ملخص
الجميع يتذكر ما جرى لكن الغالبية لا تستحضر جرائم الإخوان الموثقة والاهتمام الشعبي بالجماعة بات فاتراً والولع الوطني باستحضار ذكرى إنقاذ البلاد صار باهتاً والحرص الجمعي على متابعة مستجدات الأمور أضحى واهياً.
تبدو الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد والعباد في مثل هذه الأيام قبل عقد واحد فقط وكأنها تاريخ قديم. عايشه الجميع، وعاش الكل لحظاته الحلوة والمرة ومشاعره بين رجاء وخوف وأمل في خلاص مصر مما كانت فيه وهي في قبضة جماعة الإخوان، لكن يبدو أن ما جرى تحت الجسر على مدار هذه السنوات العشر لم تكن مياهاً عادية، بل منها سيول ومنها فيضانات ومنها ما تقاذفته الرياح التي أتت بما لم تتوقعه السفن ومن عليها من ركاب وربان.
في 30 يونيو (حزيران) عام 2013، شهدت مصر أحداثاً يصنفها البعض بأنها الأخطر في تاريخها الحديث لسبب واحد يسميه المصريون "حاميها حراميها"، فقد اعتاد المصريون أن يأتي الخطر من الخارج، حملة استعمارية، جيش احتلال، خلافة إجبارية وغيرها، أما أن يكون الخطر داخلياً، فكان هذا هو الجديد.
الجديد في صيف 2013
الجديد في أحداث صيف عام 2013 كان تسلم حزب الغالبية، وهو "حزب الكنبة" مقاليد القيادة. نزل الشارع وقرر أن يغير المسار أو على حد وصف أعضائه "تصحيح المسار".
حين نزلت سيدات مصريات، ومنهن من كن في العقود الخامسة والسادسة والسابعة من العمر مصطحبات كنباتهن معهن في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات وجلسن عليها أمام بيوتهن غير عابئات بمرور جحافل أعضاء جماعة الإخوان، وملوحات بلافتات كتبن عليها "يسقط يسقط حكم المرشد" وهن يهتفن "أيوه أنا باهتف ضد المرشد" سجلن تحولاً جذرياً في مسار ومسيرة مصر الحديثة.
وحين انضم لجموع الرافضين لحكم جماعة الإخوان المسلمين في حينها شباب بعضهم شكلوا عصب أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 وارتفعوا بسقف المطالب معلنين أنهم لم يرضوا إلا برحيل نظام حكم مصر طيلة 30 عاماً كانوا يعلمون أن نتيجة النزول في عام 2013 لن تؤتي على الأرجح بمطالبهم التي رفعوها بالمقاييس التي حددوها، لكنهم كانوا على يقين أن معركة المطالبة بـ"العيش والحرية والعدالة الاجتماعية" رفاهية مقارنة بمعركة الإبقاء على الوطن ومسحة من مدنيته.
وحين انضم لهؤلاء وأولئك طبقات الشعب العاملة والمطحونة والكادحة، وبينها من ظل ينتفع على مدار عقود بـ"رشاوى" الإخوان الانتخابية المرتدية عباءة الدين وجلبابه، وبينها أيضاً من أتوا بالجماعة في قصر الرئاسة في "أول انتخابات مصرية حرة نزيهة" و"أول رئيس مصري مدني منتخب أتت به الصناديق" كانوا قد أيقنوا أن الشاي والزيت والسكر قد يشبعهم اليوم لكنه على الأرجح لن يضمن لهم وطناً غداً.
أضغاث كوابيس
مر عقد بالتمام والكمال. مشاهد اعتصام "رابعة" ومآسيها وما جرى فيها تبدو اليوم وكأنها أضغاث كوابيس. الجميع يتذكر ما جرى، لكن الغالبية لا تستحضره. جرائم أعضاء الجماعة موثقة في ذكريات الأمس القريب، لكنها قلما تستحضر. فالاهتمام الشعبي بالجماعة بات فاتراً، والولع الوطني باستحضار ذكرى إنقاذ البلاد صار باهتاً، والحرص الجمعي على متابعة مستجدات الأمور في ما يختص بالجماعة وأذنابها أضحى واهياً.
لكن في الذكرى العاشرة لأحداث 30 يونيو ينبغي عدم الخلط بين فتور اهتمام المصريين بالإخوان، وبين استعداد المصريين لمسامحة الجماعة، فقد يشطح خيال البعض لدرجة الخلط بين الفتور ومعاودة الحضور.
تبدو الشطحة أحياناً منطقية. فالظهور المفاجئ لـ"المعارض" المصري والبرلماني السابق أحمد الطنطاوي الذي عاد لمصر بعد غياب تسعة أشهر ليعلن نيته الترشح لمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية المقبلة التي يفترض عقدها العام المقبل، وما قاله عن "تأييده عودة الإخوان وطي صفحة الماضي" مع عدم ممانعته "التصالح معهم وعودتهم إلى المشهد بشكل قانوني عبر تأسيس جمعية وليس جماعة تخضع للقوانين شأنها شأن الجمعيات الأهلية" أثار زوبعة محدودة.
"زوبعة" لأنها المرة الأولى التي تطرح فيها احتمالات عودة الجماعة بهذا الشكل المباشر والمباغت، ولأن "قبول العودة" جاء من مرشح بات يوصف في بعض المنصات الإعلامية والأذرع الإعلامية بـ"المحتمل"، ولأن الكلام صادر من مصر وليس من خارجها كما جرى عرف أنصار الجماعة سواء المؤيدين لها بحكم الانتماء أو القابلين لوجودها لأسباب عدة تتراوح بين الإيمان المطلق بالتعددية من دون النظر في مكوناتها، أو نكاية في النظام المصري الحالي وقاعدته الشعبية، أو –كما يصفهم البعض– لأنهم قابلون للدغ من جحر مرتين وثلاث وربما أربع.
و"محدودة" لأن قاعدة عريضة من المصريين باتت تعتنق مبدأ "لا أسمع سياسة، لا أرى أيديولوجيا، لا أتكلم لمصلحة النظام أو ضده". والأسباب كثيرة.
لا سبب يعلو على الاقتصاد
وعلى رغم كثرة الأسباب، لكن لا سبب يعلو على الأوضاع المعيشية الصعبة التي ألمت بالعالم ومصر والمصريون ليسوا استثناء. الأحاديث الدائرة رحاها في المحال ووسائل المواصلات والمقاهي وأماكن العمل لم يعد الإخوان محورها أو الأحزاب موضوعها أو حتى من يترشح في الانتخابات.
متى وجدت مصاعب اقتصادية جمة ومشكلات معيشية كبيرة في مصر، تقلصت السياسة وتضاءل الاهتمام الشعبي بها، حتى وإن كانت السياسة وجهاً من وجوه الاقتصاد. إنها عادة المصريين، الفصل التام بين هذه وذاك، تماماً كما هي عادتهم المزج الكامل بين الدين والدنيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قبل أشهر قليلة، وتحديداً قبل بدء شهر رمضان المبارك، وبينما المصريون يتكهنون بشكل رمضان في ظل حلقات التعويم ومسلسل التضخم وغياب عروض التوفير، خرجت دار الإفتاء المصرية لتطلب عبر صفحتها على "فيسبوك" حسن التدبير والاقتصاد في المعيشة، مشيرة إلى أن ذلك من شأنه أن "يذهب الفقر ويجلب الرزق وتحصل معه البركة".
وعلى رغم أن شهر رمضان فات، وجاء عيد الفطر، وبعده عيد الأضحى، وأحسن المصريون كثيراً في التدبير برغبة أو باضطرار، واقتصد الجميع في الإنفاق عن قناعة أو كراهة، إلا أن معالم الفقر لم تختف، وأبواب الرزق لم تنفتح، لكن يقول المصريون إن "الله يبارك في الرزق القليل" وإن الصبر حتماً سيأتي بالفرج، إن لم يكن غداً فبعد غد، وإن لم يكن بعد غد ففي الحياة الآخرة إن ضاقت بهم الدنيا.
دنيا المصريين
دنيا المصريين في 30 يونيو 2023 تختلف كثيراً عن دنياهم في 2013. يقول البعض – من تلك القلة التي ما زالت مهتمة بالشأن السياسي ومن تتيسر لها رفاهية المتابعة والمقارنة والاستحضار والاستذكار أن الطبيعي هو أن تأخذ القاعدة العريضة في الابتعاد عن جدليات الإخوان ومساجلات السلفيين ومناظرات التيارات المدنية ومناطحات من يجب إدماجه في الحياة السياسية ومن يجب إقصاؤه. فعشر سنوات تحقق فيها الأمن العام والاستقرار الداخلي واستردت خلالها الدولة عافيتها حلوها بمرها كفيلة بإعادة الجماهير العريضة إلى كنباتها المعتادة.
اعتاد المصريون في المناسبات "الوطنية" الحديثة – وما أكثرها في التاريخ المعاصر- استرجاع قدر من الذكريات واستعادة بعض من الأحداث. ربما تكون وجهة نظر البعض المتمثلة في تفسير تقلص اهتمام المصريين بالإخوان وسيرتهم من منطلق مرور الوقت صحيحة، لكن المؤكد أن المسألة ليست مرور وقت كغيره من الأوقات، لكنه مرور متخم بالأحداث، والسعة الاستيعابية للمخ البشري لها حد أقصى، بعدها يبدأ الإنسان في نسيان الأشياء أو ربما تخزينها في غرف بعيدة قد تسقط بعدها في طي النسيان أو التناسي، على أن يتم استدعاؤها وقت اللزوم.
السعة الاستيعابية للمخ
يعتقد البعض أن المخ البشري يعمل مثل جهاز الكمبيوتر في ما يختص بالسعة الاستيعابية. تتم تغذية الجهاز (المخ) بكم كبير من الخبرات والمعلومات والتجارب. تصل مساحات التخزين إلى حد قريب من التخمة، وفي حالة القرص الصلب في الكمبيوتر يتوقف عن القدرة على استيعاب مزيد أو حتى استرجاع الموجود إلى أن يتم حذف جانب من المحتويات. وهنا يكمن الفرق الرئيس بين المخ البشري و"مخ" الكمبيوتر. الأخير غير قادر على انتقاء ملفات بعينها ليحذفها حتى يتمكن من استيعاب مزيد والتعامل معه، أما المخ البشري، فيقوم بإلغاء أو إحالة بعض الملفات إلى الأرشيف وذلك ليتمكن من التركيز على الملفات الجديدة. المخ البشري لا حد أقصى لسعته، لكن هناك حدوداً قصوى لما يمكن أن يكون "الشغل الشاغل" لصاحبه.
أدمغة المصريين على ما يبدو تعمل بديناميكية عالية جداً. أعادت تشكيل المحتويات بمرور السنوات، اطمأنت لهدوء الأوضاع ذات الأولوية وعلى رأسها الأمن والأمان واستعادة أجهزة الدولة عافيتها. أضعفت المسارات والمحتويات الأخرى من سجالات سياسية ومعارك أيديولوجية وجهود استقطابية، وأولت اهتمامها لما يستجد من مسارات وما يفرض نفسه من أولويات. المسارات والأولويات من جهتها لم تقصر هي الأخرى في الصعود والبزوغ.
بزغت الأزمة الاقتصادية فارضة نفسها أولوية قصوى. وصعد نجم موجات شد رياضي وفني، وجذب إفتائي وغذائي، وجميعها لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالجماعة وما جرى قبل عقد من اعتصام دموي في "رابعة" وتظاهرات شعبية مضادة في الشوارع والميادين وتهديدات إخوانية معضدة إقليمياً تارة ومحبذة دولياً تارة أخرى. ووجدت الجماعة نفسها منزوية في ركن بعيد هادئ من أدمغة المصريين حتى في الذكرى العاشرة لأحداث 30 يونيو الفارقة.
مفردات 2013
فرق كبير في قاموس المفردات الشعبية بين الأمس واليوم. الأمس، وقبل عشر سنوات في مثل هذا اليوم كانت أحاديث المصريين ومفرداتهم المتداولة في شتى الطبقات والفئات لا تحوي إلا "الرحيل" و"الفترة الانتقالية" و"الجماعة المحظورة" و"البلطجية" و"الليبرالية" وكذلك "الصهيوليبرالية" و"الصهيوصليبية"، ثم "القصاص" و"الاستحقاق الثوري" و"الدولة العميقة" و"التمكين الإخواني" و"أول رئيس حافظ للقرآن" و"أول رئيس بتاع ربنا" وكذلك "أول رئيس يتاجر بالدين" و"أول جماعة تضحك على الذقون بالذقون". وحوت النقاشات إشارات "الاستحواذ" و"التمكين" و"الإقصاء" و"المغالبة" و"المكابرة"، وأيضاً "ناشط إسلامي" و"ناشط حقوقي" و"ناشط" سادة.
واليوم تبددت هذه المفردات في هواء عقد مضى. كما تضاءلت الإشارات إلى الجماعة وما فعلته وما كان يمكن أن تفعله حال بقائها تحت وطأة تفاصيل الحياة اليومية المتخمة بقلق أداءات الجنيه أمام الدولار، واضطراب إدارة الزمالك ومصير الأهلي بعد "بيبو" (محمود الخطيب)، ومصروفات المدارس في العام الدراسي الجديد، واستمرار مراوغة اللحوم الحمراء وامتناعها عن موائد الغذاء وحتى في الأعياد، ولا مانع من فتاوى تثير القيل والقال ومقطع "تيك توك" لفتاة يفجر ينابيع الغضب حول الأخلاق والفضيلة والحياء.
هذه العودة "الحميدة" إلى مجريات الأمور العادية التي تهتم بها الشعوب –كل بحسب ثقافته ومعتقداته وعرفه وتقاليده، وذلك الابتعاد عن استحضار ذكرى الإخوان سواء أكان بضغط الاقتصاد أو دافع سقوط الاهتمام بالتقادم أو كليهما، وهذا الاستقرار الجمعي لأعضاء حزب الغالبية "حزب الكنبة" على كنباته أبرز ما يميز استقبال المصريين لذكرى مرور عشر سنوات على الحدث الأبرز والأخطر في تاريخهم المعاصر.