ملخص
قد يكون روميو وجولييت أعظم عشاق التاريخ، لكن حياة كل منهما مختلفة تماماً.
في عصر النهضة الإيطالية، عصر دافنشي ورافائيل ومايكل أنجلو، قدر لمدينة فيرونا أن تشهد أعظم قصة حب تداولها التاريخ حتى يومنا هذا. وهو ما جعلها قبلة للعشاق والمعذبين من كل حدب وصوب إلى حيث يقع منزل بطلة شكسبير، جولييت الصغيرة ذات العينين البراقتين، ورمز الرومانسية الدائم.
بوسعك الدخول إلى المحراب المقدس عبر ممر واسع، تشكلت جدرانه بعدد لا حصر له من الغرافيك والعبارات الرقيقة والشخبطات الملتاعة إلى جانب القلوب المخترقة بسهام كيوبيد كشاهد ودليل وبرهان على مدى سطوة تلك العاطفة الملغزة في كل زمان ومكان.
وما إن تلج باحته المزينة بورود خضراء تجدها أمامك في ثوبها الطويل البرونزي تقف في المكان الذي اعتاد روميو الوقوف فيه أسفل شرفتها يتغنى بها، تستقبل راحات الزوار القابضة على صدرها المنحوت من المرمر بقلب عاشقة، كي تمنحهم الحظ الذي حرمت هي منه.
كتب وليام شكسبير مسرحيته الشعرية "روميو وجولييت" عام 1595، بعد قرنين من وصف دانتي للعائلتين المتناحرتين، مونتاجيو وكابوليت، ونحو قرن من ظهور أول نسخة إيطالية لقصة الحب المستحيلة، مستلهماً في الأساس ملحمة آرثر بروك "التراجيديا التاريخية لروميو وجولييت"، غير أن قصة الحب بين الأجرام المتنافرة تعود أصداؤها إلى ما قبل ذلك، وتروى بطرق مختلفة وأعمار متفاوتة لبطلتها، فمن تكون جولييت الحقيقية، وكيف أغوت المخيلة الجماعية على مدى قرون بقصة حب لم تستغرق سوى أسبوع واحد؟
فتاة في حالة حب
في شهر أبريل (نيسان) من هذا العام، الشهر الذي شهد ولادة شكسبير وموته، صدر كتاب للباحثة صوفي دنكان "البحث عن جولييت: حياة بطلة شكسبير وموتها التراجيدي"، عن دار سكيبتر للنشر، يستكشف النسخ المختلفة للمحبة الصغيرة عبر الثقافات والعصور، ومدى تنوع تناولها وإعادة صياغتها وتصورها في الثقافة الغربية منذ ظهورها الأول في القرن السادس عشر حتى الوقت الراهن.
وفي طريق البحث عن بطلتها التي لم يتسن لها أن تحتفل بعيد ميلادها الرابع عشر، تتبع صوفي المولودة في ستراتفورد أبون آفون - مسقط رأس شكسبير، كل معالجة وتجديد وإلهام للقصة من بدايتها في عصر النهضة وصولاً إلى التعديلات الفيكتورية وسينما الستينيات وما بعدها، بتفاصيل دقيقة ومستفيضة، تاركة روميو في الظل، على رغم من إقرارها أن فكرة فصل الثنائي العاشق لتسليط الضوء على أحدهما تبدو فكرة منحرفة، غير أن لديها ما يبرر ذلك: "أنا أفصلهما لأنهما، على رغم كونهما غير قابلين للقسمة في الموت وفي المخيلة الشعبية، فقد قضيا معظم حياتهما منفصلين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد يكون روميو وجولييت أعظم عشاق التاريخ، لكن حياة كل منهما مختلفة تماماً. إذا كانت حكايتهما هي تلك القصة التي تخبرنا معنى أن تكون شاباً محباً ومحكوماً بالفشل، فإن قصة جولييت هي التي تحكي معنى أن تكون فتاة في حالة حب.
في أحد طوابق منزل جولييت، يمكنك ترك رسالة في صندوق بريد لونه أحمر مكتوب عليه "عزيزتي جولييت" والأكثر إثارة أن تنتظر الرد. أثناء تأليف الكتاب، أرادت صوفي أن تتقمص دور بطلتها، فأمضت وقتاً كواحدة من "أمناء جولييت"، وراحت ترد على رسائل تطلب المشورة، أو تطلق صرخة فحسب من فرط المعاناة بعد أن خبرت بنفسها عمق آلام جولييت وتعاطفت مع قرارها بالانتحار، واتخذت منها كاهنة وناصحة أمينة في شؤون الحب، أكثر الموضوعات إلحاحاً في الحياة والفن.
وبينما تعد قصة إيروس وبسكيس المذكورة في كتاب "التحولات" لأبوليوس من أول تجلياته، لم تتوصل اللغة إلى تعريف شاف للمفردة، نظراً إلى اختلاف الثقافات والعادات وطرق ممارسته، غير أن مشاعر الاصطفاء عادة ما تستحوذ على المحبين في أي زمان ومكان فيصبح بوسعهم لمس ما لا يلمس ورؤية ما لا يدرك بالحواس وسماع دوار الصمت، وتجريب ما لا يخطر على قلب بشر، وشيئاً فشيئاً يتلاشى إحساسهم بالفناء ليحل مكانه نوع من الخلود السماوي.
مثل هذه الشفافية، أمكن طمسها على طاولة العلم الذي عزا جميع الحالات الروحانية إلى كهرباء الدماغ وأشباه الكيماويات ودورها في الشعور بالغبطة والإثارة والانفعال وكذلك المواد الأفيونية الداخلية للفص النخامي.
مع أن كل هذا، لا يفسر اختلاف حركاتنا حياله وتحركه نحونا، تمسكنا بمن نحب أو القدرة على التخلي عنه، تقبل انسحابه المفاجئ بمرونة أو الموت دون ذلك. في هذا الصدد قدمت جولييت مثالاً ناضجاً على رغم حداثة سنها، على ارتباطها بالاندفاع والمغامرة والتضحية والموت بما لا يتفق مع صورة المرأة في وعي عصرها، فنحن حيال فتاة في طور التفتح، تبادلت قبلتين مع صبي تلتقيه لأول مرة، ولا تكاد تمر ساعات حتى تسأله رباطاً أبدياً وهي تدرك تماماً أنه ابن عدو أسرتها اللدود، وأن قراراً كهذا سيقيم الدنيا ولن يقعدها أبداً.
ما تلا ذلك من تضحيات تفوق طاقات البشر، هي ما جعلت شكسبير نفسه يصغي إلى وقعها على قلب طفلة لم يمنحها من سرده سوى مشاهد معدودة، كما في التردد في شرب قارورة المخدر وهي لا تدري نية القس أو حقيقة مفعوله، ورعبها من أن تدفن حية في قبر بارد مع الجثث النتنة وشيطنة الأشباح لا سيما وأن جثة ابن عمها الذي قتله روميو مدفونة على بعد خطوات منها لم يجف دمها بعد، وربما جاءت لتنتقم من انتصارها لقاتله، فمن أين واتتها كل هذه الجرأة وهي التي لم تغادر منزل أبيها إلا لزيارة كاهنها؟
حلم جميل مقارنة بفتيات عاديات
اللافت أن شكسبير ابتكر شخصية جولييت في عصر كانت فيه المرأة المحبوبة محلقة في السماء، كما نلحظ من الاسم الذي منحه السير فيليب سيدني لبطلته صعبة المنال "ستيلا" أي "نجمة"، فهل أراد شكسبير رسم بورتريه لفتاة يمكن أن توصم بالخفة وجعلها أصغر من نسختها الأصلية بثلاث سنوات، وكان عمر ابنته الكبرى في ذلك الوقت تحديداً (لاحظ ذلك)، أم أراد الانتصار لها بتلك الكلمات على لسانها لروميو "أخشى أنني أجازف بأن تظنني فتاة خفيفة؟"، تقول صوفي "إنها كلمة تبدو بريئة، لكنها في القرن السادس عشر تضمنت الاختلاط والفجور، وهي الكلمة نفسها التي استخدمت لوصف هيلين الجميلة التي أثارت بهربها مع باريس حرب طروادة". ويكفي أن العرض الأول للمسرحية لعب فيه الصبي روبرت جوفي دور جولييت، إذ لم يكن مسموحاً للمرأة بالتمثيل آنذاك، واستمر الأمر كذلك حتى عام 1748، حين أصبحت سوزانا سيبر أول جولييت تقف في الشرفة، "في نسخة من المسرحية اقتبسها ديفيد جاريك، الممثل والمخرج الأكثر إنتاجاً في القرن الثامن عشر وكاهن شكسبير الأكبر الذي نصب نفسه بنفسه".
خلال إجازة 2019 توجهت صوفي إلى فيرونا، يحدوها الفضول لرؤية المكان الآخر للسياحة الشكسبيرية: مسقط رأس جولييت، وهناك وسط الحشود التي تتزاحم لأجل التقاط صورة مع تمثالها أو في شرفتها، تساءلت، كم من هؤلاء يوافقون حقاً إذا اختار أبناؤهم أو أصدقاؤهم نصفه الآخر من عائلات يحتقرونها؟
كم عدد الطلاب الذين يدرسون في الخارج والذين يقومون بالتدوين بجدية والتعليق على منشورات "إنستغرام"، يمكنهم الدفاع عن علاقات حب وقعوا فيها ضد عقود من الرفض العائلي الذي لا يمكنهم مجابهته؟ في محاولة للإجابة عن تلك الأسئلة تستنتج صوفي أننا نحرص دائماً على التعرف إلى من يشبهنا وينتمي إلى دوائرنا الاجتماعية، وتضرب مثلاً من أعمدة النصائح في الصحف التي تعمل على إقناع الأرامل والمطلقات بالانضمام إلى نوادي الهوايات لاكتشاف "الأشخاص ذوي التفكير المماثل".
مصادر ثقافية وتاريخية
لكن قلة من يسعون عمداً إلى البحث عن شريك من خلفية مختلفة تماماً، فما بالك بفتاة تعشق شخصاً لا يربطها بعائلته سوى تاريخ طويل ومعقد من العداء المستحكم. تعتمد صوفي على مصادر ثقافية وتاريخية وأبحاث جديدة لاستكشاف الوجوه المختلفة لجولييت عبر القارات وعبر العصور بدءاً من الإليزابيثيين ومحن الممثلات الفيكتوريات إلى المواقع السياحية في فيرونا عبر إيرلندا الشمالية وأفغانستان وأوكسفورد المعاصرة.
فعلى عكس هيلين التي أوردت قومها مورد التهلكة لأجل الحب، جلب حب جولييت الحظ لبلدتها فيرونا من حيث الشهرة والسياحة والرومانسية. وهي تتعامل بذكاء وحسم مع التداعيات الأكثر قتامة في التاريخ الثقافي لبطلتها، كاستيلاء النازيين على تراثها وشيوع اسم جولييت بين الفتيات الأفريقيات المستعبدات في منطقة البحر الكاريبي البريطانية، حيث أطلق على نحو عشرة آلاف أنثى مستعبدة اسم جولييت مع السماح ببعض التحريفات أحياناً، كما تواصل البحث عن الفتاة الأيقونة في قلب العنف الطائفي في البوسنة وبلفاست، والفاشيين الإيطاليين في فيرونا، وعشاق الحياة الواقعية في أفغانستان، وكيف تغيرت أفكار المجتمع حول الرومانسية والمأساة وطبيعة الفتيات المراهقات وغضبهن وجموحهن المبالغ وكذلك الحال في شأن جولييت نفسها التي اتخذها البعض رمزاً للرومانسية بينما الآخرون استغلوها كمصدر للنزق والشهوة الجنسية.
تستخلص صوفي في نهاية رحلتها عبر الأدب والمسرح والسينما والسياسة والحياة، أن إرث جولييت يمتد أبعد من حياتها الأدبية، وأن وصف مأساتها باعتبارها قدراً محتوماً أمراً يفتقر إلى كثير من الدقة، لقد ماتت المخلصة الصغيرة التي أحبت كما ينبغي أن يكون الحب، نتيجة لسلسلة من التفاهات والرعونة الذكورية، روميو يقتل تايبلت، والدها يعتبرها ملكية خاصة بوسعه أن يهديها لمن يرغب، ويسرع بزواجها في فترة قياسية في غياب زوجها عن المشهد، فتأبى كرامتها الجمع بين زوجين، وتأتي الطامة الكبرى حين يفشل القس في توصيل الرسالة لجبن الرسول وتراخيه، وحين تستيقظ من غيبوبتها ترى الكراهية تخرج لسانها وقد انتصرت على رغم كل تضحياتها الخطرة، فتدرك أن جثة الحبيب المسجاة جوارها في القبر الرطب تعني حتمية إسدال الستار على قصة الحب القصيرة.