ملخص
المهمة تكمن في إيجاد نوع فريد قادر على مقاومة الأمراض ونقص المياه ويحتفظ بخصائصه الغذائية ومذاقه
التغير المناخي سيحتم على الإنسان التكيف مع نظام غذائي مختلف والباحثون في مجال الهندسة الزراعية في سباق مع الزمن لإيجاد أنواع جديدة من الزراعات تتكيف مع التحولات المناخية وتجعلها أكثر تحملاً لأحوال الطقس وأكثر مقاومة للأمراض.
في فرنسا الأبحاث على حبة القمح تحصد نتائج جيدة لناحية النوعية وزيادة إنتاجية النبتة، وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي وسط تخوف من فقدانها نتيجة عوامل الطبيعة، فما هي هذه الرحلة الشيقة التي قطعتها سنبلة القمح منذ آلاف السنين؟
القمح اللين لصناعة الخبز
الأمن الغذائي يعتمد بشكل أساسي على القمح، هذه السنبلة رمز الاستمرار، وهي مصدر عدد من المواد المتفرعة كالطحين (أو الدقيق) بأنواعه المختلفة والسميد والبرغل والمعكرونة وغيرها.
ويعتبر القمح اللين الأكثر استعمالاً لاعتماده في صناعة الخبز، مما يجعله الأكثر استهلاكاً عالمياً إلى جانب الرز.
وتهجين هذه النبتة يعود لزمن بعيد عندما بدأ الإنسان حصاد الحبوب البرية، وتحولت إلى نبتة زراعية بعدما نجح بتهجين أنواع حبوب برية مختلفة بطريقة فطرية.
عمليات التهجين المختلفة كانت تتم في العصور القديمة بشكل عفوي، كأن يتم اختيار سنابل الحبوب الأكبر والأفضل والسنبلة الأسهل ذراً، بمعنى التي يسهل فرطها، إلى أن تمت عملية التبادل الأولى في العصر القديم ما بين القمح اليوناني وحبوب القمح الرومانية، وانطلاقاً منها اكتسبت التركيبة الجينية لحبة القمح قاعدة غنية.
العصور الوسطى
العصور الوسطى شهدت ولادة تقنيات جديدة لتحسين زراعة القمح مثل اعتماد التناوب في زراعة الأرض كل ثلاثة أعوام والحراثة بالاستعانة بالحيوانات وتغذية التربة بواسطة السماد الطبيعي وروث الحيوانات، وشهدت هذه الفترة أيضاً ظهور تجمع الأراضي في أملاك كبرى، وفي القرن الـ16 برزت التجمعات الزراعية وتم تخصيص بعض المناطق لإنتاج الحبوب في كل من بوس وبري في الشمال ومنطقة أوفيرنيه، منطقة البراكين وسط فرنسا، إلى أن حصل المنعطف مع عالم الوراثة جورج ماندل وكان كاهناً يعيش في دير برنو في جمهورية التشيك حالياً، ووضع نظرية الوراثة الجينية عام 1866 في مقالته البحثية الشهيرة تحت عنوان "أبحاث على تهجين النباتات. عمل تطلب سنوات من الاختبار في خيم الدير".
وشكل عام 1850 منعطفاً في تاريخ زراعة القمح في فرنسا، إذ بدأ المزارعون باستقدام أنواع أخرى من القرم، أو من أوكرانيا الحالية، إضافة إلى قمح إنجليزي. وفي هذه الفترة اختبر لوي دو فيلموران أولى تجاربه الوراثية على حبوب القمح للحصول على نوع من نسل خالص (فصيلة تحتفظ بميزاتها الخالصة من جيل إلى جيل)، وتوصل بفضلها إلى أول نوع من القمح العصري، "داتيل"، وهو نتيجة تزاوج بين نوعين من القمح الإنجليزي "شيدام" و"الأمير ألبرت".
وفي ما بعد وانطلاقاً من عام 1945، بدأ استخدام أنواع جديدة للتلقيح للحصول على أصناف أكثر مقاومة للبرد والأمراض، وعلى نوعية أفضل. ومنذ عام 1960 باشرت الشركات التي حصلت على صنف جديد في استخدام أصناف مختلفة من المصادر كافة، بخاصة تلك الآتية من أحواض آسيوية بهدف تصنيف الجينات الجيدة (تلك المتعلقة بقصرها مثلاً)، وكان هؤلاء يحتفظون بمخزون مهم من جينات الأصناف كافة منها البرية والأخرى المصنفة للزراعة.
إنتاجية مضاعفة 3 مرات بفضل التهجين
وبفضل هذه الاختبارات والأبحاث زادت إنتاجية القمح اللين بما يفوق ثلاثة أضعاف خلال نصف قرن، واليوم بات بإمكان المزارع الفرنسي الوصول إلى ما يزيد على 350 صنفاً من القمح اللين، فيما تستمر محاولات زيادة تشكيلة الأصناف إلى جانب تسارع وتيرة تجديد الأنواع التي تستثمر في الزراعة، بحسب ما أوردت مجلة متخصصة في الزراعة والبذور.
حرب أوكرانيا
انعكاس نتائج الحرب الأوكرانية على الأمن الغذائي ومعضلة الوصول إلى الحبوب مسألتان حظيتا منذ البداية باهتمام عالمي وأوروبي، مما سلط الأضواء على أهمية حماية المحاصيل وتأمين مصادر مختلفة للحبوب.
واليوم تبلغ إنتاجية زراعة القمح في فرنسا تسعة أطنان للهكتار الواحد. وبحسب مدير الأبحاث الدولية للتطوير ميشال دوبران، فإن إنتاجية حبوب القمح ترتفع بمعدل واحد في المئة سنوياً وذلك بفضل الأبحاث الجينية، إذ إن فرنسا باتت اليوم من أكبر مصدري الحبوب.
وتتطلب عملية ابتكار نوع جديد من الحبوب الوصول إلى الموارد الجينية لتشكيلة واسعة من الشتول المختلفة واستخدام وسائل تكنولوجية تتطور باستمرار، وتخضع عملية التلقيح والتهجين لدورة حياة النبتة وتستغرق عملية التصنيف مدة طويلة من الوقت تتراوح ما بين سبعة إلى 10 أعوام.
تعزير نوعية المحاصيل
وتعمل فرق الأبحاث في فرنسا على إيجاد نوعية أفضل تكون مقاومة لارتفاع درجات الحرارة والجفاف، وخدمة لهذا المسعى وللحصول على جودة وفاعلية مستدامة للأرض، أطلقت أحدى الشركات الفرنسية ميثاقاً يهدف إلى تحسين خصوبة التربة والحفاظ على التنوع البيولوجي والتحكم ببقايا المبيدات، كما تشجع على عدم حراثة الأرض، لذلك يمتنع حوالى 80 في المئة من المزارعين عن حراثة أراضيهم وبعضهم يعتبر سباقاً في تطبيق مبادئ الحفاظ على نوعية التربة في ظل ظروف التغير المناخي. ويعتقد هؤلاء بأن التغيرات المناخية المتمثلة في هطول أمطار غزيرة خلال فترة قصيرة تقابلها فترات جفاف طويلة تستوجب إيجاد بدائل ملائمة.
ولتقييم أنظمة العمل المختلفة استناداً إلى الدورة الزراعية وعمل التربة والإمداد بالماء والأسمدة، ولمواجهة التغير المناخي، أطلقت أخيراً الشركة موقعاً اختبارياً في منطقة دومين دو مون، أطلق عليه اسم "الكتلة الأم 49"، وهو عبارة عن 49 هكتاراً سيتم استغلالها لاختبار الزراعات الكبرى خلال 12 عاماً، ومن بين هذه الزراعات 10 أصناف تنمو في المناطق الحارة يسعون إلى جعلها تتناسب ومناخ مناطق الشمال الباردة.
وفي نهاية الدورات الاختبارية السنوية تسمح النتائج بالاستفادة من نصائح تقنية محددة لنشر أنظمة الزراعة الأكثر فاعلية الملائمة للمنطقة المحددة.
من بين الخبراء العاملين على التجربة اختصاصي التصنيف في القمح برنار دوبرييه الذي يعمل منذ 40 عاماً في هذا المجال، ويقول إن "المهمة تكمن في إيجاد نوع فريد يقاوم الأمراض الناجمة عن آثار التغير المناخي التي حولت فصل الشتاء إلى شتاء دافئ، يكون صلباً بما فيه الكفاية لمقاومة نقص المياه ويحتفظ بخصائصه الغذائية ومذاقه".
ويشير إلى أن عملية التخصيب والتلقيح بين نوعين مختلفين للحصول على البذرة الهجينة المثالية معقدة وتتطلب مئات التجارب والتكرار للوصول إلى النتيجة المرجوة.
ويعدد دوبرييه أنواع القمح قائلاً إن "هناك الملتحي والأقزام والأخضر أو المائل إلى الزرقة... كما هناك الصلب لصنع السميد أو المعكرونة واللين لصنع الخبز".
ويتابع "هنا نجد شتولاً من الأنواع كافة بعضها ولدت من اختبارات حديثة لا نعرف النتيجة التي ستعطيها، وأخرى دخلت في التراث العالمي الزراعي، على غرار صنف أباش والأحمر الملتحي وأوبولا وأستراليا، إضافة إلى كنوز تعود لما قبل 10 آلاف عام".
وفي الجانب الآخر تنمو سنبلة قمح آتية من العصر الحجري، إنها من أسلاف قمحنا الحالي. نبتة من فصيلة القمح épautre صغير/ تريتيكوم مونكوكوم التي ولدت من تزاوج بين حبوب أخرى أنتجت القمح اللين، الحبة الأكثر استهلاكاً في العالم إلى جانب الرز.
وتجري في هذا المركز الاختباري في منطقة شاب 400 عملية تهجين كل عام، في عملية تستغرق 10 أعوام قبل أن نصل لنتيجة تؤدي إلى ولادة البذرة "البطلة".
أنواع جديدة تناسب الشمال
ولتعجيل العملية تم تطوير غرف زراعة وخيم لتسريع سير العملية من خلال تغيير درجات الحرارة وتناوب النهار والليل والري، واختصر العلماء الوقت بفضل علامة الخلايا وترميز الجينات، مما يسمح بتحديد الأكثر صلابة وتسريع عملية الفرز.
ونحصل بذلك على ستة أجيال من الأنواع خلال عامين بدل الحصول على جيل خلال عام، بحسب الأبحاث.