل إلى القارئ الأفريقي ومعه العربي. إن الأسماء المعروفة عربياً مثل ليوبولد سيدار سنغور وإيمي سيزار وآتشيبي وكويتزي وسوينكا وصلتنا في الغالب إما عن طريق فرنسا أو بريطانيا. أما الذين يكتبون باللغات الأصلية مثل الأورومو والسواحلي والزولو والكريول وغيرها فظلوا حبيسي أوساطهم المحلية، ولا يملك قراء العالم أي فكرة عما يكتبون إلا في حالات نادرة.

 أنين القارة السمراء

في الأنطولوجيا الشعرية التي يقترحها نجيب مبارك على القارئ العربي يؤكد المترجم المغربي أن أفريقيا ليست بالضرورة حضارة واحدة أو تكتلاً بشرياً منسجماً. إنه ضد تنميط نظرة الآخر إلى هذه القارة. فالإنتاج الأدبي ثري جداً، ومسافات التباين فيه واضحة مرتبطة بعوامل ثقافية عدة، فضلاً عن الخصوصيات التاريخية والجغرافية لكل بلد.

يعود المترجم المغربي إلى أنطولوجيا الشعر الأفريقي التي أنجزها ليوبولد سيدار سنغور عام 1948 وكتب جون بول سارتر مقدمتها، باعتبار أنها أول عمل أنطولوجي سيدير أنظار الأوساط الثقافية الغربية جهة الشعر الأفريقي. ويعتب بالمقابل على الأكاديميين والنقاد والمترجمين والناشرين العرب لأنهم يتجاهلون الشعر الأفريقي المكتوب بغير العربية، ويسهمون في إبقائه "منسياً ومدفوناً في لغاته الأصلية".

يستعير نجيب مبارك عنوان الأنطولوجيا من الشاعر السينغالي بيراغو ديوب الذي يحثنا على الأصغاء إلى همس الأسلاف مسموعاً في صوت الريح والماء والنار والأشجار. لم يشأ المترجم المغربي أن يطيل في مقدمته، ويشرح بالتالي سياقات الكتابة. لقد ترك هذه المهمة للنصوص نفسها، وقد اعتمد في ترتيبها على التقسيم الإقليمي للقارة: الساحل الأفريقي، خليج غينيا، خليج بنين، القرن الأفريقي، البحيرات الأفريقية العظمى، حوض الكونغو وخليج كابيندا، أفريقيا الجنوبية وجزر الفانيلا. وإذ يقترح علينا 100 شاعر من 40 دولة، يؤكد أنه لم يقتصر على الأسماء القليلة المتداولة في العالم العربي، بل ركز بالأساس على "القصائد المكثفة القادمة من جنوب الصحراء الكبرى، والتي تتميز بطابعها الشفهي والعفوي، لأنها تتغذى وتتكئ أساساً على تقاليد الشعراء الجوالين، وتراث الأسلاف الشعري والغنائي". وعلّل المترجم خياره بكون هذه النصوص هي الشاهد الأكبر على ثراء وتنوع الشعر الأفريقي المعاصر.

ويمكن للقارئ أن يجد امتداد مقدمة المترجم وظلال خياره الأنطولوجي مباشرة بعد تجاوز النص الأول لسنغور، حيث يقرأ نصاً بلغة برية لصوت شعري متأثر بتجارب الشعراء الجوالين، لكن بأسلوب معاصر تمكن المترجم من التقاطه بشكل لافت، حيث تبدو الصياغة العربية للنص الشعري بالغة التماسك والتناغم. يقول نداي كومبا دياخاتي في نص عنوانه "قوّالُ سلالتي": "أنا خشب الأبنوس/ الذي يستهلك نار الكذب البطيئة/ أنا الحصى الأحمر لدم أسلافنا الشرس/ لستُ زنجي الأحياء الفقيرة/ المحشور في حفرة قذرة/ ملتصقاً بالسخام.../ وها أنا أحطم السلاسل/ والصمت الكاذب الذي قذفتني به".

هذه النبرة الصارخة تتكرر في العديد من النصوص، فالذاكرة الجمعية للأفارقة السود يستحيل أن تتخلص من آثار تاريخ طويل من العبودية والاستعمار، بما راكمه هذا التاريخ من ظلم وإقصاء وميز عنصري. يخاطب الشاعر دافيد ديوب قارته السمراء بنص مبطن بالشجن والألم: "قولي لي يا أفريقيا/ هل أنت هذا الظهر الذي ينحني/ ويغفو تحت وطأة الذل/ الظهر المرتجف بأخاديده الحمراء/ والذي يقول نعم للسوط/ على طرقات الزوال؟". إن قصيدة الشاعر الإيفواري برنار بينلين داديي هي بمثابة لافتة احتجاج ضد استمرار الحيف الممارَس على أفريقيا على رغم كل الخطابات التي ألغت العبودية وأعلنت نهاية العهد الكولونيالي، وعلى رغم كل المواثيق الدولية الداعية إلى العدالة والمساواة بغض الطرف عن كل الفوارق الإثنية. في نص بعنوان: "يا رجال كل القارات" يقول هذا الشاعر: "يا رجال كل القارات/ ما زال الرصاص يجز أعناق الورود/ في صباحات الحلم".

وفي قصيدة للشاعر الغيني كيتا فوديبا مناجاة ليلية حزينة تكشف عن مأساة بلاد "الماندينغ". وفي نص بعنوان "دجيبوتي مرج أخضر" يستعيد الشاعر تييرنو مونينيمبو الملامح المتبقية من ماضي القارة السمراء متوقفاً عند "ليالي أفريقيا/ اللزجة/ الدبقة/ مثل أجنة غير مرغوب فيها". توجد بغزارة لافتة في نصوص الشعراء الذين اختارهم نجيب مبارك الاستعاراتُ والبلاغات التي تنقل الألم الأفريقي، وتحمل إلى أسماع العالم أنين القارة التي رزحت تحت نير الظلم الجغرافي والتاريخي لها.

الخوف على الهوية من الشتات

إن سؤال الهوية في القضية الأفريقية سؤال جارح، فثمة محاولات اجثتات مطردة مارسها الاستعمار إن بشكل مباشر، أو غير مباشر بعد انسحاب القوى الكولونيالية منتصف القرن الماضي. إن التدخل الأوروبي في أفريقيا الذي اتخذ طابعه الرسمي عبر اتفاقية برلين عام 1885 استمر لفترة طويلة، وترك بالتالي آثاراً على الملامح الثقافية للقارة السمراء. لقد استطاعت أوروبا الغربية تقسيم أفريقيا على النحو الذي تريد، وكان لكل من فرنسا وبريطانيا حصة الأسد، وما تبقى توزع بين ألمانيا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وإيطاليا. بالتالي فإن نهب خيرات القارة من ذهب ونحاس ومطاط رافقه نهب ثقافي وحضاري. لقد سعت الحركات الاستعمارية إلى إخراج الإنسان الأفريقي من أصالته. بات هذا واضحاً في أساليب العيش، وانعكس بالتالي على الأشكال التعبيرية التي يوجد الشعر بالضرورة ضمنها. ولعل الملمح الأول لهذا التأثير هو انتقال الشعراء الأفارقة إلى الكتابة بلغات مستعمريهم، الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية بالأساس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في أنطولوجيا نجيب مبارك يطرح الشاعر الغيني أوديتي سيميدو إشكالية الهوية اللغوية: "بأي لغة أكتب/ اعترافات الحب؟/ بأي لغة أغني/ الحكايات التي رويت لي؟/ بأي لغة أحكي/ يوميات نساء ورجال بلادي؟/ كيف يمكن استحضار القدماء/ وأغنيات الماضي؟  هل يجب علي أن أتحدث لغة الكريول؟/ إذن سأتحدث الكريول/ لكن أي آثار سأترك/ لأطفال هذا القرن الصغار؟". إنه وهو يعترف بهيمنة البرتغالية باعتبارها لغة التواصل الحديثة في بلده غينيا بيساو، يؤمن بأن الزمن لن يطمس هوية أجداده، وبأن الأطفال سيعرفون لاحقاً ما كان عليه أسلافهم الذين كانت الكريولية لغتهم الأولى، قبل وصول المستعمر البرتغالي.

هذا ما يدعمه شاعر الرأس الأخضر كورسينو فورتس حين يقول: "وحدها المستنقعات/ تشهد فوق الأرض/ أني تركتُ بصمة قدمي". فإذا كان التاريخ سريع التحول فإن الجغرافيا ثابتة وراسخة، إذ يستحيل على المستعمر نهب الجبال والوديان والسهول التي تشكل فضاءً شاهداً على حضارة غير مجبرة بالضرورة على أن تشبه حضارة الآخرين. إن شاعر البنين هارموني دودي بيل كاتاريا يوجه دعوة ضمنية إلى التشبث بالهوية الأفريقية، نكاية بكل محاولات الاقتلاع. يقول: "لا تدع الريح تقتلع من رغباتك/ اركض بأسرع ما يمكن.../ لأن الصوت المشنوق لا ينطفئ أبداً". في المنحى ذاته يصرخ الشاعر الإثيوبي تسيغاي غابري ميدهين: "أنا الأرض الأولى وأمّ كل خصوبة.../ آه أيها العالم، كيف نسيتَ بسهولة/ أنني نافورتك الأولى؟".

يحضر الشجن حضوراً لافتاً في النصوص التي اختارها المترجم المغربي، وهو شجن مضاعف. فثمة استعادات غزيرة للجراح التي خلفتها مرحلة الاستعباد والاستعمار، وثمة بالمقابل رصد للمعاناة الداخلية للكائن الأفريقي التي راكمها تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بسبب صراعات داخلية حادت بالقارة مراراً عن طريق الاستقرار. لكن ثمة بالمقابل في نصوص الأنطولوجيا الكثير من الدفء والحميمية والحرارة الإنسانية وأساليب العيش والألوان والروائح والمباهج وتفاصيل الحياة الأفريقية التي تمتاز بخصوصيات يصعب طمسها والقفز عليها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة