ملخص
لغط يشهده العراق بين توسع وزارة التربية في خطط محو الأمية وتعليم الكبار وبين زيادة أعداد الحاصلين على شهادات عليا من كبار السن والمنقطعين عن الدراسة... فما القصة؟
"العلم نور والجهل ظلام" و"طلب العلم من المهد إلى اللحد" هكذا تبدو الصورة عندما يبدأ الطالب العراقي دراسته في المرحلة الابتدائية وهو يخوض مرحلة التعليم الأولى في طفولته التي أحياناً لا تستكمل نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية في العراق.
كثيرة هي قصص النجاح لا سيما في ظروف الحرب والحصار التي فرضت على العراق نهاية القرن الماضي، كذلك الظروف التي أجبرت الكثير من العراقيين على الالتحاق بالأعمال الشاقة لإعانة أسرهم والذين خططوا إلى استكمال دراستهم بعد النجاحات التي حققوها في المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، لكن زيادة أعداد الحاصلين على شهادات عليا من كبار السن والمنقطعين عن الدراسة أثار الكثير من اللغط في العراق.
"اندبندنت عربية" التقت مع عدد من المختصين والمهتمين بالأمر.
قصة نجاح
يستذكر رجل الأعمال عيسى محمد (63 سنة) مراحل دراسته بعد أن أجبرته الظروف ووفاة والده على إعانة إخوته الأصغر عمراً منه والبالغ عددهم سبعة بينهم ثلاث بنات، قائلاً "كانت مرحلة الحصول على شهادة الدراسات العليا حلم حياتي وطموح والدي بوصول أولاده إلى أعلى المراتب، إذ كان يشجعنا على استكمال دراستنا على رغم ضعف المردود المالي لنا كعائلة وللكثير من العائلات العراقية الأخرى، إلا أن وفاته قلبت الأوضاع في عائلتنا رأساً على عقب بعد أن كان هو مصدر الأمان لها ورأس خيمتها".
وأضاف محمد "أصبحت بين ليلة وضحاها مسؤولاً على عائلة كبيرة، إذ تركت الصف السادس الإعدادي (مرحلة الصف الثاني عشر) وبدأت العمل في الأعمال الحرة كالبناء وبيع الأقمشة والأدوات المنزلية الأخرى، وامتهنت كثيراً من المهن التجارية حتى صعدت تدريجاً ووصلت إلى ما عليه الآن من فنادق وبيوت وقطع أراضي واسم معروف في السوق العراقية".
وتابع عيسى "كانت هذه التضحيات من أجل أفراد العائلة الذين واصلوا تعليمهم، إلا أن طموح استكمال الدراسة ظل في داخلي حتى بدأت باستكمالها، لكن هذه المرة عن طريق الخارجي، حيث دخلت المرحلة الجامعية ثم استكملت الدراسات العليا بتفوق حتى حصلت على الدكتوراه في مجال الاقتصاد".
ويوجد في العراق الآلاف من حملة الشهادات العليا من دون وظائف، إذ ارتفعت أخيراً نسبة حاملي الماجستير والدكتوراه نتيجة الإقبال المتزايد عليها خلال السنوات القليلة الماضية، مقارنة بنسبة الأمية التي تتقلص عاماً بعد آخر، وأيضاً نتيجة الثورة التكنولوجية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الدافع الشخصي لاستكمال الدراسة.
تعليم الكبار
في هذا السياق، أشار المتحدث الرسمي باسم وزارة التربية العراقية، كريم السيد، إلى العمل من خلال الجهاز التنفيذي لـ "محو الأمية" وعبر كل المنافذ الإدارية على استيعاب الخطة الخاصة بالتوسع في تعليم الكبار والذهاب إلى أبعد نقطة، لافتاً إلى أن العراق كانت لديه أفضل نسب في التعليم لكن بدأت الانخفاض خلال السنوات الأخيرة.
وأوضح المتحدث الرسمي أن آخر إحصائية لمحو الأمية كانت لا تتجاوز 12 في المئة، مؤكداً سعي الوزارة للتوسع فيها من خلال الجانب التشريعي، إذ إن هناك بعض القوانين التي تحتاج إلى التعديل عبر مجلس الدولة، لافتاً إلى افتتاح مراكز جديدة في جميع المناطق.
