Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عصا "المارشالية"... لمن؟

مع تطور صناعة العصي وانتشارها اكتسبت دلالات متنوعة بين رجال السياسة والفن والفكر والأدب في كل المجتمعات

نابليون وعصاه والعديد من المارشالات التابعين له خلال معركة بورودينو في عام 1812 (لوحة لفاسيلي فيريشاجين)

ملخص

مع تطور صناعة العصي وانتشارها اكتسبت دلالات متنوعة بين رجال السياسة والفن والفكر والأدب في كل المجتمعات

الحديث الذي يشغل الشارع البريطاني هذه الأيام هو احتفال تتويج الملك تشارلز الثالث في عطلة نهاية هذا الأسبوع، ولا أحد يهتم بالتفاصيل أكثر من البريطانيين الذين يريدون معرفة من هم الحضور وما الطعام الذي سيقدم وماذا سيرتدي الملك في هذا اليوم المنتظر. أعلن قصر باكنغهام أن تشارلز سيستغني عن الأثواب الذهبية العتيقة التي يرتديها الملوك في مثل هذه المناسبات وسيظهر بزيه العسكري الكامل مثلما فعل يوم جنازة والدته الملكة إليزابيث الثانية في سبتمبر (أيلول) العام الماضي. في ذلك اليوم لفت تشارلز انتباه الصحافة (التي تعشق التفاصيل) بتلك العصا المغطاة بالمخمل الأحمر وزخارف ذهبية التي كان يحملها في يده. حصل تشارلز على العصا في عام 2012 عندما منحته والدته رتبة مشير (مارشال)، ومن هذه الرتبة تأتي تسمية هذه القطعة بعصا المارشالية أو عصا المشير، ولكنها تسمى أيضاً عصا الملوك وعصا القيادة والصولجان.

تاريخ العصا

تظهر الرسومات الجدارية والتماثيل الفرعونية أن العصا كانت رائجة بين الملوك وعلية القوم للدلالة على الزعامة والمكانة الرفيعة، وتحولت من أداة بسيطة للدفاع والقتال إلى قطعة فنية يعتنى بصناعتها ومظهرها وزخرفتها. تفنن صانعوها بتطعيمها بمواد ومعادن ثمينة ونحتها بأدق التفاصيل. وكانت العصا جزءاً لا يتجزأ من حاملها لدرجة أنها كانت تدفن معه عند وفاته.

كذلك تظهر العصا في جداريات سومرية عدة، حيث كانت تستخدم من قبل الملوك والكهنة والقادة العسكريين على حد سواء.

كان الصولجان بين اليونانيين الأوائل عصا طويلة يستعملها الشيوخ، ثم درج استخدامها بين القضاة والزعماء العسكريين والكهنة وغيرهم من المتنفذين وحتى الآلهة في الأساطير القديمة. تتميز العصي اليونانية بالحلي المعدنية الذهبية أو الفضية التي تزين قمتها غالباً.

يحتمل أن الرومانيين قلدوا اليونانيين في حمل العصا، وطوروها وبدأوا باستخدام العاج في تزيينها، وكان الصولجان العاجي يدل على الرتبة العسكرية وكانت تهدى للقادة العسكريين المنتصرين، إضافة إلى تميز الآلهة الرومانية القديمة بعصيها، كما نرى في تمثال الإله جوبيتر الموجود في متحف الأرميتاج في سان بطرسبورغ.

عرف الأباطرة الرومانيون بحمل عصي مصنوعة بالكامل من العاج وتحمل على قمتها نسوراً ذهبية.

أما في إنجلترا فتميزت عصي القادة بوضع صليب أو حمامة على قممها، وفي بعض الأحيان كانت الصولجانات تحمل رموزاً مقدسة، مثل صور لمريم العذراء أو بعض القديسين.

 اختارت فرنسا شعار زهرة الزنبق الملكي أو شعار العدالة على هيئة يد مفتوحة، وفي عهد لويس العاشر كان شائعاً أن يحمل الرقباء في السلاح عصا احتفالية شديدة الزخرفة. وبحلول القرن السادس عشر تم التخلص تدريجاً من العصي لأغراض قتالية، واستبدلت بها نسخ احتفالية مزخرفة، تستخدم كدليل على الثروة والسلطة. ومنذ ذلك الحين بات قادة الجيش يحملون هذه العصي، كرمز لقوتهم في ساحات المعارك، وكذلك انتشر استعمالها بين النبلاء وصارت جزءاً مهماً من إطلالة الرجل، وكانت هناك آداب معينة تتبع في حملها، إذ لا يجوز وضعها تحت الإبط أو الاتكاء عليها أو حملها في حضور شخص ذي مقام أرفع.

ولم يكن حمل العصا حكراً على الرجال، بل شاع استخدامها أيضاً بين سيدات المجتمع الراقي.

وفي القرن التاسع عشر اتسع انتشار العصا ولم يعد يقتصر على الأرستقراطيين بل صارت قطعة أكسسوار ضرورية بيد البرجوازيين أيضاً.

العصا كسلاح

عادة ما تكون العصي الرمزية عبارة عن قضيب قصير وسميك، مصنوع من الخشب أو المعدن، والغرض الأساسي منها هو الدلالة على المكانة الرمزية وتكون جزءاً من زي حاملها، وهي قطعة للزينة فقط وليست لها وظيفة عملية مثل الهراوات التي يحملها عناصر الشرطة التي تكون أطول وأرفع وبنهايات مسطحة خالية من الزينات.

تكون هراوات الشرطة مصنوعة من الخشب أو المطاط أو البلاستيك أو المعدن، وتستخدم كأداة امتثال وسلاح دفاعي من قبل ضباط إنفاذ القانون وموظفي الإصلاحيات وحراس الأمن والعسكريين.

يمكن استخدام الهراوة للضرب أو الوخز أو الردع أو تفتيش جيوب المشتبه فيهم كإجراء وقائي ضد الأشياء الحادة وكسر النوافذ لتسهيل عمليات الاقتحام أو إنقاذ الأشخاص المحاصرين في مكان ما.

في المقابل، يستخدم بعض المجرمين الهراوات كأسلحة بسبب وزنها الخفيف وسهولة الحصول عليها وحملها وإخفائها.

كانت قوات الشرطة في بريطانيا في العصر الفيكتوري أول من حمل العصي التي كانت مزينة بالشارة الملكية وتعد بمثابة بطاقة تعريف بحاملها وسلطته.

كذلك كانت شرطة المرور البريطانية أول من استخدم العصي التي كانت تطلى باللون الأحمر لتسهيل رؤيتها من مسافات بعيدة عند تنظيم حركة المرور.

أدخلت تطويرات وتحسينات كثيرة على عصي قوى الأمن مع الوقت، حيث توجد الآن نسخ قابلة للطي أو تيليسكوبية أو مزودة بأضواء كشافة أو حتى خاصية الصعق الكهربائي.

شخصيات تميزت بعصاها

مع تطور صناعة العصي وانتشارها اكتسبت دلالات متنوعة بين رجال السياسة والفن والفكر والأدب في كل المجتمعات، الشرقية والغربية على حد سواء. إلى جانب لجوء بعض الشخصيات إلى الاتكاء على العصا بدوافع صحية في المقام الأول، مثلما كانت العصا العمانية ترافق الفنان السوري الراحل صباح فخري في سنواته الأخيرة، لكن بعضهم الآخر كان يحملها لإضفاء سمات معينة تميز شخصيتهم.

من أشهر الشخصيات الفكرية والإبداعية التي تميزت بحمل العصا برنارد شو وتوفيق الحكيم وتشارلي تشابلن وبطليموس.

وفي مجال السياسة والحكم يتحدث التاريخ عن عصي توت عنخ آمون ويوليوس قيصر ونابليون بونابارت وتشرشل وغاندي والملك فاروق الذي حصل على عصاه من الملك فؤاد على رغم أن هذا الأخير لم يظهر حاملاً هدية تتويجه البريطانية تلك أبداً لرفضه ارتداء الزي العسكري، والرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي وجد عصاه مصادفة على إحدى الأشجار، وقرر أن يتخذها، فنحتها وصقلها بنفسه.

في الزمن المعاصر كانت العصا جزءاً من هوية الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني، الذي كان المحللون يشيرون إلى عصاه عند الحديث عن حلول "سحرية" لأزمات البلاد.

وربما يكون الرئيس السوداني السابق عمر البشير أشهر من تميز بعصاه ذات المقبض العاجي التي لازمته في المنابر الإعلامية وفي خطاباته الجماهيرية، واستخدمها للتهديد والاحتفال، وكادت تؤدي إلى أزمة داخل البرلمان السوداني عام 2016 عقب اختفائها بعد أن أهداها البشير إلى رئيس الكتلة البرلمانية لحزب المؤتمر الوطني مهدي إبراهيم.

واليوم نرى العصا بيد الجنرال البرهان قائد الجيش السوداني، وكذلك بيد الجنرال حميدتي قائد قوات الدعم السريع، اللذين تأثرا ربما بالبشير، إذ أضافت العصا نوعاً من السطوة والسيطرة إلى شخصيته. ويقال إن أول قائد عسكري في السودان حمل العصا وصارت ملازمة له هو الجنرال جعفر النميري، إذ يتردد أن أحد الأئمة الصوفيين أقنعه بضرورة حملها كي تقيه شر أعدائه ومكائدهم ودسائس من يتربصون به شراً ومنعهم من الانقلاب عليه، فاقتنع النميري بكلام الإمام وظل يحملها كتعويذة ترافقه أينما حل.

العصا في الثقافة العربية

بعيداً من صورة الراعي الذي يهش قطيعه أو الجد العجوز الذي يحتاج إلى ما يساعده على مشيه، تتمتع العصا بمكانة مهمة في التاريخ العربي والإسلامي، وورد ذكرها في الكتب وضربت بها الأمثال ("العصا لمن يعصى" و"العصا من العصية" و"إذا كانت العصا في يدي كان الحق في فمي")، وعرفت كدلالة على القوة والحزم والانضباط وأيضاً التراث والأصالة والفخر والاعتزاز، وما زالت إلى يومنا هذا تحظى بمكانة كبيرة في دول الخليج العربي والمجتمعات البدوية، حيث لا يسير الرجل إلا وعصاه معه، ويحملها الوجهاء والشخصيات الكبيرة للتعبير عن الوجاهة والهيبة والمكانة القديرة والسن، إلى جانب ارتباطها بالتأديب والعقاب والشدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يحملها الأشراف والحكام وعلية القوم لمظاهر واعتبارات كثيرة، أو كجزء من التقاليد والعادات القديمة الخاصة بمجتمع معين، ويتم توارثها بين الأجيال، وتعد هدية قيمة ونادرة، وتعبر عن تقدير كبير للشخص الذي تهدى إليه.

كما أنها تحمل في بعض المجتمعات دلالات دينية واجتماعية وشعبية، وترتبط أحياناً بالطرق الصوفية إذ لا تفارق أيدي شيوخها وعلمائها، وكذلك يشيع استخدامها في حلقات التعليم (الكتاب) لمعاقبة الطلاب الذين يخطئون في حفظ القرآن الكريم.

بغض النظر عن دلالاتها وأسباب حملها ما لم تكن لأغراض عملية بحتة، ينبغي على من يختار العصا لتكون جزءاً ثابتاً من شخصيته تذكر أن العصي السحرية التي تغير الواقع وتوجه الحشود وتبدل الأحوال ليست موجودة في أيامنا هذه إلا بيد أمثال هاري بوتر.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات