ملخص
افتتح "أيام قرطاج الكوريغرافية" وضم فنانين من تونس وفرنسا
انطلقت الدورة الخامسة لأيام قرطاج الكوريغرافية في احتفال قدمت خلاله لوحة راقصة مقتضبة لفرقة موسيقية متكونة من راقص وثلاثة عازفين، ثم تلاه عرض "أرخبيل" للكوريغراف الفرنسية ماتيلد مونيي بمشاركة التونسية ملاك السبعي وبدعم مسرح الأوبرا التونسي والمعهد الفرنسي في تونس والمعهد الموسيقي في باريس، باعتبار أن الراقصين المشاركين في العرض هم من البلدين اللذين جمعهما البحر الأبيض المتوسط وباعدت بينهما الثقافات والموروث ونمط العيش والتجارب.
وتقوم فلسفة "أرخبيل" على تغليب الجسد وإنصافه حتى يكون مركزاً في تفاعل الإنسان مع وجوده بكل إخلاص وصفاء، عبر طرح نيتشوي يعبر عن "الإنسان القوي" وعن "معرفة الوجود المرحة" التي نادى بها زرادشت، من خلال لوحات متناغمة كلاسيكية مرة ومرة معاصرة ومرة من الموروث الشعبي والصوفي لكلا البلدين. و"أرخبيل" مشروع فريد من نوعه يضع الجسد في أعلى تجلياته وأبهى مستوياته، ويقف كنداء فني للحق في الوجود والحياة في حرية مطلقة، وفي الصفاء والسلام في بيئة خالية من أشكال الظلم والعنف والإقصاء.
خطوات متسارعة وأجساد متشابكة وحركات متتابعة وخطوط تتشكل مرسومة على إيقاع موسيقى صاخب عبر تعبيرات متناسقة عصرية وشطحات صوفية اجتمعت كلها على مسرح "الجهات" في مدينة الثقافة التونسية. ومن سمات تلك الرقصات نلاحظ اللحمة المادية بين المشاركين وأداءهم لعمل واحد مشترك، تكون فيه المجموعة جسداً واحداً وإن كان متعدد الأفراد، وتكون فيه الغلبة للحركة الدائرية كونها حركة تحتاج إلى بعض الجهد.
تطورت اللوحة أثناء العرض من رسم بالجسد كانت فيه أجساد الراقصين فاعلة ومنفعلة، فبدت الحركات الجماعية عفوية تتكرر في انسياب يحمل الارتفاع في الوتيرة والسرعة في الأداء والشدة في الإيقاع.
تساؤلات فلسفية
ويعتبر عرض "أرخبيل" فرصة فنية رائعة لاستكشاف عالم الرقص وتأثيره في الإنسان والمجتمع، إذ يقدم العرض تجربة متعددة الأبعاد تحاكي تنوع الثقافات والتعابير الإنسانية من خلال الرقص والحركة، ويتكون الفريق من 24 راقصاً وراقصة شباباً يقدمون أداء مليئاً بالحماسة والإلهام.
وكلمة "أرخبيل" تعني تجمعاً من الجزر أو الجزر المتناثرة في المحيط أو البحر. وفي سياق العرض الكوريغرافي يمكن تفسيرها بمعنى أوسع، فهي تستخدم لتمثيل التعددية والتنوع في المجتمع والهويات المختلفة التي تتلاشى وتتفاعل مع بعضها بعضاً لتشكل تجمعاً متكاملاً من الأفراد.
وفي بداية العرض اتخذ الراقصون وضع الجلوس والتحديق بعيداً، مما يشير ربما إلى استحضار حال ذهنية أو عيش تجربة داخلية تتعلق بتأمل أو تفكير عميق، وتعني هذه العبارة أن الشخص يفكر في مسألة فلسفية أو يتأمل في معنى حياته ووجوده، فيستحيل الأمر عبثياً صرفاً، وفي الوقت نفسه يكون هناك توجه للنظر بعيداً من العالم الخارجي لاستكشاف العوالم الداخلية أو التفكير بعيداً من الضجيج والتشتت، مهرباً ومطمحاً ينشده إنسان هذا الزمان المحاط بالصخب والتوتر والقلق الوجودي.
