ملخص
النفس البشرية التي تكره الكوسة وتعتبرها من الخضراوات غير السائغة هي ذاتها التي تبقي عليها كمنظومة مستشرية في كل مناحي الحياة بل وتدافع عنها، فما قصة العرب مع هذه الثمرة ومعانيها الخلافية؟
يخبرنا هواة الطبخ ومحبوه بأن الكوسة يمكن أن تكون محشوة بالرز والخضرة أو باللحم المفروم أو مطبوخة بالطماطم، وقد تكون مسلوقة لمن يشكو ألماً في معدته أو يبتغي فقداناً لبضعة كيلوغرامات من وزنه، كما أصبحت في العقود القليلة الماضية تشوى وتقوم بدور البطولة في سلاطة أو دور مساند في شوربة خضراوات أو طاجن بالبشاميل.
لكن للكوسة أشكالاً وألواناً وأنواعاً، وما لا يخبرنا به الخبراء هو تلك الأنواع من الكوسة التي تسهل الإجراءات المتعثرة، وتيسر المعاملات المتوقفة، وتلين الصعب لفئة من دون غيرها، وتوفر الفرصة لمن ليس جديراً بها، وتمنح كثيراً لمن لا يستحق سوى قليل، إنها الكوسة المنتشرة في طول البلاد وعرضها.
هي كوسة؟
حتى الاستفسار "هي كوسة ولا إيه"؟ فقد عنصر الاستنكار، بل واتجه نحو التقرير كأن يقول أحدهم "ربنا وفقه في كوسة جيدة"، أو أن يذهب آخر ببطاقة توصية من فلان أو بعد مكالمة من علان لينجز معاملة أو يقضي إجراء لا سيما إذا كان حكومياً.
عموماً تبقى الكوسة قادرة على اختراق كل القطاعات وجميع الأقسام، بما في ذلك القطاع الخاص. صحيح تظهر الكوسة على استحياء، أو مصحوبة بحد أدنى من المهارة أو الحذق، حتى لا يمنى التعيين أو الشهادة أو المعاملة بخسارة فادحة، فالقطاع الخاص لا يملك سوى رأسماله، وهو ما يجعل للكوسة معايير شبه صارمة ومقاييس أقرب ما تكون إلى المقاييس الثابتة.
عجيب أمر هذه الكوسة فعلاً، فهي في الأصل تلك الثمرة التي اتفق العلماء والأطباء على مفعولها السحري في الجهاز الهضمي والقلب وسكر الدم وغير ذلك، لكنها قليلة الحظ، فالغالبية لا تعرف قيمتها أو تتمكن من استطعام حلاوتها إلا في الربع الأخير من العمر.
فائدة كبيرة وحب ضئيل
لثمرة الكوسة إذاً فائدة كبيرة وحب ضئيل، عكس المنظومة "الفاسدة" التي تحمل اسمها، التي لم تترك باب بيت إلا وطرقته أو عملاً مؤسسياً إلا وضربته. ومنظومة الكوسة تحمل معاني عدة، فهي محسوبية ووساطة ومحاباة، وأفضلية من دون وجه حق، وقائمة المفردات تطول، لكن جميعها يعني أن يختص أحدهم آخر ويميل إليه أو يكرمه أكثر من غيره، أو أن يعطي أحد المتماثلين أو يحط منه أكثر من الآخرين بغير وجه صحيح. ويبدو أن القواميس والمعاجم الكلاسيكية العربية أكثر تحفظاً في شرح المعاني، وربما أكثر محافظة في سرد الأمثال للدلالة على المعنى.
فالقواميس الإنجليزية الحديثة أكثر جرأة ومباشرة، وفيها أن المحسوبية أو المحاباة Nepotism هي فعل منح الميزة أو المصلحة أو المنصب للأقارب أو الأصدقاء المقربين أو لمعارف الأصدقاء والأقارب في مهنة أو مجال ما، وهذه المجالات تشمل الأعمال والسياسة والأوساط الأكاديمية والترفيهية والرياضة والدين والامتحانات وغيرها.
حق الكوسة
أدبياً وفنياً وكذلك أكاديمياً، لم يقصر الجميع في حق "الكوسة" كمنظومة باتت متجذرة في المجتمع. "المحسوبية في العالم العربي" ليست موضوعاً عابراً يرد ذكره في حديث بين صديقين، أو ينهض عنواناً لفقرة خفيفة في برنامج تلفزيوني، إنه عنوان دراسة مستفيضة أجراها أستاذا أخلاقيات العمل يوسف صيداني وجون ثورنبري (2013).
تتطرق الدراسة إلى تعريفات الوساطة والمحسوبية عربياً، فهي قد تعني تعيين أو وضع أشخاص غير قادرين في مناصب مهمة. وهي تقف على طرف نقيض من تعيين الأشخاص بحسب استحقاقهم بناء على قدراتهم وملكاتهم ومواهبهم. وتشير الدراسة إلى أن منظومة المحسوبية والوساطة في العالم العربي أدت إلى أن العلاقات الأسرية أصبحت بديلاً عن النظام والقواعد المؤسسية التي تحكم العمل، كما وصلت المنظومة إلى عالم المال والأعمال، إذ باتت مكوناً أساسياً في تكوين شبكات العلاقات والمصالح.
"مربط فرس" المنظومة يقبع في الخلاصة التالية "المشكلة في العالم العربي هي أن المحسوبية أصبحت منتشرة لدرجة أن مجموعة كاملة من القواعد سنت من أجل تبريرها. عوامل ثقافية عدة تشابكت مع بعضها بعضاً من أجل تعزيز المنظومة. واستئصال المحسوبية تماماً – بعد أن صلت إلى هذه الدرجة من الاستفحال - على الأرجح أمر مستبعد، لكن هناك طرقاً عدة لتقليلها وتقليص آثارها الجانبية".
الحل معروف لكنه غائب
طرق التقليل والتقليص كثيرة وأغلبها معروف، لكنه أيضاً لا يطبق عملياً، وذلك بدءاً من رقابة أجهزة الدولة المتخصصة على قواعد الاختيار والتعيين في الوظائف، وتطبيق القوانين المتعلقة بالفساد، مروراً بنشر الوعي المجتمعي بسلبيات المحسوبية وإدماجها في المناهج الدراسية، وانتهاء بالاستثمار في العنصر البشري تربية وتنشئة وتعليماً ووعياً.
يركز البحث الذي أجراه المستشار في هيئة النيابة الإدارية المصرية محمد فوزي السيد الخولي تحت عنوان "الوساطة والمحسوبية في الوظيفة العامة وكفاءة رأس المال البشري" (2021) على الاستثمار في العنصر البشري باعتباره أحد أفضل الطرق لمحاربة منظومة "الكوسة". ويقول إنه على رغم اتخاذ عديد من الدول النامية ومنها مصر خطوات جادة لتحقيق التنمية الاقتصادية المرجوة، فإن الاستثمار في العنصر البشري لم يحظ بالاهتمام اللازم بعد، إذ استقر مفهوم الوساطة والمحسوبية في الوظائف العامة بشكل يحول دون تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين، وهو ما يتسبب في تدني الأداء الاقتصادي للجهاز الحكومي مما يؤثر سلباً في اقتصاد الدولة بأكملها.
اجتياح المجتمعات
مجتمعات بأكملها يجتاحها اعتقاد بأن القريب أو الصديق في منصب مهم أو رفيع عليه أن يستغل منصبه لتحقيق مكاسب خاصة تتعلق بأهله وأصدقائه وجيرانه، متغافلين تماماً عن المصلحة العامة. ويتضمن هذا الاعتقاد كذلك أن قيام القريب "المهم" بتعيين أو قضاء مصالح أكبر عدد ممكن من الأهل والأقارب وأقارب الأقارب هو دليل نجاح وتفوق في العمل، ناهيك عن كونه واجباً يحمله في عنقه تجاه أهله، وحق من حقوقه المستمدة من وظيفته، وهذا ما يجعله يتمسك بوظيفته أطول فترة ممكنة.
يتطرق الباحث إلى قدم هذه الموروثات التي تعود للمفهوم القديم للوظيفة العامة، وكانت هذه الوظائف في فرنسا قبل قيام الثورة الفرنسية ملكاً لشاغلها، إذ كانت تباع وتشترى مثل السلع، وشاغلوها يمارسونها باعتبارها سلطة عامة وامتيازاً في مواجهة الشعب، كما كانت تورث، لكن مفهومها الحديث تغير فأصبحت وظيفة خدمة عامة وتكليفاً يضم مسؤوليات واختصاصات وتنفيذاً لمصالح عامة.
حدث هذا في فرنسا، لكن دولاً أخرى ما زالت في مرحلة "المفهوم القديم للوظيفة العامة"، إذ تشغلها عائلات بأكملها، وكذا أقارب العائلات حتى الدرجة الخامسة، ومعهم جيران وأصدقاء العائلات الممتدة.
يشار إلى أن صفحات الوفيات في الصحف اليومية المصرية ظلت على مدار عقود – انتهت بأحداث يناير (كانون الثاني) 2011 - تشي بأشجار العائلات الممتدة داخل المصالح والوزارات والهيئات الحكومية، فالأستاذ الفلاني يتوفاه الله فينشر نعي وتفاصيل العزاء في الصحيفة. وفي التعريف بالمتوفي يتضح أنه والد كل من فلان وفلان وفلانة في الهيئة نفسها، وعم وخال فلان وفلانة في الهيئة ذاتها، وابن خال ونسيب علان وعلانة وهلم جرا.
لكن مفهوم "الكوسة" أشمل من مجرد شجرة العائلة المتجذرة والمستفحلة في كل هيئة أو مصلحة أو إدارة، "الكوسة" أنواع ومنها ما هو متناهي الصغر وكذلك متناهي الكبر.
رأسمالية المحاسيب
عرف المصريون "الكوسة متناهية الكبر" لعقود طويلة، إذ ظهرت وتجذرت وتوغلت وتغولت وأصحبت تعرف حتى بين المواطنين العاديين بـ"رأسمالية المحاسيب".
عن "المحسوبية والعدالة الاجتماعية في مصر" يقول المحاضر في جامعة "بريمن" الألمانية محمد إسماعيل صبري أن مصطلح "رأسمالية المحاسيب" أصبح مألوفاً لدى وصف النظام السياسي والاقتصادي في مصر في العقد الأول من الألفية الثالثة.
يقول صبري "خلال تلك الفترة نجح رجال الأعمال المرتبطون بمسؤولي الحكومة، سواء عن طريق قرابة عائلية أو صداقة وثيقة أو الاشتراك في عضوية الحزب الحاكم، في السيطرة على القطاع الخاص بمساعدة تسهيلات حكومية عديدة. وكانت هذه الظاهرة محل دراسات كثيرة حول متانة العلاقات غير الرسمية بين الدولة والبيزنس، ومزايا المحسوبية التي قدمتها الدولة والتبعات المثيرة للجدل التي خلفتها شبكات المحاسيب على الاقتصاد المصري".
ويشار أن كلمة "محاسيب" تعني الأشخاص الذين يحظون بمعاملة خاصة أو يحصلون على خدمات أو مميزات لا يحصل عليها الآخرون لارتباطهم بالسلطة (أية سلطة) بعلاقة أو مصلحة.
العدالة الاجتماعية
ويتطرق صبري إلى الآثار غير المباشرة لـ"رأسمالية المحاسيب" التي لم يدرسها أحد، وأبرزها الآثار السلبية في مختلف أوجه العدالة الاجتماعية، ناهيك عن تجذر الفكرة وتحولها إلى منظومة قائمة بذاتها.
هذه المنظومة لم تتوقف عند حدود "المحاسيب الكبار"، بل ألقت بظلال ثقيلة وخيمة على فئات اجتماعية أخرى. يقول صبري إن تضارب المصالح الجوهري بين رأس المال والعمل وانتشار شبكات المحسوبية أثر كذلك في أوضاع العمال الذين أصبحوا بين أكثر الفئات الاجتماعية تضرراً في مصر، لا سيما بعد إنهاء عقودهم في أي وقت، إضافة إلى إجبارهم على التقاعد أو غير ذلك من آثار البيع لـ"المحاسيب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
و"المحاسيب" ليس مسمى ينتهي بنهاية عصر سياسي، إنه مستمر ومحفور في الأذهان. ومن ذلك مثلاً أن تصطف الجماهير الغفيرة أمام "فرن الإخلاص" انتظاراً للخلاص، وبينما الجميع ينتظر ظهور الأرغفة بصبر بالغ على رغم الزحام، يظهر أحدهم فجأة مخترقاً الصفوف، وما إن يراه صاحب الفرن حتى ينتفض على كرسيه، ويظهر جبل من أرغفة الخبز الممتازة فجأة ليختار أفضلها ويضعها بعناية فائقة في كيس بلاستيكي نظيف ويسلمها له قائلاً "شرفت يا باشا".
ينصرف "الباشا" وسط زمجرة الجماهير وتمتماتها بعبارات ملغمة بالسخرية من "المحاسيب" ولا تخلو في الوقت نفسه من مرارة الشعور بالظلم، وعلى رغم أنه لا هيئة "الباشا" أو أسلوبه ينمان عن أنه يمت بصلة إلى منظومة "الباشوية" فإن "المحاسيب" والمتصلين بهم عادة يلقبون بـ"باشا" أو "بك".
من بين طوابير الجماهير الغفيرة من يتساءل أيضاً عن نوع "الكوسة" التي مكنت الرجل من اختراق الصفوف ونيل أجود الخبز وأفضله، لكن كل الإجابات تبقى تكهنات.
مدركات الفساد
أما مدركات الفساد التي تستخدمها "منظمة الشفافية الدولية"، فلا تعتمد على تكهنات ولكنها تعتنق مؤشرات بحسب درجات الشفافية فيها أو انتشار الفساد بين ربوعها، فهي الرشوة وتحويل الأموال العامة إلى غير مقاصدها الأصلية، والبيروقراطية المفرطة في القطاع العام التي قد تزيد من فرص حدوث الفساد، واستعمال الوساطة في التعيينات في الخدمة المدنية.
على رغم ذلك تقول "منظمة الشفافية الدولية" إن هذا المؤشر يستند إلى تصورات لا أرقام دقيقة، إذ ينطوي الفساد عادة على أنشطة غير قانونية ومخفية عمداً، وهو ما يجعل قياسها أمراً بالغ الصعوبة.
يشار إلى أن مؤشر مدركات الفساد الصادر هذا العام أشار إلى انخفاض متوسط منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على المؤشر، ووصل إلى مستوى منخفض بلغ قدره 38 درجة من أصل 100 بعد سنوات من الركود، وحصلت 80 في المئة من الدول العربية على درجة أقل من 50.
جاءت الإمارات في المرتبة الأفضل عربياً، تليها قطر ثم السعودية، بينما جاءت الدول التي تعاني صراعات وهي ليبيا واليمن وسوريا في ذيل القائمة العربية. وتشير المنظمة إلى أن أداء هذه الدول الثلاث يجسد الارتباط الوثيق بين الفساد والعنف، وكيف يغذي كل منهما الآخر.
تغذية "الكوسة"
تغذية من نوع آخر يقوم بها المواطنون العاديون في دول لا تعاني صراعات أو تئن تحت وطأة العنف. إنهم يغذون المحسوبية ومنظومتها عبر الإصرار عليها حتى في تلك الأحوال والمعاملات التي لا تستوجب "كوسة". كأن يحتاج أحدهم إلى استصدار نسخ من شهادة ميلاده. فالإجراءات معروفة والخدمة متوافرة في أي مكتب تابع للأحوال المدنية في أية مدينة، ليس هذا فقط بل يمكن عمل كل الإجراءات عبر الإنترنت، لكن المواطن يصر على أن يتصل بجاره لأن ابن عمه "أمين شرطة"، إذ وعده بأن يوصي زميله "الأمين" في مكتب كذا في شارع كذا حيث سيستقبله بحفاوة، ولن يتركه إلا وشهادة الميلاد بين يديه.
جزء من هذا الإصرار نابع من عدم ثقة مزمن في أن المعاملة ستجري بسرعة أو من دون تعقيدات أو اتباع سياسة "الدرج المفتوح" (طلب رشوة)، والجزء الآخر يعود لشعور المواطن بهذا الفخر اللذيذ في أن يلقى معاملة "المحاسيب". صحيح أن المسألة لا تستحق، واستقبال أمين شرطة له في مكتب الأحوال المدنية لن ينقله إلى مصاف المحاسيب الكبار، لكنه يظل شعوراً منعشاً ولذيذاً للنفس البشرية.
والنفس البشرية التي تكره الكوسة، وتعتبرها من الخضراوات المملة تارة، أو سيئة السمعة تارة أخرى، إذ الملمس الرخو والمذاق الذي لا يستسيغه كثيرون، هي ذاتها النفس التي تبقي على منظومة مستشرية في ربوع البلاد، بل وتدافع عنها باعتبارها منظومة لتيسير الأعمال أو تسهيل الإجراءات أو تحفيز المعاملات. والمضحك – الذي يراه بعضنا مبكياً - هو أن هناك من يطلق على "الكوسة" لقب "شفاعة"، وهؤلاء في الأغلب ينتمون إلى فريق تحليل الحرام وتبرير الخطأ.
أما المبرر التاريخي لتسمية المحسوبية والمحاباة "كوسة"، فيقال إنه خلال عصري المماليك والفاطميين في مصر كانت أبواب القاهرة تغلق ليلاً، وإذا وصل تجار الخضراوات والفواكه إليها فإنهم يضطرون للوقوف على البوابات انتظاراً للصباح، باستثناء تجار الكوسة الذين كان يسمح لهم بالدخول لأن ثمار الكوسة قصيرة العمر وتتلف سريعاً.
وفي قصة أخرى كان يتوجب على موردي وتجار الخضراوات الاصطفاف في طوابير طويلة على أبواب الأسواق لتنظيم دخولهم وتسجيل بضاعتهم، وهي عملية طويلة تستغرق وقتاً وجهداً، لكن يستثنى منها تجار الكوسة وحاملوها للسبب نفسه، ألا وهو قصر عمر الكوسة.
وقد تكون ثمرة الكوسة قصيرة العمر، لكن منظومة الكوسة عمرها مديد، بل وتندرج تحت تصنيف "المعمرات" في ثقافتنا.