ملخص
الفيلسوفة الفرنسية إلزا غودار ترصد ظاهرة الإنفصام الانساني بين الواقعي والافتراضي
حين لا يصير ممكناً تجاوز ظاهرة، أو مرض عصري، أو حتّى "أسطورة معاصرة"، على ما يصفها رولان بارت، يحتّم على عالم الاجتماع أو عالم النفس أو غيرهما أن ينظر فيها، ويستجلي أبعادها ويضع لها حدوداً وتعريفات متناسبة مع العصر والبشرية. فكيف إذا كانت ظاهرة السيلفي، أو أحد أمراض الزمن الرقمي الأكثر انتشاراً في العالم، والأدعى إلى طرح التساؤلات الكثيرة والعميقة حول صوَر إنساننا في القرن الحادي والعشرين، السوية منها وغير السويّة؟
تأتي الكاتبة الفرنسية إلزا غودار (الأصح إلسا) الفيلسوفة وعالمة النفس، لتنظر في هذه الظاهرة على ضوء العلوم البينية (المتداخلة) المتاحة، والقادرة على تعليل تبعاتها، وتقصّي أبعادها، في الزمن المعاصر. أما الكتاب المترجم لها الى العربية، بعنوان "أنا أوسيلفي إذاً أنا موجود"- والذي تعارض فيه الكاتبة مقولة ديكارت "أفكّر إذاً أنا موجود"، والذي نقله إلى العربية عالم السيميائية الأدبية المغربي سعيد بنكراد، فيجسّد مقاربة الفيلسوفة للظاهرة المتعدّدة الأبعاد، كما أشرنا.
السيلفي في زمن الثورة التكنولوجية
وأوّل ما تلتفت اليه الباحثة الفيلسوفة إلزا غودار، في درسها الظاهرة هو التسليم بأنّ البشرية أنجزت، بفضل الثورة التكنولوجية وتحويلها الهاتف المحمول إلى كاميرا، وحاسوب، وحمّال ذاكرة هائلة في آن واحد، سبعاً من القطائع الكبرى، وأوّل قطيعة هي إلغاء الفواصل بين الإفتراضي والواقعي، والقطيعة الثانية هي تجاوز أيّ حدود مجتمعية وجعل أيّ مجتمع شفّافا، والقطيعة الثالثة هي مع العالم المعرفي، إذ بات بلوغ المعرفة محسوساً وبسرعة تقارب سرعة الضوء. وثمة قطيعة رابعة أنجزتها الثورة الرقمية هي مع الذكاء البشري المحدود، إذ بات ممكناً تفعيل الذكاء الإصطناعي ودفعه حتّى إلى قيادة أكثر النشاطات الآلية تقدّماً ودقة وضخامة وخطورة. فيما يجري النقاش اليوم حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً، في الأمد المنظور، على الإستقلال عن الإنسان، فيصير عدواً له مميتاً.
وبناء على ذلك، بات الهاتف المحمول ينقل ثمار المعارف البشرية كلّها، إلى كونه مدوّن اللحظة وأحداثها، ومنبّهاً إجتماعياً من كوارث، كما حصل في الاعتداءات الإرهابية في باريس عام 2015، عبر شبكات اجتماعية، مثل الفايسبوك، وهاشتاغ، وتويتر وغيرها. وبالمقابل، قد يكون الهاتف المحمول (أو الخليوي، أو الموبايل، أو...) في حال ارتباطه بالشبكات الموصوفة سابقاً، محرّضاً على الثورة، والاحتجاج، والعصيان، كما حصل في مصر وفي أكثر من بلد في العالم.
