ملخص
اسم جان إيف لودريان مألوف عند معظم الشعب اللبناني لارتباطه بـ "المبادرة الفرنسية" لعام 2020 منذ تفجير مرفأ بيروت
حرك تعيين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وزير الخارجية السابق جان -إيف لودريان مبعوثاً شخصياً إلى لبنان في محاولة جديدة لإنهاء الأزمة الرئاسية المشهد السياسي المحلي وأعاد الزخم لـ "المبادرات الفرنسية" المتعددة التي ما فتئت باريس اقتراحها منذ أن حطت طائرة ماكرون في السادس من أغسطس (آب) 2020 في العاصمة اللبنانية المنكوبة جراء تفجير مرفأ بيروت قبل ذلك بيومين.
وحتى وقت قريب أجمع مراقبون أن الرئيس الفرنسي وفريق عمله، أي الخلية السابقة في قصر الإليزيه التي كانت مكلفة إدارة الملف الرئاسي في لبنان بقيادة باتريك دوريل (مستشار شمال أفريقيا والشرق الأوسط في الرئاسة الفرنسية) وإيمانويل بون (السفير الفرنسي السابق لدى لبنان) وبرنارد إيمييه (الدبلوماسي ومدير الاستخبارات الفرنسية) فشلوا. وتلخصت مبادرتهم على قاعدة "الحل الممكن" بالمقايضة بين المرشح الرئاسي سليمان فرنجية وموقع رئاسة الحكومة وطرح اسم الدبلوماسي اللبناني نواف سلام لذلك المنصب نظراً إلى قربه من المجتمع الدولي.
تلك "المقايضة" أثارت استياءً واستنكاراً لأنها لا تراعي الموقف المسيحي المتمثل في رفض ترشيح فرنجية واستدعى ذلك الفشل وفقاً لمصادر خاصة بـ"اندبندنت عربية"، تغييراً في وجهة نظر الإليزيه بالنسبة إلى مقاربة الاستحقاق اللبناني الدستوري المفصلي، المتمثل في انتخاب رئيس للجمهورية. كما يرى مراقبون أن فرنسا قد تذهب باتجاه محاولة إقناع "الثنائي الشيعي" ("حزب الله" وحركة "أمل") بقبول جهاد أزعور، بخاصة إذا لم يتضمن برنامجه الرئاسي أي توجه استفزازي لكليهما وانحصرت مفردات برنامجه في الدفع باتجاه استقرار الوضع السياسي والتركيز على الإصلاح الاقتصادي.
وتزامن تعيين لودريان مع "تقاطع" قوى المعارضة على ترشيح أزعور للرئاسة وأيضاً من بعد زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى باريس، حيث كان في زيارة للفاتيكان قبل تلبية دعوة ماكرون وكان أشار وبوضوح إلى أنه لا يمكن فرض رئيس على المسيحيين من دون رغبتهم.
"انعطافة فرنسية" ممكنة
وفي قراءة لهذه المعطيات اعتبر بعضهم أن هذا التعيين مؤشر إلى أن الأزمة اللبنانية ستطول وربما تتعقد. أما البعض الآخر، فرأى أن جلسة انتخاب رئيس للجمهورية التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري في الـ 14 من يونيو (حزيران) الحالي قد تحمل مفاجآت. فهل من انعطافة فرنسية بعد المعلومات التي تحدثت عن أن السفير الفرنسي السابق لدى لبنان إيمانويل بون الذي كان مؤيداً لطرح فرنجية، قال "إن هناك مرشحين آخرين إلى جانب ترشيح فرنجية القائم والثابت".
يرى الكاتب السياسي اللبناني فارس خشان الموجود في باريس أن "فرنسا لم تغير سياستها تجاه لبنان، كما أن ترشيح فرنجية ليس خياراً عقائدياً بمعنى أنه لا يمثل السياسة الفرنسية تجاه لبنان، ولا الخيار الذي ترغب فيه فرنسا فعلاً، بل إنه من باب البراغماتية والواقعية السياسية وموازين القوى اللبنانية. كما أن فرنجية يستطيع التحاور مع الثنائي الشيعي"، ويتابع أن "فرنسا تعلم تماماً أنه لا يمكن الإتيان برئيس من دون موافقة الحزب، كي يتمكن ذلك الرئيس من الحكم وتأليف حكومة فاعلة بشكل سلس وأيضاً كي لا تتكرر تجربة (الرئيس السابق) ميشال عون في الحكم. أما عن رغبة فرنسا الحقيقية والأساسية، فكانت تأمل في أحد الاسمين سمير عساف أو جهاد أزعور".
بدوره يشير المستشار القانوني في المفوضية الأوروبية محيي الدين الشحيمي المقيم في باريس أيضاً إلى أن "فرنسا تعلم عن قرب، عمق الأزمة اللبنانية وهذا ليس أمراً جديداً أبداً، لذلك هي تحاول وبجدية ومنذ استضافتها مؤتمر سيدر لدعم لبنان قبل خمسة أعوام، للتوصل إلى تكريس واقع نفعي على مستوى بناء الدولة والمؤسسات وضمن مختلف الحلول المقدور عليها وضمن الحدود والثوابت المتفق عليها، وهي المحافظة على اتفاق الطائف والعيش المشترك والتنوع الثقافي في لبنان".
لودريان يعود إلى الـ"تايتنك"
في السياق إن اسم جان- إيف لودريان مألوف عند معظم الشعب اللبناني لارتباطه بـ "المبادرة الفرنسية" لعام 2020 منذ تفجير مرفأ بيروت وبعد تصريحات نارية حادة أطلقها عُدّت "توبيخية" بحق الطبقة السياسية اللبنانية، خصوصاً بعد إشارته إلى أن لبنان يواجه خطر الزوال في حال استمرت الطبقة السياسية بالتقاعس عن مسؤولياتها. وقال حينها، "لبنان في حال طوارئ صحية وسياسية وثمة خطر محدق يهدد بزوال لبنان". وفي الثاني من ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه قال "إن الانهيار السياسي والاقتصادي في لبنان يشبه غرق سفينة تايتنك لكن من دون موسيقى". وبعد انتهاء زيارته إلى لبنان في شهر مايو (أيار) من عام 2021 وجّه رسالة مباشرة إلى رئيسي الجمهورية ومجلس النواب ميشال عون ونبيه بري وإلى الرئيس المكلف تشكيل الحكومة آنذاك سعد الحريري قال فيها إن "اللاعبين السياسيين اللبنانيين لم يتحملوا مسؤوليتهم ولم يبدأوا بالعمل بجدية من أجل تصحيح سريع في البلد"، وأضاف "إذا لم يتصرفوا منذ اليوم بوعي مسؤول، فعليهم تحمل تبعات هذا الفشل ونتائج إنكار التعهدات التي اتخذوها هنا في الأول من سبتمبر/ أيلول الفائت (2020) أمام الرئيس ماكرون".
ونقلت صحف لبنانية عن "أوساط دبلوماسية معنية بالشأن اللبناني أن تعيين لودريان هو إعلان فشل لخلية الأزمة الفرنسية التي لم تنجح في تسويق مبادرة فرنجية-سلام، كما في إقناع قوى المعارضة وتلك المناهضة لفرنجية بالعودة عن قرارها وتبني ترشيح الأخير". واليوم يمكن القول إن مرحلة جديدة تحمل على الاعتقاد بأن حقبة رئاسية جديدة انطلقت عنوانها "مرشح التسوية" أي "لا أزعور ولا فرنجية".
وعن هذا التعيين يقول خشان إن تعيين لودريان يعتبر خروجاً من "اللغة الخشبية" التي كانت متبعة من قبل الخلية السابقة وهو اسم مطمئن مسيحياً، كما يعتبر خروجاً عن "الروتين الفرنسي" ومحاولة من قبل ماكرون لتبييض صفحته، بخاصة بعد الحملة التي شنت عليه من قبل صحف فرنسية كبيرة مثل "لوموند" و"لو فيغارو" والتي وصفته بـ "العار" و"العار الدولي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل تعود المياه لمجاريها بين باريس والمعارضة المسيحية؟
وأصيبت العلاقة بين الإليزيه والشارع المسيحي بالتصدع، إذ إن باريس تتهم بالانحياز لفرنجية الذي لا يحظى بتأييد مسيحي واسع وسعيها إلى مقايضة انتخابه بتكليف السفير السابق نواف سلام رئاسة الحكومة.
وكان الكاتب والجيوسياسي الفرنسي رينو جيرار اعتبر في مقالة بصحيفة "لو فيغارو" نشرت في مايو الماضي أنه "غالباً ما تطلق فرنسا في إستراتيجيتها الدولية مبادرات جديرة بالثناء، ولكن للأسف غالباً ما تثبت أنها غير قادرة على أدائها بشكل جيد. بمزيج من نسيان ميزان القوى والإيمان الساذج بالحلول الإلهية، ينتهي الأمر عموماً إلى نتيجة تتعارض مع آمالها"، ورأى أن "غياب التناسق هذا من جانب فرنسا بين إستراتيجيتها وتكتيكاتها هو الآن صارخ في لبنان. بعد الانفجار الهائل في مرفأ بيروت في أغسطس 2020، بذل الرئيس إيمانويل ماكرون كثيراً من الجهد والوقت لإخراج بلد الأرز من مأزقه السياسي والاقتصادي. زار بيروت مرتين، لكن منذ ذلك الحين لم يتحسن وضع لبنان السياسي ومستوى معيشة السكان ذرة واحدة".