كل هذه الحالات تلاشت في عرض "أرخبيل" الكوريغرافي إذ تم تصوير الراقصين والراقصات في حال من السكون والتأمل يقابلونها بالحركة والتعبير، ويتركون للمتابع ذاك التناقض بين الهدوء والحركة إحساساً بالتوازن والتناغم بين الجانب الداخلي والخارجي للراقصين. وراح الراقصون بتناغم كبير يراقبون المكان نفسه يميناً وشمالاً وهم يتنقلون بين الجلوس والوقوف والاستلقاء على الأرض، مرة يرفعون أرجلهم ومرة يمددونها، وينامون على المسرح وينهضون بسرعة، بسلاسة وانسيابية مفرطة، مقيدين بنغمات الموسيقى ونغمات صمتهم مرة تلو أخرى.
إيقاع متسارع وعال تارة يشبه قرع طبول الحرب، وناعم هادئ تارة أخرى كأنه دقات قلب أو دوران عقارب ساعة، يضفي إحساساً بالتوتر والحماسة والحركة والرغبة في التغيير والخروج من مأزق وجودي.
الرقص المعاصر الذي ظهر بداية عشرينيات القرن الماضي كنوع من التمرد والانقلاب على الرقص الكلاسيكي وخاصة الباليه، جمع في العرض رقصات مختلفة من الكلاسيكي إلى الجاز إلى الصوفي إلى الشعبي التونسي والفرنسي. وبدت الشطحات الصوفية التي ترمز إلى إيصال رسالة تعبيرية تتعلق بالبحث عن الحقيقة والانغماس العميق في حال من التأمل، منصاعة للواقع الروحي والبحث عن علاقة عمودية مع البارئ بعيداً من وسائط تكرس للأحقاد والضغائن. وقد يكون لتلك الشطحات في عرض "أرخبيل" دور في إيصال فكرة السكون والتأمل والتركيز العميق في الحاضر، إذ تناول الراقصون هذه الحال الداخلية ونقلوها بوساطة حركاتهم المتناغمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتناسقت الرقصات والحركات في شكل يعكس التنوع الثقافي والفردي للراقصين والراقصات عبر توفير مساحة للتعبير الفردي والابتكار، مما أسهم في خلق تجربة بصرية مدهشة لدى الجمهور الذي وجد نفسه مشدوداً ومنغمساً في الحركة والتعبير، ويتناوب الراقصون والراقصات على تقديم حركات فردية وجماعية بانسجام وتناغم، مما يعزز التفاعل والتبادل بينهم ويشكل صورة مرئية فريدة وخلابة.
سكون وتأمل
وفي مشاهد راقصة من دون موسيقى، أو ما يعرف بالرقص الصامت، تحدى الراقصون فنياً كل أشكال التعبير عن الأفكار والمشاعر من خلال حركات الجسم ووجودهم في الفضاء، ويتطلب هذا النوع من الرقص التركيز العميق على الحركة والتواصل غير اللفظي مع الجمهور، مما أتاح للراقصين التعبير عن دواخلهم بطرق مختلفة، إضافة إلى التركيز على الحركة الجسدية الدقيقة وتفاصيل التنفس والانسجام مع الفضاء، وجميعها تمثل جوانب مهمة للرقص الصامت.
وعن العرض قالت التونسية حورية عبدالكافي التي تم تكريمها خلال الافتتاح، "تابعت العرض منذ بداية التمارين، ولا توجد فيه حكاية بقدر ما هو عرض تجريدي في المطلق". وأضافت، "الأرخبيل هو مجموعة جزر وكل جزيرة صغيرة تكون بمفردها، لكن عندما نراها من بعيد نشاهد مجموعة متكاملة، وهنا راقصات وراقصون على المسرح بأجساد ملتهبة تتقد نشاطاً وطاقة ومتعة وتجدداً وشباباً، والمهم في هذا العرض أيضاً هو التعاون الفرنسي - التونسي الذي ضم خيرة الراقصين التونسيين والفرنسيين الحاملين لثقافات مختلفة".