ملخص
جاءت توقعات الصندوق لتفاقم متاعب الاقتصاد البريطاني وتخدش صورته أمام المستثمرين العالميين بعد عام عصيب شهدت فيها المملكة المتحدة أحداثاً درامية هوت بقيمة الاسترليني
لا يزال الاقتصاد البريطاني في حالة تقلب مستمر منذ أشهر، بفعل استمرار التضخم العنيد والقلق في شأن الركود المحتمل، فضلاً عن التداعيات التي مرت بسادس أكبر اقتصاد في العالم جراء "بريكست"، في وقت تحاول الجهات الاقتصادية العمل على دفع العجلة نحو النمو، وهو أصعب المراحل والأهداف التي ينتظر أن تجتازها حكومة ريشي سوناك رئيس الوزراء الذي أتى من دهاليز البنوك العالمية بخبرة مصرفية عريقة.
محللون في الشأن البريطاني يرون أن لندن واقعة في خندق أزمات متعددة، بسبب أجواء الاستثمار الضبابية التي تلف البلاد، والتجربة الصعبة التي مرت بها في تحطيم آمال البريطانيين في تحقيق حلمهم بحياة أكثر سعادة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي.
شبح الركود
ما يعني المستثمرين الآن هو المعطيات الجديدة التي تقدمها حكومة سوناك في ظل شبح الركود الذي يهدد الاقتصاد، وضعف البنية التحتية، واستمرار انهيار القطاع العقاري، ونتيجة لسيناريو الاضطراب المالي الأسوأ يقف المراقبون بتشكيك عما يخبئه البنك المركزي البريطاني من سياسة نقدية جديدة، فقد تكون الضغوط التضخمية المستمرة سبباً مقنعاً لصانعي السياسة النقدية في العالم "جميعاً" في رفع أسعار الفائدة للمرة "الـ20" وهو أمر مبالغ فيه بالطبع، فهل هي كافية للقضاء على تداعيات أزمات المصارف ومخاوف الركود واضطراب أسواق المال؟ فبحسب متخصصين مطلعين في البنك الدولي ذكروا أن العالم بات يمر بتجربة "غريبة" في معالجة التضخم، وللمرة الأولى لم تعد معظم قرارات رفع الفائدة تنفع في احتواء المشكلات الاقتصادية الحالية، في وقت حذر فيه مصرف "غولدمان ساكس" الأميركي من أن "بنك إنجلترا" قد يضطر إلى رفع أسعار الفائدة إلى خمسة في المئة هذا الصيف.
"بنك إنجلترا" يرفع الفائدة للمرة الـ12
وعلى خطا "الفيدرالي الأميركي" و"المركزي الأوروبي"، رفع "بنك إنجلترا" سعر الفائدة الرئيس للمرة الـ12 على التوالي، أمس الخميس، بمقدار 25 نقطة أساس إلى 4.5 في المئة، مواصلاً سياسته المتشددة من أجل كبح التضخم الذي لا يزال الأعلى بين جميع الاقتصادات المتقدمة. وقال "بنك إنجلترا" الذي جاء قراره متوافقاً مع توقعات المحللين، إنه يستبعد ركود الاقتصاد البريطاني.
وكان "بنك إنجلترا" من أوائل البنوك المركزية الكبرى التي تحركت لرفع معدلات الفائدة للسيطرة على ارتفاع الأسعار الذي فاقمه هجوم روسيا على أوكرانيا، إذ أدى لارتفاع أسعار الطاقة بشكل خاص، إذ رفع الفائدة منذ ديسمبر (كانون الأول) 2021 من مستوى منخفض قدره 0.1 في المئة بهدف الحد من ارتفاع الأسعار، لتصل حالياً إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2008، وحتى الآن فشل المركزي البريطاني في السيطرة على وتيرة التضخم الذي لا يزال فوق 10 في المئة والأعلى في غرب أوروبا.
وهذه الزيادات في الكلفة ستزيد أعباء الأسر والشركات في كلفة الاقتراض إذ يكافح البنك المركزي لخفض أعلى معدلات التضخم في 40 عاماً إلى مستويات أكثر استدامة.