وتابع السيد القول "الوزارة لديها برنامج يتعلق بالنساء وهو تعليم الحرفة بالإضافة إلى منحهن الشهادة، إذ يتعلمن الخياطة وبعض الأعمال اليدوية التي تساعدهن في الحياة، وكذلك تبني مشروع خاص بتعليم الكبار يبدأ معهم من التعليم الأولي وصولاً إلى الجامعات".
رغبات مجتمعية
ومن جهتها، أرجعت المهندسة المعمارية ميسون الربيعي، السبب في نمو نسب الحصول على الشهادات العليا إلى ظروف تتعلق بالهجرة أو الكساد في مجال العمل فيتجه الشخص إلى اختصاص جديد أو مكمل مثل تكنولوجيا الاتصالات وتقنيات الرعاية الصحية والتجارة عبر الإنترنت والانخراط في عقود شركات التأمين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتابع الربيعي "أحياناً تكون الرغبة ناجمة عن ظروف اجتماعية أو عائلية استدعت التوجه إلى اختصاص لا علاقة له بالرغبة الذاتية إطلاقاً وإنما تلبية لرغبات مجتمعية كدراسة الفن أو الأدب أو حتى الأديان في مراحل متقدمة من السن"، مشيرة إلى معرفتها لكثيرين توجهوا لدراسة الطب والهندسة استجابة لضغوط العائلة بينما ميولهم الشخصية باتجاه مختلف تماماً.
ولفتت المهندسة المعمارية إلى أهمية إكمال كبار السن دراستهم قائلة "قرروا الحصول على شهادات لأنها تعطيهم شعوراً بالشباب والعطاء، وأن الحياة ما زالت أمامهم، وكذلك لديهم الكثير من الوقت للتفكير والإبداع".
اهتمامات علمية
الأكاديمية العراقية نهلة عبدالله نجاح ترى أن الموضوع لا يمت للعلم والاهتمامات البحثية والعلمية بصلة بقدر ما هو أشبه بـ "الموضة الرائجة" سهلة التحقيق، وكذلك تمنحهم نوعاً من الوجاهة الاجتماعية للتباهي بها من جهة وضمان زيادة الراتب من جهة أخرى، إضافة إلى "رغبة البعض في الحصول على هذه الشهادات كمظهر يميز استعداداتهم للترشح للانتخابات".
ونوهت عبدالله بانعكاسات الظاهرة على المجتمع والتعليم من خلال غياب للمستوى المتوسط في الوظائف، وزيادة حملة الشهادات العليا مع استمرار ضغط مؤسسات مختلفة لإتمام عملية النجاح فتفقد الشهادة العراقية هيبتها، لافتة كذلك إلى تبعاته على المؤسسات القائمة على مبدأ التراتبية.
وأكدت الأكاديمية العراقية أن موضوع الحصول على الشهادات العليا في كل دول العالم تدخل فيه عدة متغيرات منها مستوى الذكاء والمهارات التي تختلف من شخص إلى آخر، محذرة من عدم توافر ذلك في العراق "إذ نجد اليوم السائق ورجل الأمن أو المرور ومندوب المبيعات والسكرتير تحولوا إلى مجال التدريس بعد الحصول على الشهادات العليا من دون أن يمتلكوا أدنى حد من مهارات التخصص"، مشددة على أنه يجب أن تكون هناك مؤهلات معينة للأفراد عند توجههم للدراسات الأكاديمية مع مراعاة الفروق الفردية والرغبة في تنمية وتطوير القدرات.
خفايا الشهادات
وأشارت عبدالله إلى خفايا ما يجري في الدراسات العليا منها غياب الأمانة العلمية وحالات الغش التي لا تجد إجراءات رادعة، وكذلك السرقات العلمية وتوافر المكاتب التي تكتب الرسائل والبحوث بأجور مادية زهيدة، لافتة كذلك إلى أن ما يحدث خارج العراق لا يختلف كثيراً عن داخله، بل هو أكثر تعقيداً حيث يحصل الكثيرون الشهادة من دون أدنى قيمة علمية أو بحثية.
وقالت الأكاديمية العراقية إن التوسع في المقاعد الدراسية المخصصة للدراسات العليا أسهم في زيادة أعداد الحاصلين على الشهادات، وكذلك تعدد القنوات الخاصة بالقبول والتي لا تعود بأي فائدة علمية، إضافة إلى ما يروج له اليوم من افتتاح أقسام دراسات عليا في الكليات الأهلية، لافتة إلى أن الأمر تزايد بعد جائحة كورونا وتحديداً 2020.