أما الأكاديمي محي الدين شحيمي، فيعتبر أن تعيين لودريان سببه أن "الإدارة الفرنسية متأكدة تماماً أن الأزمة اللبنانية ليست أزمة شغور رئاسي ومعركة على انتخاب رئيس للجمهورية، فالرئاسة جزء مهم من كل وهي بوابة الحل من أجل الدخول في مسار التعافي ومشوار الإصلاح والتطوير. ومن هنا يتلاقى هذا التعيين مع تناغم الرؤى الدولية لخلية الأزمة المولجة حل الأزمة اللبنانية مع الإدارة الفرنسية بكون الشخصية المختارة عارفة وعالمة بالشأن اللبناني ولديها خبرة في الأمن والدفاع، إذ إن لودريان كان وزيراً للدفاع بفترة ولاية الرئيس السابق فرانسوا هولاند. كما يأتي التعيين للتأكيد على أن فرنسا مع الحل المؤسساتي الشامل ومع رئيس يوافق عليه اللبنانيون يكون ضامناً وجامعاً غير استفزازي واستقطابي والذي سيكون انتخابه بوابة لبدء رحلة العلاج اللبنانية التي ستأخذ وقتها لا محالة".
هل نشهد "انعطافة" فرنسية؟
من جهة أخرى عوّل كثيرون في الداخل اللبناني على أن موقف فرنسا سيتغير من بعد لقاء البطريرك الراعي – ماكرون وربما تتراجع عن دعم فرنجية. وفي ذلك الإطار قال فارس خشان إن "البطريرك ذهب تلبية لدعوة ماكرون، مما يعني أن الأخير كان اتخذ قراره بمقاربة جديدة تجاه الملف اللبناني، وعوضاً عن استقبال المسؤولين المسيحيين الواحد تلو الآخر استقبل رأس الكنيسة المارونية. وكانت معلومات تحدثت عن أن دوائر الفاتيكان تواصلت مع المسؤولين الفرنسيين بهدف تخفيف اندفاعتهم باتجاه المعادلة التي طرحوها، علماً أن الراعي أبدى رفضاً كاملاً لتلك المقايضة التي طرحتها فرنسا لجهة انتخاب رئيس للجمهورية مقابل تسمية رئيس الحكومة لأن في ذلك مخالفة دستورية".
من جهته أشار شحيمي إلى أن ليست لديه "أية معلومات حول انعطافة فرنسية، ولكن هذا ثابت قولاً وفعلاً وميدانياً بجولات غبطة الكاردينال الراعي التي يكون لها دائماً الأثر الايجابي على لبنان وتدق مباشرة على وتر تسريع الحل اللبناني على أساس المصلحة الوطنية وتطبيقاً للقوانين واحتراماً للدستور وتفعيلاً للميثاق، ونظراً إلى أن صاحب الغبطة يتمتع بقدرة التأثير والحيثية الكبيرة، ما من شأنه أن يحدث فارقاً، لكنه ليس سلطة سياسية وليس طرفاً أبداً. إن هدفه الأول هو صيانة الدولة وتحصين ديمومتها والتشجيع على تحقيق الاستحقاقات بأقرب فرصة وإنهاء الشغور والفراغات".
"الانحراف عن الثوابت"
ومن وجهة نظر المستشار القانوني في المفوضية الأوروبية، فإن "فرنسا تسعى إلى حل الأزمة اللبنانية عبر سيناريوهات عدة مع تعدد الأفكار والآراء ولكن تحت سقف الحفاظ على لبنان الدولة الواحدة الموحدة. وتحاول حل معضلة الشلل في الاستحقاق الرئاسي بطرق عدة، وهو ما أوقعها أخيراً بنوع من الحرج نتيجة اختلاف طرق الحل حول الأزمة الاقتصادية والشغور الرئاسي بين مراكز القرار الفرنسي. ويأتي ذلك نتيجة التخبط الذي تعيشه فرنسا أخيراً بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام. وظهر ذلك من خلال التزاحم والصدام السلبي بين الزملاء في خلية الأزمة واللقاء الخماسي وبين فريق كبير من أصدقائها اللبنانيين، وهذا مرده لانحرافها نوعاً ما عن ثوابت سياستها الخارجية واصطفافها مع فريق ضد آخر في الاستحقاق الرئاسي وهو خطأ غير مقصود، ولكن مخطط له ومدبر بالتمام. لكنها عادت وتخلت عن هذه ’الخطيئة العشوائية‘ لمصلحة تأييدها الوفاق والتوافق اللبناني وهذا هو الأصل الثابت في مؤسسة السياسة الخارجية الفرنسية. وتمظهر ذلك في طريقة التعامل مع الاستحقاق الرئاسي لمصلحة الإجماع والتوافق". وأضاف أن "فرنسا وبإعادة مقاربتها، تناغمت أكثر مع توصيات البيان الثلاثي ومقررات خلية الأزمة الخماسية وأصبحت واضحة أكثر لجهة تأييدها الإجماع والتوافق اللبنانيين، ولا تؤيد أي شخصية، خصوصاً تلك التي لا تحظى بالإجماع المسيحي أولاً، والوطني ثانياً. وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا أكدت أن باريس ليس لديها مرشح رئاسي في لبنان وما يهمها أن يصبح له رئيس للجمهورية، بخاصة في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها. وجاءت تصريحات كولونا خلال لقائها وزير الخارجية والمغتربين اللبناني عبدالله بوحبيب على هامش الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لهزيمة ’داعش‘ في العاصمة السعودية الرياض". وأعلنت أن "مبعوث فرنسا الجديد إلى لبنان سينشط ليسرّع في مسار انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية".