Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الكورية الجنوبية هوانغ تُغلّب أحكام الطبيعة على البشر

في رواية "معجزة تل الكرز" تتجلى معجزة الريف بأبعادها الانسانية

الروائية الكورية الجنوبية صن مي هوانغ (صفحة الكاتبة - فيسبوك)

ملخص

في رواية "معجزة تل الكرز" تتجلى معجزة الريف بأبعادها الانسانية

حين قرّر كانغ داي سو، بطل رواية "معجزة تل الكرز" للروائية الكورية الجنوبية صن مي هوانغ، الصادرة حديثاً عن دار "ثقافة للنشر والتوزيع"، العودة إلى المنزل، بعد غياب طويل، لتمضية ما تبقى من حياته، لم يكن يعلم أن تلك العودة ستكون بداية لحياة جديدة. ذلك أن كانغ الذي أمضى العمر يخوض المعارك ويحرز السبق في كل منها تعويضاً عن فردوس فقده قبل الأوان، وانسجاماً مع وقوفه وحيداً في مواجهة عراء العالم، يتخذ قرار العودة إلى المنزل الذي عاش فيه قسطاً من طفولته، وأحدث فيه ندوباً عميقة، واشتراه كي يستعيد فردوسه المفقود ويشفى من تلك الندوب. وهو يفعل ذلك ليعيش أيامه الأخيرة بهدوء، بعد إصابته بورم في المخ،  حتى إذا ما فعل، تتخذ الأمور مجرى آخر، وتتحوّل النهاية إلى بداية جديدة، في إحالة روائية واضحة إلى أن الأقدار قد لا توافق الإنسان، وإن كان مجراها في الرواية يتم في مصلحة هذا الأخير.

على أنه، قبل الخوض في مجرى الأحداث، لا بدّ من الإشارة إلى أن صن مي هوانغ كاتبة وأستاذة جامعية كورية جنوبية، أصدرت أكثر من ثلاثين كتاباً في مختلف الأنواع الأدبية، وتم تحويل بعضها إلى رسوم متحرّكة، وحازت عدداً من الجوائز الأدبية، وكتبت "معجزة تل الكرز" في فيينا خلال شهر واحد، وأرادتها هدية إلى أبيها، في محاولة منها متأخرة لاستعادته.

وظائف المكان

في العنوان، بقسميه الرئيسي "معجزة تل الكرز" والفرعي "أزمة في الحديقة الخلفية"، ثمة إحالة إلى فضاء ريفي زراعي، تجري فيه الأحداث، وتنخرط فيها مجموعة من الشخوص الريفية. وتتعدد تمظهرات العنوان في النص؛ فـ "تل الكرز جزء مهم للحي والقرى المجاورة. فهو متنفس للجميع. ويأتي الأطفال إلى هنا للعب والتسلق. ولا يزال مكاناً للاسترخاء والراحة ...". وهو "مكان على قيد الحياة. تل حي يتنفس بكل ما فيه". والحديقة الخلفية "أقرب إلى غابة واسعة وليس حديقة خلفية، لكنها مليئة بدجاج وديوك ترفرف وتقفز وتصيح". وهكذا، يتمخض العنوان عن مكان روائي متعدد الوظائف، يجمع بين الترفيه واللعب والاسترخاء والراحة والامتداد وتربية الدواجن والزراعة، مما يمكن اختصاره بوظيفة واحدة هي الحياة.

 

 

في المتن، تشكّل عودة العجوز كانغ داي سو إلى المنزل القديم، المسوّر بالأشجار، الذي اشتراه قبل ثلاثين سنة ليتصالح مع ماضيه ويستعيد طفولة مفقودة، عنصراً جديداً يطيح وضعية المكان المستقرة، بوظائفه المتعددة المشار إليها أعلاه. وتتمظهر عناصر تلك الوضعية في أن الحديقة الخلفية من المنزل كانت ملعباً للأطفال، ومزرعة للخضراوات، وغابة للغرباء يحفرون أسماءهم على أشجارها، وفسحة للدواجن؛ فالصغيرة يوري وجَرْوُها تحافظ على الدجاجات وتمنع السناجب من الاقتراب منها، وتجمع البيض يومياًّ. والطفلان سانغ هوفي وبيير وأترابهما يمارسون ألعابهم في الحديقة، والجدة هان سونغي تزرع الخضراوات، والغرباء يزرعون الأشجار، والديك ودجاجاته يسرحن ويمرحن. والقطط والسناجب تتربّص بها الدوائر.

كفة القانون

هذه الوقائع وغيرها تجعل المكان نوعاً من ملكية مشاعية، تتماشى مع طبيعة الحياة في الريف، لكنها تتنافى مع قانون الملكية الفردية. وإذ يعود كانغ إلى منزله المستباح، وهو المؤمن بالمبادئ القانونية، يصطدم بالوقائع القائمة، ويكون نزاع بين ما فرضته الطبيعة وما يقتضيه القانون، بين الطفل فيه والعجوز. وهو نزاع تختلف نتائجه باختلاف الكفة التي ترجح فيه. فحين ترجح كفة القانون والشيخوخة، يترتب على ذلك الإطاحة بالوضعية المستقرة للمكان الروائي، ويختل التوازن الطبيعي في الحديقة الخلفية؛ مما يؤدي إلى: استباحة القطط المكان، انتشار السناجب في الحديقة، ظهور الغربان والعقاعق، تفاقم حالة الجدة المزارعة الصحية، نقمة الأولاد، تدمير المزرعة، وغيرها من التائج الوخيمة.

 

 

أمّا حين ترجح كفة الطبيعة والطفولة، وهو ما يتحقق في نهاية الرواية،  فتعود الأمور إلى مجاريها شيئاً فشيئاً، وتتمظهر هذه العودة في مجموعة من الوقائع الروائية، من قبيل: فتح الحديقة أمام الأولاد، إعادة المفتاح للجدة المزارعة، معانقة الطفل الذي كبر قبل الأوان سانغ هوفي الذي رأى فيه طفولته المجهضة، إقراض الفتاة ميهو الغيتار، الاهتمام بالصغيرة يوري وجروها. ولعل الواقعة الأكثر تعبيراً، بالمعنى الروائي، تتمثّل في أن الجدة هان سونغي التي تعاني من الخرف، وهي ابنة صاحب المنزل الأصلي التي كانت تتنمّر عليه صغيراً رغم حبها له، تتذكّره في لحظة وعي وتناديه باسمه الحقيقي ليجلس إلى جانبها في الأرجوحة، فيفعل، مما يؤشّر روائياًّ إلى تصالحه مع الماضي. يتزامن ذلك مع تحرّره من الإحساس بالغربة وتفاعله مع الآخرين في الحي، حتى الذين كان بينه وبينهم علاقات متوترة. وهكذا، تقول الرواية أن انتظام الأمور في مجتمع معيّن ليس مرتبطاً حكماً بتطبيق القانون، ولعل تطبيقه هو الذي يتسبّب في خروجها عن السيطرة، في بعض الحالات. لكنه قد يرتبط بأحكام الطبيعة التي كثيراً ما  تغلب على قوانين البشر.

ازدواجية السطح والأعماق

هذه الأحداث تنخرط فيها مجموعة من الشخوص تشترك في ازدواجية معيّنة بين المظهر والمخبر، على تفاوت بين شخصية وأخرى، تستوي في ذلك الشخصية المحورية والشخصيات الأخرى المتمحورة حولها، فما يطفو على السطح يختلف عمّا يعتمل في داخل الشخصية. فكانغ العجوز يخفي في إهابه طفلاً لم يستطع التخلّص منه، ويواري خلف تجهّمه ورصانته وهدوئه وتحفّظه وترفّعه، هشاشة عاطفية سريعة العطب. لذلك، نراه، وهو الذي اشترى منزل طفولته المقموعة بهدف تصفية الحساب مع الماضي وما اختبره من تنمّر وتهميش وعزلة ويتم وإقصاء، يفيء إلى الطفل الكامن فيه، لا سيّما بعد اتضاح الأمور شيئاً فشيئاً، فيكفل الطفل بيير رغم علمه أنه حفيد غريمه الوغد كيونغ سو. ويهوله أن يرى قطة تسطو على بيضة دجاجة، ويقضي ليلة في ناموسية الحديقة مع فرخ صغير ليحول دون التهامه قطة تتربص به، ويفرح بعودة الطفلة يوري إلى الاهتمام بدجاجات الحديقة، ويعانق الطفل الآخر سانغ هوني الذي يكبر قبل أوانه، ويزمع تقديم الغيتار للفتاة ميهو، ويعيد المفتاح للجدة العجوز، ويعيد المنزل إلى سالف عهده.  وبذلك، يتحرر من أشباح الماضي، ويتصالح مع الحاضر، ويطمئن إلى المستقبل فيتعايش مع الورم الخبيث ويشاكسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 في السياق نفسه، إن الثرثرة والحشرية والفضول التي تطفو على تصرفات العجوز الآخر جانغ، غريم كانغ في طفولته، لا تحجب اهتمامه بالآخرين من أبناء الحي وحرصه على انتظام أمورهم. ووقاحة الطفل سانغ هوني وجرأته وتطاوله على الكبار الناجمة عن حاجته إلى التظاهر بالقوة حتى لا يهزم، وهو الناشئ "بين جدة مصابة بالخرف، وأب يعاني من إصابة في الرأس، وأم تكافح لتعلم أطفالاً آخرين، وأخت صغيرة بلا حيلة..."، لا تحجب ما يعتمل داخله من طيبة وطفولة مفقودة. والجدة سونغي التي تنمّرت على كانغ في الصغر وكانت تجبره على الانحناء لها متقمّصة أميرات الأفلام كانت تخفي حباًّ له وعملت على مراسلته بعد رحيله. ولعل مبادرتها له بالقول، حين جلس إلى جانبها على الأرجوحة في نهاية الرواية: "داي سو، من الآن فصاعداً يمكننا اللعب معاً"، تشكّل خير تعبير عن جمال دخيلتها واختلافها عمّا طفا على السطح، ذات طفولة، من تصرّفات نزقة.

هكذا، تتحقق "معجزة تل الكرز"، وتعود المياه إلى مجاريها، وتجري الأقدار كما تبغي الشخوص المختلفة، مما يجعل من الرواية درساً في حتمية انتصار الخير على الشر، وتغليب الطبيعي على المصطنع، وتحرّر الحاضر من رواسب الماضي.     

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة