ملخص
رغم أن الخفافيش تحفظ التوازن البيئي وتتغذى على الحشرات الضارة فإنها لا تزال مصدر خوف وقلق... فما قصة الخفاش؟
هل هو حيوان أم حشرة أم طائر؟ لا يعرف الجمهور العادي على وجه التحديد إلى أية فصيلة ينتمي الخفاش، فحينما تقع العين على هذا الكائن لا يشغل أحد باله بطبيعته، وكل ما يسيطر على التفكير وقتها هو كيفية التخلص منه أو الهرب من مشاهدته، إذ يثير مظهره الهلع في النفوس، إما لارتباطه بموروث هائل يتعلق بقدرته على إلحاق الأذى البدني، أو بقائمة طويلة من الأساطير تلصق به شروراً شتى، بينها أنه فأل سيئ ومصدر للخراب، وأخيراً بات اسمه يتردد ناقلاً لأمراض وأوبئة وفيروسات.
المفارقة أن "باتمان" ينجو من كل تلك الاتهامات، فـ"الرجل الوطواط" الذي قدمته السينما الأميركية بطلاً خارقاً يظهر ببدلة تحاكي هيئة ومظهر هذا الحيوان الثديي الطائر الوحيد يبدو محبوباً، ويقلده الأطفال وينتظر الكبار أفلامه التي تحقق إيرادات ضخمة، وبينها نسخة "The Batman" التي عرضت العام الماضي من بطولة روبرت باتينسون، إذ تجاوز 770 مليون دولار أميركي في شباك التذاكر.
وعلى مدى 52 مليون سنة تطور الخفاش أو الوطواط، وحافظ على أنواعه التي تزيد على ألف نوع، واستقر في قارات العالم السبع، واستعمر مناطق بعينها، ورغم أنه يعيش بسلام، ويكمل دوره في السلسلة الغذائية مساهماً في التوازن البيئي، فإنه مع ذلك يواجه بعداء شديد، ولم تفلح كل المحاولات لإظهار حقيقته، إذ ظل منبعاً للرعب، سواء بسبب شكله المنفر، أو ارتباطه في المخيلة دوماً بالأزمات الكبرى التي تواجهها البشرية.
سلالات شتى وسمات مذهلة
بحسب دراسة حديثة نسبياً بخصوص الخفافيش نشرت في الدورية العلمية "نيتشر -Nature" للعالم ريتشارد سولسر توجد تطورات متواصلة خضعت لها الخفافيش أوصلتها إلى الشكل الذي هي عليه اليوم، واستخدم الفريق البحثي طريقة تشريح الأذن الداخلية لتلك الثدييات الطائرة لمحاولة فهم بعض مما مرت به هذه المخلوقات بسلالاتها وأنواعها التي تصل إلى 1400.
وقدم الفريق أدلة تشريحية عصبية تشير إلى أن كل أنواع الخفافيش تمتلك القدرة على الطيران عن طريق الأغشية الخفيفة التي تغطي أصابعها، إذ تفردها عن آخرها وتمضي في رحلتها، وإذا كانت الأنواع الشائعة تعتمد على رجع الصدى في تحديد الأهداف بدلاً من النظر، باعتبار أنها كائنات تنشط ليلاً غالباً، وهي عمياء أو ضعيفة البصر، فإن مجموعة منها لا تملك تلك القدرة بالمرة.
وما استنتجته الدراسة العلمية أن هذه النوعية من الخفافيش فقدت قدرتها على تحديد المواقع باستخدام صدى الصوت، الذي يخرج من الحنجرة خلال رحلة تطورها الطويلة على مدى عشرات الملايين من السنين.
لكن الحقائق المذهلة عن هذا المخلوق الذي ينام مقلوباً رأساً على عقب لا تتوقف هنا، فهي تمثل ربع أنواع الثدييات التي تعيش على كوكب الأرض، ما أنها تعمر طويلاً، ويصل عمرها إلى 30 سنة، وتنجب مرة واحدة في العام.
كما يعيش الخفاش في جماعات ضخمة تصل إلى آلاف، كما أن المجموعة الأكبر منها تعيش بكهف بجوار تكساس الأميركية، ويزيد عدد الخفافيش بها على 20 مليوناً، ولديها قدرة هائلة على التهام الحشرات، إذ قد تتناول آلافاً منها في المرة الواحدة، إضافة إلى سرعتها القياسية في الطيران، التي قد تتجاوز 150 كليومتراً في الساعة، وبارتفاع يصل إلى 3 آلاف متر.
صديقة للبشر رغم عدائهم لها
الاهتمام بالوطاويط ارتبط بحضارات عدة منها المصرية القديمة، إذ تشير رئيس قسم الأشعة التشخيصية بكلية الطب ومستشفيات جامعة القاهرة وخبيرة أشعة الآثار سحر سليم إلى أنه على رغم عدم الاهتمام الكبير بالخفاش في الحضارة الفرعونية، فإنه لا يمكن تجاهل الخفاش المحنط الذي اكتشفه عالم الآثار المصري عبدالسلام حسين في عام 1947، إذ وقع عليه في صندوق مغطى بممر هرم سنفرو بمنطقة دهشور، وكان معه بومة محنطة كذلك. كما أن رسماً للخفاش يعود لعصر الدولة الوسطى وجد كذلك في بعض آثار مدينة بني مزار بمحافظة المنيا (جنوب مصر)، وكان ضمن مجموعة رسومات لأنواع من الطيور، إذ كانوا يعتقدون أن الخفاش مجرد طائر، ومن ضمن الأنواع التي عرفت الخفاش مشقوق الوجه وخفاش المقابر المصرية.
ورغم أن الخفافيش تحفظ التوازن البيئي وتتغذى على الحشرات الضارة، فإنها لا تزال مصدر خوف وقلق، إذ أصيبت بعض العائلات بالهلع قبل ثلاثة أعوام بمناطق في محافظات مصرية متفرقة وهي القليوبية والمنيا وسوهاج، وذلك بعد مشاهدتهم أسراباً هائلة من الخفافيش في منازل مهجورة عدة خلال فصل الربيع، واستنفر السكان ولجأوا إلى المتخصصين للتخلص منها، وربما يعود ذلك إلى الفكرة الشائعة لدى عموم المصريين بأن هذا الحيوان يجلب الفأل السيئ، كما أنه حينما يلتصق بوجه أحدهم لا يخرج أبداً، وربما كانت هذه الأسطورة واحدة من مخاوف الطفولة التي رافقت أجيالاً كثيرة.
لكن الطبيب البيطري حازم فائق يؤكد أنه لم يواجه على مدى سنوات عمله حالات إصابة من الوطاويط للإنسان أبداً في مصر، مشيراً إلى أن الخفاش من الأساس لا يرى، بالتالي لا يهاجم البشر، وهو كائن غير مقلق بالمرة.
وفي ما يتعلق بأنواع الخفافيش التي تتغذى على الدماء "فامباير ـ مصاصة الدماء"، وتسكن الكهوف المهجورة فهي لا تعيش في مصر ولا الدول العربية عادة، بل موطنها الأشهر المناطق المدارية وأميركا الجنوبية. لكن القلق الأكبر من الخفافيش، بحسب المتخصص في الطب البيطري حازم فائق، هو أنها تحمل بعض الأمراض المشتركة مع الإنسان ومن بينها السعار، لكن طالما أن الشخص لا يتعامل معها بشكل مباشر فهو في مأمن، بعكس الكلاب التي ينبغي الحذر منها لأنها أكثر انتشاراً. كما أن تطعيم السعار الخاص بها لا يستمر سوى أعوام قليلة، وينبغي فيما بعد إعادة إعطاء اللقاح مرة أخرى، كي يكون المتعامل معها بعيداً من دائرة الخطر.
وتشرح أستاذ بحوث المبيدات عزة إسماعيل بعضاً من فوائد الخفاش، مشيرة إلى أنه عدو طبيعي للحشرات، وبالتهامه مئات وربما آلاف منها يومياً فهو يكون صديقاً للإنسان، فمن ضمن الحشرات التي يتغذى عليها بخاصة ليلاً الناموسة الناقلة لفيروس غرب النيل المسبب للحمى الشديدة الذي ينتقل إلى الحيوان والإنسان، كما أنه يسهم في السيطرة على عشائر الخنافس، ويفرز سماداً غنياً بالنيتروجين يطلق عليه جوانو. ومن بين أبرز فوائد هذا الحيوان الثديي الطائر أنه يسهم في تلقيح نحو 500 نوع من النباتات مثل الموز والبلح والمانجو والتين.
لماذا أصبحت الخفافيش سيئة السمعة؟
الأمر هنا يقود إلى الحديث عن واحد من أبرز تلك الأنواع شيوعاً، وهو ثعلب الفاكهة، أو الثعلب الطائر الذي أطلق عليه هذا الاسم، لأن وجهه مثل الثعلب، كما أنه يهاجم بساتين الفكاهة، وقد يلحق بها أضراراً كبيرة. ويعتبر من أكبر أنواع الخفافيش حجماً، إذ يبلغ طوله نحو 30 سنتيمتراً، وقد يصل طول جناحه إلى نحو مترين، ووزنه يتجاوز كيلو ونصف، فيما أصغر أنواع الخفافيش هو الطنان، ولا يتعدى طوله أربعة سنتيمترات.
غير أن أستاذ بحوث المبيدات عزة سليمان تنبه إلى تغذيته على الفواكه كأي متطفل يأكل بعض الأنواع، لكن الأمر يمكن السيطرة عليه، إذ إنه يتأثر كونه حيواناً ثديياً بالمبيدات الحضرية مثلما يتأثر بها أي كائن ثديي آخر، بالتالي لا توجد صعوبة في التخلص منه.
وتواصل سليمان أن الخفاش بشكل عام له فوائد وأضرار، والضرر يحدث حينما يتغذى عليه الإنسان كما يجري في بعض البلدان، بينها الصين، إذ ارتبط اسمه بنقل بعض الأمراض الخطرة للبشر.
وبالطبع باتت تلك المخلوقات في مرمى الهجوم بصورة أكبر حينما ارتبط اسمها بقائمة من الأوبئة التي مثلت ذاكرة سوداء للعالم، ولعل أبرزها فيروس كورونا قبل ثلاثة أعوام. وعلى رغم أن تلك النظرية لا تزال مثار شد وجذب، بخاصة حينما قيل إن آكل النمل الحرشفي هو مصدر الفيروس، فإن مع ذلك بقي الخفاش بالنسبة إلى كثيرين هو المتهم الأكبر.
ومصدر هذا الضيق قد يكون نابعاً مما أثاره فيلم "Contagion عدوى" الذي عرض عام 2011، واعتبر بعضهم أحداثه وكأنها تنبؤاً تعيساً لتداعيات كورونا المستجد، إذ تناولت قصة العمل الذي أدت بطولته جونيث بالترو ومات ديمون ودارت أحداثه في الصين، انتشار وباء مهدد للعالم تتشابه أعراضه التنفسية مع أعراض فيروس كورونا، إذ انتقلت العدوى بحسب السيناريو في بادئ الأمر من الخفافيش التي كانت حاملة للفيروس، ومنه انتشرت إلى حيوانات أخرى يتغذى عليها البشر، ومن ثم أعلنت الطوارئ الصحية في أنحاء العالم، ولم تعد الحياة إلى طبيعتها إلا بعد استعمال اللقاح المضاد له على أوسع نطاق، كما ارتبط اسم الخفاش أيضاً بانتشار أمراض مثل نيباه وسارس وإيبولا.
حملات كراهية وأساطير متوارثة
وفي الوقت الذي يواجه فيه الخفاش حملات كراهية ضارية من أطراف متعددة يوجد يوم عالمي للإشادة به يوافق الـ17 من أبريل (نيسان) من كل عام، فيما يباع على سبيل المثال بشكل اعتيادي في أسواق الحيوانات الشعبية بمصر، ويتراوح سعره ما بين دولارين إلى ستة دولارات وفقاً لحجمه واستخداماته، إذ إن بائعيه يصطادونه من الأماكن المهجورة للتكسب من ورائه، فهو مطلوب لدى دارسي علم التشريح وكذلك في التجارب العلمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أن بعض سكان المناطق الشعبية يذبحونه ويستعملون دمه للمواليد الجدد اعتقاداً منهم أن مسح الجسد بهذا الدم سيجعل البشرة أفضل، فالأساطير المرتبطة بهذا الكائن أكثر من الحقائق بكثير، وبينها أنه مصدر للفرح والتفاؤل والحظ السعيد في الثقافة الصينية. كما أن بعض السكان الأصليين في الولايات المتحدة كان يعبدونه معتقدين بفضائله، أما في بعض مدن أميركا الجنوبية فالخفاش يرمز إلى الموت والخراب.
وعلمياً يستخدم الخفاش في الأبحاث الطبية والدوائية المفيدة، إذ تشير أستاذ الأشعة التشخيصية والمتخصصة في علوم الآثار والمومياوات سحر سليم إلى أنه بحسب بردية مصرية قديمة تعود إلى عقود طويلة قبل الميلاد ذكر الخفاش في الاستخدامات الطبية، إذ كانت تستعمل دماؤه في علاج عدد من أمراض العيون، وبينها مشكلة نمو الرموش إلى الداخل، مما يعوق الرؤية.
لكن سينمائياً يبدو الأمر مغايراً تماماً، فشخصية "باتمان" أو الرجل الوطواط ظهرت في الكوميكس الأميركي للمرة الأولى في نهاية الثلاثينيات، لكنه بات بطلاً لسلسلة أفلام ناجحة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، إذ يعد من أشهر الأبطال الخارقين، ويرتدي البطل واسمه الأصلي بروس وين بدلة تشبه في تصميمها مظهر الخفاش بهدف التخفي، وسر اختياره لها أن هذا الحيوان كان يشكل أكبر مخاوفه منذ صغره.
والتيمة الأساسية لقصص سلسلة باتمان هي أن البطل فاحش الثراء يأخذ على عاتقه محاربة الجريمة، بعد أن شاهد والديه يقتلان أمام عينيه وهو طفل من اللصوص، ويستخدم معرفته بالتكنولوجيا والتقنيات الحديثة لمكافحة عالم الإجرام.