من اليد الى العصا
تقول الفيلسوفة غودار في ما خصّ عصا السيلفي، وإن صحّ أنها بدت للبعض أداة غايتها البحث عن الجمالية والراحة، بفصلها بين الذات والصورة، فإنّ الكثير من الحوادث القاتلة، تعرّض لها حمَلة هذه العصا، مما دفع ببعض السلطات في العالم، ومنها روسيا إلى إطلاق تحذير في العام 2015، من فرط استخدام مواطنيها هذه العصا، تحت شعار "الحفاظ على النفس". وبالمقابل، أعادت غودار التذكير بلزوم أن يعود مصوّرو السيلفي الى استخدام اليد، باعتبارها "الأداة الأكثر نفعاً"، على حدّ قول أرسطو.
في الفصول السبعة الأخرى، وهي تشكّل لبّ البحث التحليلي للفيلسوفة غودار، تقول بما معناه إنّ آلة السمارتفون، أو الهاتف الذكي، والتي تصنع السيلفي وتدوّن لحظات الإنسان الفرد، وجماعته، وسائر التحوّلات التي تنتابهما أحدثت ثورة إنسانية لا سابق لها؛ فهي جعلت الزمان الحاضر أوّلاً، وسعت الى إطالة حضور الذات فيه، بمقدار ما تثابر (الذات) على تدوين لحظات عيشها، وسلوكها العاديّ، من دون أن يكون ثمة داع أو معنى لهذا التدوين، سوى إدامة هذا الحضور. ومن هذا المنطلق، رأت الكاتبة أن تمكين الآلة وتقوية نفوذها، بتسليطها على الذات وجعلها رهينة لها، وتجريد فعل التدوين من أيّ معنى، من شأنهما أن يعيدا البشرية إلى الهمجية، من حيث اكتفاء البشرية بتأدية أعمالها وتحقيق رغباتها من دون الحاجة إلى الكلام الذي يحمل مضموناً ثقافياً نامياً إلى العصر والحياة السويّة.
دليلها على ذلك، أنّ ما قبل عصر صورة السيلفي، والصور المتداولة يوميا عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وعبر الهواتف الذكية لدى الأفراد، كان للصور الفوتوغرافية وغيرها سجلّ من الدلالات دعت العديد من الباحثين، ولا سيما رولان بارت، إلى استخلاص أنظمتها الرمزية وأبعادها المختلفة باختلاف السياق الإجتماعي والسياسي والثقافي الذي تندرج فيه. وبهذا المعنى، لا يعود ثمة خطاب يكمن وراء الصورة، و"لا تترك للمعنى والتأويل سوى حيّز ضئيل"(ص:72)
تسويق الأنا لذاتها
لا تنكر غودار أنّ السيلفي يحقق تسويقاً ذاتياً لكلّ من مارسه، ويثابر عليه. لكنّ في هذا المسلك مخاطر تنبّه لها الكاتبة والعالمة. فلئن أمكن الفرد أن يصير، بفضل السيلفي، مخرجاً لصورته الخاصة، وممثّلاً وحيدا في فيلمه، ومادّة معروضة لبيع هذه الصورة، في أجمل تخريجة أو توضّع ممكن، فإنّ الإمعان منه (أي السيلفي) من شأنه أن يظهّر العطب النفسي عند هذه الأنا، وقلّة الثقة في النفس عند الشخص الواقع في أسرها وفتنتها. ذلك أنّ السيلفي على هذه الصورة "يمكن أن يكون تعبيرا عن هشاشة نرجسية" (ص:81) قد لا يقوى المرء على ردّها أو الشفاء منها، إلاّ إذا أعاد الاعتبار لوضعيّته الاجتماعية الواقعية، على حساب وضعيّته الافتراضية، على ما تبيّن لاحقا.
