Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هارولد بنتر على خطى مانكيفيتش حتى من دون أن يشاهد فيلمه

عندما عاد وريث مسرح الغضب الإنجليزي إلى "التحري" وقدم فيلماً أثار إعجاباً وسجالات

مشهد من فيلم "التحري" كما حققه كينيث براناه (موقع الفيلم)

ملخص

هارولد بنتر حين أقدم على كتابة "التحري" كان مصراً على أن يشتغل عليه من دون أن يشاهد الفيلم الذي حققه جوزف إل. مانكيفيتش عن الموضوع نفسه

ينظر النقاد والمؤرخون الفنيون، وحتى الجمهور العريض، عادة إلى الكاتب المسرحي الإنجليزي هارولد بنتر ليس فقط باعتباره واحداً من آخر كتاب المسرح الإنجليز بل حتى بوصفه الوريث الأكبر لتيار "مسرح الغضب" الذي صنع للخشبة في بلاده واحداً من أمجادها الأخيرة بل تضافر دائماً مع تيار "السينما الحرة" في هذا البلد ليستعيد له مجداً فنياً متكاملاً. ومع ذلك، يعتبر بنتر أيضاً كاتباً مبدعاً للسيناريو السينمائي، ولكن في هذا السياق، ثمة دائماً نوع من سوء تفاهم يكاد يقصر الحديث عن علاقة بنتر بكتابة السيناريو على كونه صاحب تلك الثلاثية السينمائية المدهشة التي حقق جوزف لوزاي أفلامها الثلاثة الكبيرة في ستينيات وسبعينيات القرن الـ 20: "الخادم" و"حادث" و"الوسيط". وينبع سوء التفاهم هذا من واقع بسيط يتجلى في أن بنتر كتب العديد من السيناريوهات السينمائية على طول مساره الإبداعي عدا عن تلك الثلاثية، بحيث أن مجموع الأعمال التي كتبها للسينما ثم للتلفزة بعد ذلك تكاد تضاهي عدداً إن لم يكن قيمة مطلقة، ما كتبه للمسرح، ولعل الغريب في الأمر هو أن بنتر إنما كتب غالباً سيناريوهاته مقتبساً إبداعات كتاب آخرين، وهو في هذا يبدو شبيهاً بما فعل نجيب محفوظ في مصر، وإذا لم يكن في الإمكان هنا وضع قائمة متكاملة بالسيناريوهات السينمائية التي تحمل توقيع بنتر يمكن بالتأكيد ذكر بعض أهمها وربما أشهرها، من "المحاكمة" اقتباساً من رواية "كافكا" الشهيرة إلى "راحة الغرباء" في اقتباس مبكر عن رواية لإيان ماكيوان، وصولاً طبعاً إلى سيناريو فيلم "التحري" الذي نتوقف عنده هنا.

 

تحديات فنية

ولكن لماذا هذا السيناريو تحديداً؟ الجواب بسيط لأنه شكل منذ البداية واحداً من أطرف التحديات الفنية في المسار "السينمائي" لهارولد بنتر بعد أن طبع التعاون بينه وبين المخرج الشكسبيري كينيث براناه، الذي سيخوض بعد ذلك نوعاً سينمائياً كلاسيكياً قائماً على إعادة أفلمة بعض روايات أغاثا كريستي، وكان يعلن أنه كان يتمنى لو أن هارولد بنتر لا يزال حياً حتى يتعاون معه في اقتباساته الجديدة تلك. ويكمن التحدي الذي نشير إليه في أن بنتر حين أقدم على كتابة سيناريو "التحري" كان مصراً على أن يشتغل عليه من دون أن يشاهد الفيلم الكبير الذي كان قد حققه الأميركي جوزف إل. مانكيفيتش عن الموضوع نفسه قبل ذلك بأكثر من ثلث قرن. ومن المعروف أن بنتر إنما كان يشتغل هنا على اقتباس مسرحية معروفة وبالعنوان نفسه للكاتب أنطوني شافير، وهي المسرحية نفسها التي كان مانكيفيتش قد اقتبسها، عام 1972، في ذلك الفيلم الذي كتب له السيناريو يومها كاتب المسرحية نفسه.

ولقد كمن التحدي بالتالي في أن بنتر رفض مشاهدة الفيلم القديم بل رفض حتى مشاهدة أي عرض للمسرحية التي كانت من النجاح بحيث تقدم بين الحين والآخر، كل ما في الأمر أنه انطلق من النص المكتوب للمسرحية وكأنه يعيد خلقها من جديد، ولسوف يكون لافتاً أن النقاد، ولمرة نادرة، اعتبروا سيناريو بنتر أكثر قوة من سيناريو صاحب الرواية الأصلية! نعرف أن هذا أمر غير معتاد بالنسبة إلى أي فيلم يستعيد حكاية فيلم سابق عليه، لكن "هارولد بنتر هو هارولد بنتر" بحسب تعبير الناقد الراحل روجر إيبرت الذي علّق على الفيلم الذي حققه براناه، عام 2007، قائلاً إن الكاتب الذي اعتاد التعامل في نصوصه مع الأماكن المغلقة تمكّن "هذه المرة أيضاً من أن يربح رهانه".

عمل أخير

مهما يكن، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الفيلم الجديد أتى مديناً لكاتب السيناريو أكثر كثيراً مما كانه الفيلم القديم، والذي اعتبر حينها من أكبر إنجازات مانكيفيتش في مرحلة ختمت مساره السينمائي، إذ كان فيلمه الأخير، ومهما يكن من أمر هنا، لا بدّ أن نضيف أن "التحري" كما كتبه بنتر كان واحداً من آخر السيناريوهات التي كتبها قبل أن يفوز بجائزة "نوبل" الأدبية "عن مجمل عمله المسرحي" وقبل أن يرحل بفترة لم تكن طويلة، بيد أن الأمر الأكثر طرافة في الحكاية كلها يتعلق بالدورين الرئيسين في الفيلم، بل في الفيلمين. ففي المرة الأولى، تحت إدارة مانكيفيتش لعب الدورين لورنس أوليفييه ومايكل كين، كان أوليفييه مكتهلاً يلعب آخر أدواره الكبيرة على الشاشة فيما كان كين نجماً لا يزال في ريعان شبابه، أما هذه المرة فها هو كين عجوزاً يلعب هنا الدور الذي كان يلعبه أوليفييه فيما يقوم جود لو بلعب الدور الذي كان مايكل كين قد اشتهر به. يمكننا أن نتصور هنا طرافة الأمر وصعوبته، أما التحدي الكبير الآخر فهو أن بنتر أصرّ، على رغم أن الحكاية تسمح بعكس ذلك، على أن تبقى أحداث الفيلم وحواراته ومواقفه، محصورة داخل جدران دارة أندرو ويك المتهم بقتل زوجته، والذي يزوره التحري للتحقيق معه، وذلك هو على أية حال موضوع الفيلم وسياقه ما يجعل الحوار، بل حتى الألاعيب الحوارية، سياق الفيلم الرئيس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مفارقات مهنية!

وقد يكون من الإمعان في الطرافة هنا أن نذكر أن فيلم "التحري" كان ثاني فيلم يلعب فيه جود لو دوراً سبق لمايكل كين أن لعبه، كانت المرة الأولى في فيلم "آلفي"، كما كان سبق لكين نفسه أن لعب دورين مختلفين ومتجابهين في فيلمين اقتبسا من موضوع نفسه وبالعنوان نفسه هو "جئني بكارتر". وعلى أية حال، وفي السياق نفسه، لا بدّ من الإشارة هنا إلى ما قاله بنتر عن "التحري" من أنه لم يكن بأية حال إعادة إنتاج للفيلم القديم، بل كان "إبداعاً جديداً لموضوع مسرحي" وهو أمر وافقه عليه المخرج كما وافقه الممثلان الرئيسان ولا سيما منهما جود لو الذي وصفه بأنه "إعادة اختراع لـ"التحري" من حيث أن موضوعه يدور من حول رجلين يتصارعان في سبيل امرأة لا نشاهدها أبداً"، علماً أن هذا الصراع يتخذ لديهما نوعاً من التناحر اللغوي، أي اشتغالاً على اللغة كان دائماً ما يستهوي هارولد بنتر نفسه، والحال أن الساعة ونصف الساعة التي تستغرقها "أحداث" الفيلم إنما تتألف من حوارات لا تنتهي بين رجلين جالسين غالباً في المكان نفسه يحاول كل منهما أن يسجل انتصاراته "اللغوية" على الآخر في لعبة ندر أن تمكنت من اجتذاب المتفرجين طوال هذا الوقت، وطبعاً يمكننا أن ننطلق من هذا الواقع لتفسير السبب الذي يجعلنا نتوقف عند هذه التوصيفات للعمل من دون أن ننطلق في رواية ما يحدث أمام أنظارنا، ولنقل: أمام أنظارنا وأسماعنا معاً!، لأن كل ما يحدث هو تلك الحوارات التي تنعكس على ملامح الشخصيتين الأساسيتين وكل منهما يعرف أنه ليس هنا لإقناع الآخر بل لدفعه إلى الاستسلام تماماً كما يحدث على حلبات الملاكمة والمصارعة.

عندما تحب النخبة عملاً

ويقيناً أن هذه اللعبة الصراعية التي بدت إضافات هارولد بنتر ماثلة فيها بقوة هي التي استهوت جمهور النخبة الذي تابع الفيلم ولا سيما حين راح يتجول، في صيف عام 2007، من مهرجان سينمائي إلى آخر في تجوال نادر بين المهرجانات الكبرى، فهو بعد أن عرض في مهرجان البندقية، في 30 أغسطس (آب) من ذلك العام، سرعان ما انتقل بعد أيام إلى مهرجان الأطلسي في "هاليفاكس" ثم إلى مهرجان "أسبن" ومنه إلى كوبنهاغن فكاليغاري الإيطالية حيث راح في كل مرة يحصد نجاحاً وجوائز، لكن الغريب أن قلة من المتفرجين عمدت إلى مقارنته بـ"النسخة القديمة"، حتى وإن كان مايكل كين قد حرص في كل مرة ظهر فيها مع الفيلم أمام الجمهور لا يتوقف عن الحديث عن استمتاعه بلعب الدورين الرئيسين، مشيداً بالحوارات الجديدة التي "أعاد صديقي هارولد بنتر الاشتغال عليها ما نفخ روحاً جديدة في حوارات كانت رائعة أصلاً في صيغتها القديمة"، مشبّهاً العمل على هذا الفيلم بتقديم المسرحيات بصيغة جديدة ولغة متطورة في كل مرة تقدم فيها.

المزيد من ثقافة