ملخص
الروائي والطبيب إبراهيم البجلاتي يقارن بين كآبة حيوانات التجارب وأحزان البشر
في روايته الجديدة "كلب المعمل"، الصادرة عن مركز "المحروسة" للنشر في القاهرة (2023)، يتعاطى الروائي والطبيب المصري إبراهيم البجلاتي (62 سنة) مع الكتابة الإبداعية بوصفها عملية تشريحية يجري الاستعداد والتجهيز لها جيداً، وتحديد أدواتها وإجراءاتها وتفاصيلها بعناية، لضمان أن تكتمل العملية بسلام في المختبر أو في الغرفة المعقمة. هي عملية روائية واعية بامتياز، في محاكاتها الصادقة الصادمة للواقع المرير المحيط، الذي يحكم حركة الشخوص والأحداث في زمن محدد.
يتأكد ذلك الاتجاه الحسابي أكثر بانفتاح هذه العملية الروائية كذلك على الأسلوب العلمي المنهجي، وقاموس المصطلحات الطبية ، ليس فقط على مستوى اللغة التي يستخدمها أبطال الرواية من أعضاء المنظومة الطبية والمؤسسة الجامعية وفريق البحث الأكاديمي، وإنما أيضاً على مستوى الطرح والأفكار وإدارة الصراع والتنامي الدرامي والنزعة المنطقية في الرصد والتحليل.
وهكذا، تغدو عملية الرواية في مجملها منحوتة بمشرط و كأنها واحدة من الجراحات المختبرية المماثلة التي ينخرط في ممارستها بطل "كلب المعمل" في الفضاء الفني. وهذا البطل الروائي يكاد يتماهى مع المؤلف أو يعكس جوانب أساسية من شخصيته الحقيقية.
ويظهر هذا التشابه بينهما جلياً، إذ إن بطل الرواية المحوري وساردها العليم حاصل على الدبلوم ومن بعده الماجستير من مركز أمراض الكلى والمسالك البولية في جامعة المنصورة في دلتا مصر. وهي الجامعة ذاتها التي تخرج فيها البجلاتي، وحصل على بكالوريوس الطب، ومن بعده الماجستير في الجراحة من مركز الكلى نفسه أيضاً، الأمر الذي يبلور بوضوح رغبة الكاتب في أن يدير لعبته من خلف الستار، على أن يكون في الوقت ذاته، بطريقة ما، أحد اللاعبين البارزين على المسرح، وسط الشخصيات، وفي قلب الوقائع.
المباشر والدلالي
تحت المظلة العامة للنسيج الروائي، الذي لا يُترك فيه مجال للفوضى أو للصدفة، هناك مدخلان رئيسان للتفاعل مع العمل. الأول: هو مدخل المعنى المباشر والتفسير القريب والنقل الميكانيكي لصورة الواقع الحي. والثاني: هو مدخل الدلالات والإسقاطات والرموز وما وراء المشاهد الملموسة من خيالات وغرائبيات والاستنباطات غير التقليدية.
تدور أحداث رواية "كلب المعمل" في تسعينيات القرن الماضي، في أعقاب استقالة الزعيم السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف عام 1991، حين تفككت القوة الشرقية العظمى، واختل ميزان القوى، ومن ثم تأثرت المجتمعات العربية بانهيار اليسار العالمي وسقوط الاشتراكية وهيمنة رأس المال والمفاهيم الشرائية والاستهلاكية.
في هذه المرحلة الزمنية المتوترة، يختار المؤلف شخصياته جميعاً من الحقل الطبي وفريق البحث العلمي وأعضاء هيئات التدريس الجامعية، وتتوزع الأحداث ما بين المكان الرئيس "جامعة المنصورة" وأمكنة فرعية شبيهة مثل جامعات بنها وعين شمس وقصر العيني والمستشفيات والعيادات والصيدليات والمعامل وما إلى ذلك.
ووفق مدخل المعنى المباشر، فإن الرواية تتقصى تفاصيل منظومة الطب والجامعة والبحث العلمي في مصر، وعلاقة هذه القطاعات بمثيلاتها في الدول العربية والغربية، من خلال علاقة الراوي بزملائه وأساتذته من المصريين والعرب والزائرين الأجانب من أوروبا وأميركا واليابان، الذين يقصدون مركز أمراض الكلى والمسالك البولية في جامعة المنصورة للتدريس وتبادل الخبرات وإجراء التجارب والجراحات الجديدة، على البشر والحيوانات على السواء.
صراع أكاديمي
ويواجه الراوي الطموح، البارع في ابتكار طرق حديثة في الجراحة، صعوبات ومعوقات كثيرة يكتشفها من خلال تعاملاته وعلاقاته مع الزملاء والأساتذة الذين يمانعون تخطيه درجة "مساعد عام" ويرفضون أي تعديل على النظام الذي يتكسبون من ورائه: "كثيرون من زملائنا الأكفاء قيل لهم في وجوههم: عاوز تاخد الدكتوراه، وبعدين تيجي تفتح عيادة جنب عيادتي وتنافسني في السوق؟". وعلى رغم نجاحه في الدبلوم والماجستير وفي إنجاز مجموعة من العمليات الجراحية بطرق جديدة، جرى تجريبها بنجاح على الكلاب في مرات كثيرة وبإخفاق في مرات أقل، فإنه يفضل أن يرحل ويستكمل الدكتوراه في فرنسا: "فهل يكون الخائب في بلاده خائباً في بلاد الناس؟!".
وفي هذا السياق المباشر القريب، تفجر الرواية كثيراً من مساوئ المنظومة الطبية والبحثية والجامعية في مصر، مبرزة ما يسود هذه القطاعات من نرجسية وابتزاز ومحسوبية ووساطة ورغبة في التربح، وقسوة في التعامل مع حيوانات التجارب، وتفرقة في التعامل بين منسوبي المراكز: "قلت لنفسي: واضح إني بقيت المساعد العام، سنيد البطل في كل الأفلام، لكنهم في السينما يكتبون اسم السنيد على الأفيش بخط صغير، لكنهم يكتبونه. أما هنا فلا أحد يكتب اسمي مطلقاً ولا يذكره، أنا فقط الواد القصير... بتاع الدبلوم".
وفي مثل هذه الأوضاع البائسة وغير الإنسانية تتحول هذه الكيانات الطبية والعلمية والجامعية إلى "خرائب، ليس لها أي سيستم (نظام)"، بتعبير الرواية، ويلجأ الباحثون والعلماء إلى الإحباط أو تغيير النشاط أو الهرب إلى الخارج، ولو بغير تخطيط: "بعد كل هذا المجهود لم أحصل على مجرد اعتراف بأحقيتي في البحث والتجريب. كأن أطباء وزارة الصحة أبناء غير شرعيين يرفض الأب العام أن يعترف بهم".
الغوص التشريحي
أما بالنسبة إلى المدخل الثاني، الخاص بالدلالات والرموز وما وراء المشاهد من خلفيات وما تحت الأسطح من خفايا، فإن الرواية تطرح في إطارها العام المتسم ككل بالتوازن والانسجام، كثيراً من القضايا والأمور الجدلية والمثيرة والشيقة التي تكسر رتابة أحداثها الطبية والجامعية والمختبرية ا.
من ذلك، مثلاً، أن الرواية تقدم هذا الخلل الفادح في منظومة الطب والجامعة والبحث العلمي باعتباره مرآة كاشفة لأمراض المجتمع بصفة عامة، وهي أمراض مستعصية على الحل في ظل الطبقية والانتهازية وسوء توزيع الثروات ووجود خدمات سيئة للفقراء (في التعليم والصحة والعمل والترفيه...) في مقابل خدمات أخرى متميزة للأثرياء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الإشارات الأكثر رهافة، والتي ربما هي السمة المميزة للرواية والمقترنة بعنوانها، فهي المتعلقة بعلاقة شخصيات الرواية بالكلاب. والسبب الأساسي لظهور الكلاب على امتداد صفحات الرواية هو أن البيطري أبوشنب يجلبها واحداً تلو الآخر إلى المعمل، من أجل أن يجري عليها الراوي ومجموعة الباحثين من سائر أقطار العالم، عشرات التجارب المتتالية، بهدف التأكد من إمكانية تنفيذ هذه العمليات الجراحية لاحقاً في البشر. وتبدأ هذه المهمة العلمية الباردة بقسوة اصطياد الفريسة ووضعها في قفص وتخديرها، وتنتهي بموتها بعد إتمام العملية وتحقيق الغرض العلمي: "فتحت الباب لألقي نظرة أخيرة على الكلب الوردي. كنت أعرف أنه لم يعد وردياً، صار كيساً أسود على عربة رمادية في الطريق القصير إلى المحرقة".
وتتخذ الرواية الفروق بين سلالات الكلاب الضالة والمرفهة، معادلاً للتعبير عن التمييز بين البشر لأسباب مختلفة، لا شأن لهم بها في أغلب الأحوال، كما تُعقد مقارنات أخرى بين خصال الكلاب وخصال البشر، خصوصاً الوفاء والانقياد الكامل للآخرين، معتبرة أن الاستئناس الذي حدث للكلب عبر التاريخ لصالح البشر، قد يكون بسبب تخلي الكلب الإرادي عن أن يكون ذئباً حراً، وذلك في مقابل قطعة من اللحم الفائض عن حاجة البشر، الأمر الذي يحيل إلى أن اختيار الإنسان مصيره المقبل كعظيم أو كحقير لا يكون إلا بيده.
وتستطرد الرواية في اكتشاف مثل هذه الثنائيات والعلاقات والمفارقات، ومن أهمها ذلك الحزن المشترك في عيون البشر الضعفاء والكلاب المنكسرة. ويلتفت الراوي إلى ذلك الأمر، فيشرع في كتابة بحث عن الحزن التشريحي في عيون الكلاب، ليصل من خلاله إلى نتائج لا يمكن فصلها عن تشريح أحزان البشر بطبيعة الحال، وفق المنهج المعملي التجريبي الذي يحكم بنية الرواية كلها: "بقيت وحدي أمام الكلب الباكي، لا أستطيع التصرف ولا أعرف ماذا أفعل. لم يزعجه التحديق لأنه لم يكن ينظر في عيني، كأنه يعرف، ولا يريد النظر في عيني قاتله، لكن ضربات ذيله الخفيفة شعرت بها كأنها ضربات استرحام، كأنه يقول: خلصني. حتى الكلاب تعرف ما هو الظلم وتشعر به، وتعاني أيضاً من عذاب الانتظار".