وفي مسعى من غودار الى تعليل ظاهرة انتشار السيلفي وأخواتها مثل الإيموجي ذي الالف ومئتي (1200) رمز وغيرها، انتشارً هائلاً بين مستخدميهما، تقول إنّها دليل على سطوة الميل الإنفعالي في سلوك البشر، على حساب اللغة والمنطق وخطاباتهما، وأنها (صوَر السيلفي، والإيموجي) صارت بديلاً من الحقيقة، تختزلها بإيماءات، وصوَر، ورسوم، وغيرها. ولمّا كان الميل العاطفيّ في هاتين الظاهرتين هو الأبرز، صار محرّكها أو المتلاعب بها عرضة لموجات عاطفية متناقضة أحياناً، وغير مترابطة غالباً. وهذا لأنّ الشخص، باستخدامه الأداتين السالف وصفهما، قد أبطل اللغة والكلام، وأحلّ بديلاً عنهما ما هو أقلّ ثباتاً وأقلّ تمثيلاً للواقع. وهو ما تستخلصه الكاتبة بالقول "إنّ السيلفي يحضر باعتباره التعبير الإشكالي عن الذات الافتراضية" (ص:108). ويعني هذا الأمر أنّ أداة السيلفي ساهمت في جعل الذات (الإنسان) أكثر اعتماداً على اللمس والحسّ لإدراك هويّتها الداخلية مصوّرةً على هذا النحو.
السيلفي للشهرة
ثمّ إنّ هذه الأداة، وإن تكن متاحة لكلّ الناس، بغض النظر عن مواقعهم ومقاماتهم، صارت، بحسب غودار، سبباً للمزيد من الشهرة يطلبها كلّ راغب في "بيع صورته" أو تلميعها، أو تسليط الضوء عليها، أو تثبيتها في الأذهان، ردّاً على إنكارها من الآخرين، أو على صعوبة الإقرار بوجودها من قبل هؤلاء. ومن هذا المنطلق، لا يرى طالبو الشهرة أيّ ضير في مضاعفة السيلفي، ما دام "أن تكون (موجوداً) معناه أن تَرى أو تُرى"، فيزدادون شهرة، بزعمهم، ويلهج الآخرون بهم، حتّى يرتقوا، بعيون ذواتهم، إلى مقامات لم تكن لهم يوماً، في الواقع.
أما ذوو الشهرة الحقيقية، من ممثلين، أو رجال أعمال، أو حكّام، فلهم أن يزدادوا شهرة، بفضل السيلفي، وبفضل تلفزيون الواقع، وسيل المقابلات، والبرامج، وغيرها. ولن يكون خافياً أن الغاية من هذه الشهرة التي توفّرها السيلفي وأخواتها إنما هي تسويق للذات، يذهب بها البعض الى حدّ البذاءة والسطحية اللتين تنمّان عن فراغ في الذات الافتراضية، وعن أزمة المعنى في ثقافتها الشعبوية الضحلة، على ما استشرفته الفيلسوفة حنة آرندت قبل أكثر من سبعين عاما خلت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تواصل الفيلسوفة الزا غودار تحليل هذه الظاهرة (السيلفي) من وجهة نظر نفسانية وفلسفية على السواء، كاشفة عن أنها بمثابة ثورة باتولوجية، وأنها تترجّح بين موقعي السويّ والمرضيّ، وأنّ غاية الترويج فيها تنطوي على إساءات عديدة، كأن يتناقل الناس سيلفي لمنتحر، فتسري عدوى الإنتحار بين الأقران ذوي النفسيات الهشّة.
ينطوي الكتاب على أبعاد كثيرة، لم تتسع لها المراجعة، ولا سيما الحلول الممكنة لهذا الميل المرضيّ، نوعاً ما. وما على القرّاء سوى تقصّيها، واكتشاف دقّة معالجات الفيلسوفة غودار، وجهود المترجم في نقل دقائق التحليل وبلغة مبسّطة وعلمية في آن واحد.
للكاتبة الفيلسوفة غودار العشرات من الأعمال البحثية أهمها: "ما يتعلّق بي"، و"أن أكون جيّدا مع نفسي"، و"بيان من أجل إنسان حر"ّ، و"الرفق بالذات" و"خطابات أخرى"، و"هل يندثر علم النفس"، و"الذات الافتراضية"، و"الحيوات الفارغة"، وغيرها.