هل هو تضخم إلى الأبد؟
استمرار التضخم عند مستويات أعلى من المتوقع من شأنه أن يبقي الضغط على الأسر وسط أزمة كلفة المعيشة وقد يكون محرجاً للحكومة، بعد تعهد ريشي سوناك بخفض معدل التضخم إلى النصف هذا العام، وبلغ معدل التضخم 10.7 في المئة عندما وعد.
شرائح فاعلة
إلى ذلك، رأى أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية ناصر قلاوون أن الاقتصاد البريطاني يقف الآن، بعد هزيمة حزب المحافظين في الانتخابات المحلية وفقدانه ألف مقعد وكثيراً من المجالس البلدية، أمام مفترق طرق لأن الخسارة مرجعها الأساس هو إدارة الاقتصاد، وتغيير ثلاث حكومات خلال عام واحد لم يسعف إدارة الحزب الذي لم يخسر السلطة لكنه خسر في المقابل الثقة من شرائح كبيرة، متقاعدين وغيرهم، شركات، رجال أعمال وشرائح واسعة بسبب ضعف الإدارة الاقتصادية والكارثة التي وقعت مع إدارة رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس وبقائها فقط 45 يوماً في السلطة.
تخفيف الضرر
أضاف ناصر قلاوون، في تعليقه لـ"اندبندنت عربية"، أن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ووزير الخزانة جيريمي هانت عملا على تخفيف الضرر، لكن لا تزال السياسة الاقتصادية غير جذرية، بمعنى غياب سياسة اقتصادية منذ 10 سنوات على رغم محاولات عدة، والصناعة كمثال تراجعت من 18 في المئة من إجمالي حجم الاقتصاد إلى أقل من تسعة في المئة، مع تهديد أركان صناعية مثل شركة "تاتا" للفولاذ وغيرها بترك بريطانيا، في ظل وجود هجرة لشركات كبرى إلى نيويورك، وهو ما يشكل تحدياً كبيراً بهذا الإطار.
فرص جيدة ولكن
وأوضح الأكاديمي المعروف أن الرأسمال العربي والأجنبي وجد في بريطانيا فرصة جيدة للاستثمار لكن حكومات حزب المحافظين لا تستطيع أن تقول له استثمر في بناء الجسور، وتستطيع أن تعرض عليه فقط، مثلما حدث مع مشروع الثلاث مدن الواقعة في شمال ليفربول، مانشستر وليدز وغيرها، ورأسمال يريد أحياناً أرباحاً متوسطة المدى لكن لا يستطيع أن ينتظر 10 سنوات كي يأخذ رسوماً على عبور جسر أو يحصل على خدمة بعينها، وعبر عن اعتقاده أن الحكومة البريطانية بعد خروجها من "بريكست" لم تنجح في عمل مبادرات لكي تعوض بعض الخسائر ما يفسر ما أعلنه صندوق النقد الدولي، في أبريل (نيسان) 2023، وكذلك جهات بريطانية من أن الاقتصاد سينكمش 0.2 في المئة هذا العام مقارنة بالعام السابق. وأشار إلى وجود تحديات لضبط مستوى التضخم عبر زيادة أسعار الفائدة بنحو 25 نقطة أساس فقط، وتبرير ذلك هو أن استخدام سلاح رفع الفائدة المصرفية فقط من دون التنسيق مع عوامل أخرى لضبط التضخم لا يفيد كثيراً، ويؤدي إلى حدوث بعض الخسائر في قطاع البنوك كما هي الحال منذ أن استخدم هذا السلاح قبل عام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوقع قلاوون أن يدرس "بنك إنجلترا" المركزي ووزارة الخزانة رفع مستوى الأمان لأصحاب الحسابات الفردية من 85 ألفاً إلى 250 ألف جنيه استرليني (106.4 ألف - 313 ألف دولار) لمضاهاة أميركا ودول أخرى، وهو مما يعني أن الحكومة ووزارة الخزانة تريدان دعم الاقتصاد للحيلولة دون هجرة رؤوس أموال مثلما حدث في أميركا.
غزل سياسي
ولفت أستاذ الاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية إلى أن كلاً من رئيس الوزراء ريشي سوناك، باعتباره وزير خزانة سابق والوزير الحالي جيريمي هانت تمكنا من تخفيف الضرر، لكن على رغم ذلك لم يستعيدا الثقة بعد، ولم يقوما بخطوات جذرية بالأمور البنيوية قبل عامين من الانتخابات العامة المقبلة، إذ إن هناك الكثير ليقدماه، في ظل "الغزل" بين حزب العمال المعارض والقطاعات التجارية التي فقدت ثقتها في إدارة حزب المحافظين في "كارت تاريخي" للحزب.
وختم حديثه قائلاً "هناك استشعار عند القطاعات الست (حي المال والأعمال والبنوك) التي تجاهلها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، وقامت بالأضرار بها رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس، مما حدا ببنك إنجلترا للتدخل لإنقاذ بعض صناديق التقاعد، وهذه القطاعات برأيي تريد أن تتغير الإدارة الاقتصادية مع حكومة جديدة، وإن لم تفصح عن ذلك"، معتبراً أن الاقتصاد هو لب الأمر في بريطانيا، وربما إن لم تسارع الحكومة بعقد اتفاق مع مجلس التعاون الخليجي واليابان وأستراليا وغيرها فإن هذا يعني مشكلة كبرى للبلاد.
لا توجد راحة للاقتصاد البريطاني
بدوره، قال المستشار الاقتصادي لصندوق النقد الدولي بيار أوليفييه غورينشاس، إن المملكة المتحدة لن تحظى بفترة راحة مبكرة من أزمة كلفة المعيشة التي رفعت معدل التضخم السنوي إلى 10.4 في المئة، وفقط ارتداد متواضع إلى واحد في المئة نمو العام المقبل حيث من المتوقع إجراء الانتخابات العامة. أضاف غورينشاس "نواصل توقع حدوث ركود في عام 2023 على خلفية التأثير الحاد إلى حد ما لارتفاع أسعار الطاقة وتشديد السياسة النقدية وبعض التشديد في الأوضاع المالية"، و"تقويمنا العام هو أن هذا سيكون مليئاً بالتحديات بالنسبة إلى المملكة المتحدة، ولكن النمو سيزداد في عام 2024"، فنتيجة لارتفاع تضخم أسعار المواد الغذائية، يمكن أن تكلف فاتورة التسوق الأسبوعية متوسط كلفة الأسرة نحو 100 جنيه استرليني (126.4 دولار) في العام المالي 2023 - 2024، أي ضعف المعدل في مطلع القرن، وسيكون هذا صعباً بشكل خاص بالنسبة إلى الأسر ذات الدخل المنخفض التي تنفق على الغذاء أكثر نسبياً من الأسر ذات الدخل المرتفع.
وفي الوقت ذاته، ستنخفض أسعار المنازل في المملكة المتحدة بنحو ثمانية في المئة في عام 2023، وهو ثاني أكبر انخفاض سنوي في أسعار المساكن على مدار الأعوام الـ70 الماضية، ومن المتوقع أن تنخفض أسعار المساكن، العام المقبل، حيث يؤثر ارتفاع أسعار الفائدة وكلفة المعيشة على هذا القطاع، ويعد انخفاض أسعار المنازل نادراً جداً بالنسبة لاقتصاد المملكة المتحدة وسيكون هذا ثاني أكبر انخفاض سنوي خلال 70 عاماً.
أنباء غير سارة
وكانت التوقعات الأخيرة لصندوق النقد الدولي حول النمو العالمي تتحدث عن أنباء غير سارة للاقتصاد البريطاني بوضعه في قائمة الدول التي ستشهد انكماشاً عام 2023 على عكس كل الدول الكبرى، وأصبحت بريطانيا الدولة الوحيدة ضمن مجموعة الدول السبع التي ستحقق تراجعاً في النمو الاقتصادي بنسبة 0.6 في المئة، ما يجعل أداءه أسوأ من أداء الاقتصاد الروسي الذي يتعرض لسيل من العقوبات الغربية غير المسبوقة، وجاءت توقعات الصندوق لتفاقم متاعب الاقتصاد البريطاني وتخدش صورته أمام المستثمرين العالميين بعد عام عصيب شهدت فيها المملكة المتحدة أحداثاً درامية هوت بقيمة الجنيه الاسترليني.