Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مارتا أوريولز تُحوّل موت الزوج الخائن إلى حديقة

رواية "عندما تُصغي النباتات" فازت بجائزة أفضل رواية كاتالونية

حديقة الموت بريشة  بيتر بوث (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

رواية "عندما تُصغي النباتات" فازت بجائزة أفضل رواية كاتالونية

 يشكّل موت ماورو المفاجئ، بعد ساعات من إبلاغه باولا قرار الانفصال عنها والارتباط بأخرى، الواقعة المركزية في رواية "عندما تصغي النباتات" للكاتبة الإسبانية مارتا أوريولز، الصادرة عن "ثقافة للنشر والتوزيع" بتعريب جنى ياسين. ويكون لها فعل حجر كبير أُلقي في بركة ماء، فانداحت منه دوائر كثيرة، وراحت تتّسع شيئاً فشيئاً لتلامس الضفاف. هذه الحركة المفاجئة، وما أعقبها من أحداث تطفو على سطح السرد، تشكّل المتن الروائي لعنوان يجاور بين الإنساني والنباتي، فينسب بعض متعلّقات الأول إلى الثاني، في إشارة إلى وحدة الحياة وإن اختلفت الأنواع، وهو ما نقع على ترجمة له في مجرى الأحداث، ويشي بتلاؤم بين المتن والعنوان. والرواية هي الأولى لصاحبتها، صدرت باللغة الكاتالونية، وحصلت على جائزة أفضل رواية بهذه اللغة عام 2018، وتُرجمت إلى إحدى عشرة لغة، ومنحت الروائية موطئ قدم في الأدب الإسباني، وهي المؤرّخة الفنية والصحافية والقاصّة وكاتبة السيناريو.

تطرح أوريولز في روايتها التي تجري أحداثها في برشلونة، خلال زمن روائي لا يتخطّى العام الواحد، أسئلة الموت والحياة والحب والصداقة والخيانة وغيرها. وتنخرط فيها مجموعة شخوص روائية  تتمحور حول شخصيتين محوريتين، بشكل أو بآخر. وترصد، من خلال التعالق في ما بينها، القدرة على مواجهة الموت وتحويله إلى فرصة للحياة. وهو ما يتجلّى في  رزوح إحدى الشخصيتين المحوريتين تحت ضغوط ثقيلة، ومواجهتها بآليات دفاع، متوافرة في بيئتها أو مجترَحة من قبلها. وتتمكن، في نهاية المطاف، من التحرر من الضغوط، واستعادة توازنها المفقود، وإعادة مياه الحياة إلى مجاريها.

 ضغوط ثقيلة

في الضغوط، تمرّ العلاقة بين باولا سيدي، طبيبة حديثي الولادة، وزوجها ماورو، مدير إحدى دور النشر الصغيرة المولع بالنباتات والتحدّث إليها، في لحظة حرجة، حتى إذا ما حاولت ترميمها، خلال لقائهما في مطعم بحري، يصدعها بقرار تركها ليرتبط بأخرى، ويغادر. وفي غضون ساعات، وقبل أن تستوعب الصدمة، يتصل بها صديقه ناتشو ليخبرها أن ماورو تعرّض لحادث سير، ويطلب موافاتها إلى مستشفى بيلارويل. وهكذا، تتلقى رصاصتين اثنتين في وقت قصير، "رصاصة موت ورصاصة كذب"، على حدّ تعبيرها. وتشكّل هذه الواقعة المزدوجة حداًّ فاصلاً  بين ما قبل مستقر إلى حد الركود، وما بعد مضطرب إلى حدّ الزلزلة. ويكون لهذه الزلزلة ارتداداتها المدمّرة على حياة الشخصية. فتعصف بها مشاعر متناقضة تجمع بين الغضب والحزن، الحب والكره، الخيبة والنقمة، الفقد والانتقام. وتتمظهر تلك الارتدادات في العزوف عن الأكل، التعرّق، عدم القدرة على النوم، الشعور بالفقد المقرون بالغدر، اضطراب إيقاع حياتها، وفقدان الشعور بالواقع. ويكون عليها الاختيار بين الاستسلام للموت وتداعياته وبين البقاء على قيد الحياة والنضال لتحقيق ذلك، فتختار الخيار الثاني مستخدمة ما أتيح لها من آليات دفاع.

آليات دفاع

في آليات الدفاع، يتناوب أبوها المؤلّف الموسيقي وصديقتها ليديا طبيبة الأطفال القوية على الاهتمام بها وتأمين حاجاتها المنزلية، خلال الأسبوع الأول من الفاجعة. وتقضي أسبوعين اثنين في منزل الوالد في لا سيلفا دي مار، علّها تحظى بالسلام الداخلي. وتُغرق نفسها في العمل في المستشفى. وتمارس رياضة المشي حتى الإرهاق كي تحظى بقليل من النوم. وتمضي وقتاً ممتعاً مع الزميلات المساعدات في المستشفى. وتنخرط في علاقات جسدية عابرة مع زملاء وأصدقاء عساها تشعر ببعض الهدوء.

والمفارق أنها في معظم هذه الآليات كان ماورو يلازمها، فتتذكّر وقائع من حياتهما المشتركة، وتتخيّل تصرّفاته في مواقف معيّنة، وتستحضره متوجّهة إليه بالكلام. ومع الزمن، يتغلب الحبّ فيها على الغضب، وتبرّر له ما أقدم عليه حين تمارس نقداً ذاتياًّ لتعاطيها معه، وحين تقابل الفتاة الأخرى الجميلة التي كان يزمع الارتباط بها. على أنّ هذه الآليات التي تستخدم الأبوّة والصداقة والزمالة والأمومة الافتراضية للأطفال الحديثي الولادة لا تخرجها من النفق المظلم بقدر ما تقرّبها من آخره، ويكون عليها أن تستخدم عناصر خارجية أخرى لتحقيق الخروج الآمن، وهو ما يتجسّد في واقعتين اثنتين على الأقل؛ الأولى تتمثّل في قيامها مع جارها توماس بتحقيق حلم ماورو في تحويل شرفة الشقّة إلى حديقة طبيعية وفق المخطّط الذي أعده قبل رحيله، وهو ما تعبّر عنه في نهاية الرواية بالقول: "... هذه الشرفة ستكون بقايا منك تجسد حياتك يا ماورو، وليست تمثالاً يجسّد موتك" (ص 278). والثانية تتمثّل في تماثل الطفل الحديث الولادة ماهافير الذي تزامنت ولادته مع موت ماورو إلى المعافاة بعد أشهر من وضعه في الحاضنة الاصطناعية، فيشكل قدوة لها للنهوض ممّا تتخبّط فيه، وهو ما تعبّر عنه بالقول: "لقد فعلها ماهافير هذا الصباح، وقد حان الوقت لي للقيام بذلك أيضاً" (ص 272).

 شخصيّتان محوريّتان

وهكذا، نكون أمام شخصيتين محوريتين تتجاذبان أحداث الرواية؛ الأولى هي شخصية باولا التي تحضر في النص، بشكل مباشر، من خلال تَمَحْوُر الأحداث حولها وتولّيها مهمّة الروي. والثانية شخصية ماورو التي تحضر في النص، بشكل غير مباشر، من خلال كلام الأولى عنها واستحضارها عبر التذكّر والتخيّل والمناجاة. على أن الفارق بين الشخصيتين هو تحرّكهما في اتجاهين مختلفين لكنهما تلتقيان في النهاية، ولو بعد الموت. فماورو الذي يضيق ذرعاً باللحظة الحرجة للعلاقة بينهما، يقرر الابتعاد والانخراط في علاقة أخرى، الأمر الذي يحول دونه الموت. أمّا باولا التي تسقط عليها صدمة الخيانة والموت المزدوجة، وتترنّح جرّاءها لأشهر متعاقبة، لا تلبث أن تتمالك نفسها، وتنهض من جديد، وترحل باتجاه الشريك الراحل، وتستنقذه من الموت، وتُعيده إلى الحياة، على طريقتها. وبذلك، ينحاز المنظور الروائي لمصلحة المرأة في العلاقة بين الزوجين، ويبلور قدرتها على مواجهة الصعاب والغفران والتسامح والبدء من جديد.  ولعل الرواية، في نهاية المطاف، هي هذه المسافة النصية / الزمنية بين فجوة  أحدثتها واقعة الخيانة / الموت في بدايتها وجَسْر هذه الفجوة في النهاية. 

  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلى جانب هاتين الشخصيتين المحوريتين، ثمة مجموعة من الشخوص المكمّلة التي كان لكل منها دورها في مجرى الأحداث؛ وتتبلور من خلال أدوارها وظائف الأبوة والصداقة والزمالة والشراكة والجيرة، مما يسهم في جسر الفجوة بين ماورو وباولا، ويجعل الموت فرصة جديدة للحياة. فالأب الذي يقسو على ابنته في الصغر ويدعها تذهب وحدها إلى طبيب الأسنان، يحميها بأنانية بعد مصابها ويحتضنها، ويؤلف لها قطعة موسيقية ويعزف لها، ويجلسها في حضنه هي الأربعينية. والصديقة ليديا تترك أسرتها لتهتم بها، وتحرص على تناولها الطعام، وتحتفل معها بعيد ميلادها. ومديرها في العمل سانتي يعزز ثقتها بنفسها، ويصر على منحها بعض الوقت لنفسها. وحبيبها الأحادي كيم يلبي دعوتها حين تطلبه، ويتيح لها قضاء أيام ممتعة في منزله الحجري في وادي بوسكانا. وشريك زوجها في دار النشر ناتشو يقف إلى جانبها، ويتحوّل إلى صديق. وجارها توماس يساعدها في تحقيق حلم زوجها الراحل في الحديقة المنزلية.

   وهكذا، تتضافر جهود الشخصيات المكمّلة في رأب صدع شخصية باولا المحورية، والانتقال بها من حالة معاناة الحياة التي تعبّر عنها بالقول: "... فحالتي هي أنني ببساطة أعاني من "الحياة"، الحياة التي تمرّ وتتعثّر" (ص 130)، إلى حالة إدراك قيمة الحياة والتنعّم بعيشها التي تعبر عنها بالقول: "الحياة تستحق أن نعيشها. أحياناً يكون الأمر صعباً، لكن الأمر يستحق ذلك" (ص 275).

 "عندما تصغي النباتات" درس روائي متقدّم في مواجهة الموت وتحويله إلى فرصة قابلة للحياة. وهل للأدب الروائي من هدف أسمى بعد؟          

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة