Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بثينة العيسى تروي خراب "دار خولة"

نوفيلا تثير قضية الكراهية العائلية والصراع بين الأشقاء والخيبة الأميركية

لوحة للرسام حمود شنتوت (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

كثيرا ما تحدث فلاسفة وأدباء عن الكراهية العائلية وأبعادها، ومن بينهم جان بول سارتر الذي يرى في الأسرة مجموعة أشخاص يكره بعضهم بعضا، بينما أطلق أندريه جيد صرخة جريئة "أكرهك أيتها العائلات".

هذه الكراهية ليست بعيدة من "دار خولة" الرواية القصيرة أو الـ"نوفيلا" التي صدرت للروائية الكويتية بثينة العيسى (دار تكوين) والتي تتطرق إلى الصراع الذي يعيشه الإخوة الثلاثة والأم الأرملة، في هذه الدار الكويتية التي تشذ مبدئياً عن التقاليد العائلية الراسخة والأعراف الشعبية، لتمسي أطلال دار في المعنى المجازي. لكن الصراع الذي يدور عادة في الروايات، بين الإخوة في كنف الأب، رب العائلة ورأسها، يحصل هنا في غيابه، أو بعد رحيله، وتحديداً تحت جناحي الأم (خولة) التي حاولت أداء دور الاب الراحل (قتيبة سليمان) وفشلت، على رغم أنها مثقفة ودكتورة تدرس الأدب الشعبي.

إذاً لا صراع أوديبياً هنا (في معنى قتل الأب فرويدياً) ولا صراع إلكتراوياً (في معنى قتل الأم بحسب عقدة إلكترا - يونغ)، فالأب ميت ولا يحضر سوى طيفه، والأم ليست لديها ابنة، بل أبناء، كأنهم لم ينشأوا في مناخ أسري واحد، فهم يختلفون كثيراً بعضهم عن بعض، في الطبائع والمسالك والمشاعر وردود الفعل...

ثلاثة أبناء شبان إذاً، يوسف هو البكر يليه ناصرالذي يناهز الـثلاثين، ثم حمد، وأم تعيش باكراً شيخوختها على رغم أنها لم تبلغ شأو العمر، وتكره فكرة التصابي مثلما تكره أميركا، وحيدة، مستقلة، تقرأ، وتتناول حبوب الـ"ميلاتونين" الذي يساعد على النوم، والـ"كزاناكس" الذي يحارب القلق والاكتئاب. وفي هذا الوسط العائلي الممزق، تبدو خولة التي كرمها زوجها بإطلاق اسمها (خولة) على الدار، وكان يردد أمامها القصيدة التي يقول مطلعها "قفا في دار خولة فاسألاها"، وكان قلبها يتصدع لدى تذكرها عجز البيت الذي يقول: "تقادم عهدها وهجرتهما".

ولعل الأب الذي يدرس اللغة العربية وتضم مكتبته مجلدات من الشعر العربي الجاهلي وما بعد، ويردد الأبيات والقصائد، ويحلم بأن يكتب الشعر، يصاب بصدمة عندما يعلم أن ابنه ناصر لا يجيد العربية كما ينبغي لتلميذ مثله، بل يحس بالخيانة ويتعكر مزاجه جراء شعوره بالغبن إزاء ولده. لكن هذه المشكلة تعود أصلاً إلى خولة التي أدخلت ابنها ناصر مدرسةً أميركية، تيمناً بـ"الأميركيين" الذين حرروا الكويت. فهي كانت مفتونة بهم في تلك الآونة، قبل أن تكنّ لهم الكراهية من بعد، جراء ما حل بابنها. وكانت تجوب الشوارع مع زوجها في فبراير (شباط) 1991 وتوزع على الجنود الاميركيين البسكويت والقهوة.

مصالحة ما بعد التحرير

أحبت خولة الكويت حقاً بعد التحرير، وجعلها هذا الحب أو الإعجاب، تعيد صوغ أفكارها عن الثقافة الأميركية أو تتصالح معها، بدءاً من الجينز والهمبرغر وهوليوود، إلى الجاز ولوحات بولوك وأغنيات سيناترا وروايات همنغواي وستاينبك وقصائد إميلي ديكنسون وانتهاء بنظرية "نهاية التاريخ" الفوكويامية. وقد تبرز هنا هيمنة وجهة نظر الراوي على الشخصية، فحمّلها ما يتخطى تخوم ثقافتها، أو لعله شاءها تعيش حال انفصام بين الثقافتين، خصوصاً أنها أستاذة في التراث الشعبي وتهوى الشعر العربي القديم. ويوضح الراوي (أو الراوية إذا افترضنا أن الكتابة تعود لامرأة) أن خولة عاشت "الحلم الأميركي" من دون أن تزور أميركا بتاتاً. لكن هذا الحلم الرائج في بعض الروايات العالمية والعربية، سيتحول خيبة، بعد أن تصطدم خولة بمصير ابنها التربوي والثقافي وضعفه الفادح في اللغة العربية، وتراجعه الأخلاقي والسلوكي، وعدم اكتراث إدارة المدرسة بشكواها.

لقد خيبها النظام التربوي الأميركي الذي كانت تتوهم أنه يخلق الاستقلالية والتفكير النقدي ويرفض التلقين، عطفاً على تقدم بيئة المدرسة الأميركية عن المدارس الكويتية. ندمت خولة بعدما اكتشفت أن ابنها ناصر يتكلم بالإنجليزية ويسلك سلوك التلميذ المتهور الذي لا يحترم قواعد الأسرة، ويقفل الباب على نفسه في غرفته، ويقضي الليل في ألعاب الفيديو، ويردد عبارات نابية، ويخرج نصف عارٍ من غرفته ويتحاشى كل الواجبات حتى الدينية منها. فهو لم يكُن يجيد حتى الوضوء ولا يقصد الجامع، ويكره يوم ميلاده ويرتدي لباس مراهقين. وكان يقبل أمه على خديها وليس على جبهتها، بل كان يرفض أن تكون أمه ولا يتوانى عن إطلاق صفات نابية عليها، ومرة وصفها بالعاهرة، بالإنجليزية أمام أخيه يوسف الذي يختلف عنه كل الاختلاف. فيوسف، البكر، سعى بعد رحيل والده إلى أداء دور رب المنزل، فهو يقيم في أحد طوابقه، متطلق، يرمي على أمه مسألة رعاية ولديه التوأم، عندما يخرج أو يسهر ويسافر، يحب خولة الأم لا المثقفة، صاحبة الآراء الغريبة عنه، ويسخر من كلامها عن المثقف العضوي والإبيتسومولوجيا والشوفينية... أما حمد، فلا يحضر في الرواية إلا بعد انتهاء العشاء وانفضاض شقيقيه وأمه، فيجد نفسه وحيداً ويلقي نظرة على أمه الممددة على السرير في غرفتها، رأسها ملفوف بعصابة وعلى الكومودينة قربها دواء "كزاناكس". ويكتشف أن شقيقه ناصر سحب اسمه من مجموعة الـ"واتساب". وكان حمد لاحظ الفوضى في المكان، لكنه لم يجد له مبرراً، فقد فاته العراك أو التضارب الذي حصل بين شقيقيه ناصر ويوسف وكاد يمسي عنيفاً لولا تدخل الأم بينهما.

 في تلك السهرة، انقض ناصر على يوسف، لكن يوسف الأقوى تمكن منه وجره في الختام إلى خارج الدارة ورماه، مهدداً إياه بالقتل إذا هو عاد. وكانت الأم انفجرت غضباً وقهراً وازرق وجهها، خلال العراك، وقد سمعت يوسف يتحدث عن مثلية ناصر التي باتت معروفة، وعن العهر الذي يتستر عليه، وتنقله بين الشالهيات والمواخير. وهذا الاتهام كان بمثابة ضربة على رأس الأم المحافظة، و"السليمة النيات والحسنة الطوية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لعل إحدى المشكلات الرئيسة التي جعلت هذا "العشاء" الذي استحال بمثابة "العشاء الاخير" في العائلة على ما يبدو، إقدام الأم خولة، خلال العشاء الذي كانت تصر عليه لجمع العائلة بعد طول فرقة، على استشارة الأبناء في شأن إطلالة تلفزيونية في برنامج "تفاصيل" دعتها إليها إعلامية تدعى رندة، وهو يقوم على إظهار الجانب الإنساني من الشخصيات المستضافة، واستقبال أفراد الاسرة. لم ترُق الفكرة للشقيقين اللذين عانا الأمرّين من إطلالة سابقة لوالدتهما، قبل سبع سنوات، أحدثت فضيحة مجلجلة، فتحولت الأم الدكتورة إلى محل سخرية في الإعلام، وخصوصاً في وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها، والسبب أنها وصفت الجماهير بـ"المنحطة" و"البهايم" في سياق كلامها عن الانمساخ الجماعي لجيل الشباب، الجيل المشوه جراء "الاستعمار الناعم" والذي يتباهى بجهله، عطفاً على نقدها المجتمع المركب واعتبارها أن الخليج فارسي تاريخياً...

وأحدث كلامها صدمة جماعية، فانهالت عليها الإدانات، هي المتعالية والمتشاوفة، التي كفرها الإسلاميون واتهمها الليبراليون بالسلفية الفكرية. وهذه الحلقة كانت أثارت سخط الابناء حينذاك بعد الحملة العنيفة التي قامت ضد الوالدة. ولعل كلامها عن إمكان إحياء لقاء تلفزيوني جديد  فتح جراح الابنين، فغضبا وهددا والدتهما، التي حاولت تبرير الإطلالة التلفزيونية، في في كونها لقاء عائلياً واجتماعياً، وليس ثقافياً ولا سياسياً. ثم  بدلت رأيها وحاولت إقناعهما أنها لم توافق أصلاً.

تبدو نوفيلا "دار خولة" غنية في عناصرها السردية وشخصياتها ووقائعها وأجوائها، وكان ممكناً أن تحولها الكاتبة بثينة العيسى إلى رواية لو أنها قررت التوسع في معالجة أحوال الشخصيات الغنية، وماضيها وحاضرها وعقدها. ومن هنا يشعر القارئ بأنه أمام رواية قصيرة، لا تشبه البتة القصة الطويلة. ويكفي أنها تناولت مشكلة عائلة وأم وإخوة ثلاثة، تجمع بينهم الكراهية أكثر مما تربطهم مشاعر الأخوّة الحقيقية.

وتنمّ النوفيلا "دار خولة" عن ثقافة الروائية بثينة العيسى، وانفتاحها على الفن الروائي العالمي وعمق نظرتها التحيليلة. فهي اختارت قضايا شائكة ليس من السهل خوضها بعدما تطرق إليها روائيون كبار سواء، قضية صراع الإخوة ("الإخوة كارامازوف"  لدوستويفسكي، و"الإخوة الاعداء" لكازانتزاكيس وسواهما)، وفكرة "العشاء الأخير" التي جذبت روائيين كثراً.  

المزيد من ثقافة