ملخص
كوميديا راقية في مواجهة القفشات اللفظية المبتذلة والجمهور يستجيب
المعروف أن مسرح الدولة في مصر ليس هادفاً إلى الربح، بمعنى أنه خدمة ثقافية مدعومة، تقدمها الدولة لمواطنيها بأسعار دخول بسيطة، بالتالي فإن غالبية العروض، أياً كانت جودتها، لا تغطي تكاليف إنتاجه وتشغيله.
في عرض "طيب وأمير" (المسرح الكوميدي- وزارة الثقافة) يبدو الأمر مختلفاً هذه المرة، فحجم الإقبال الجماهيري على العرض، الذي لا يضم نجوماً جماهيريين بالمعنى المعروف، وإن كانوا جميعاً على درجة عالية من الموهبة والحضور ولهم تجارب سابقة مهمة، يؤكد أن بالإمكان تقديم عروض جماهيرية ناجحة تغطي كلفتها، وربما تحقق أرباحاً أيضاً.
المعيار هنا في "شطارة" صناع العرض، وقدرتهم على تقديم عمل يوازن بين "شروط المسرح" حتى في حدودها الدنيا، وإمتاع الجمهور وتسليته، من خلال فكرة بسيطة، وحكاية قريبة منه، وجعله يخرج راضياً عن العرض ومشجعاً غيره على مشاهدته.
هكذا أدرك مخرج العرض، محمد جبر الذي يمتلك ما يمكن اعتباره "خلطة خاصة" تمكنه من تقديم عروض منضبطة فنياً، ترضي النقاد والمتخصصين بالمسرح، وفي الوقت نفسه تحقق إقبالاً جماهيرياً كبيراً لأنها لا تخلو من رسالة، حتى ولو كانت بسيطة، وهي معادلة يصعب على كثيرين تحقيقها. فعلها محمد جبر في أكثر من عرض من عروضه التي بلغت الـ70 حتى الآن، سواء في المسرح الجامعي، الذي كان نقطة انطلاقه إلى عالم الاحتراف، أو في مسرح الدولة، ومنها مسرحية "1980 وأنت طالع" ومسرحية "قضية ظل الحمار" ومسرحية "رضا" التي تعد أول مسرحية مصرية تتناول قصة لاعب كرة مصري، وهو رضا لاعب نادي الإسماعيلي المصري الراحل.
في تجربته الجديدة "طيب وأمير" التي قدمها على مسرح ميامي وسط القاهرة، لجأ محمد جبر إلى تراث نجيب الريحاني وبديع خيري، وتحديداً فيلم "سلامة في خير" الذي أخرجه نيازي مصطفى عام 1937 بطولة نجيب الريحاني، وحسين رياض، وراقية إبراهيم، وفردوس محمد، واستيفان روستي، وحسن فايق.
كاتب النص محمد الملواني "لم يستدع الفيلم بحذافيره وإن حافظ على تيمته الأساسية. لدينا رجل طيب يعمل جابيا في إحدى الشركات (هشام إسماعيل) يقوم بتحصيل مبلغ كبير، لصالح الشركة في نهاية الأسبوع، تحول الظروف من دون اللحاق بالبنك لإيداع المبلغ. ولأن أمامه ثلاثة أيام حتى يستطيع إيداع المبلغ، نظراً لعطلة البنوك، يقع في حيرة شديدة فينصحه شخص التقاه في الشارع (شريف حسني) باستئجار غرفة في أحد الفنادق وإيداع المبلغ في خزانة الفندق. يستجيب لنصيحته ويذهب إلى الفندق، وهناك يصادف أميراً من إحدى الدول يزور القاهرة (عمرو رمزي) ولأن الأمير معرض للاغتيال، يقرر أن يتقمص هذا الرجل الطيب شخصيته. وتتوالى الأحداث، وسط مفارقات كوميدية عدة، وتنجح خطة الأمير في إفشال محاولة الاغتيال ويكافئ الرجل الطيب بمبلغ مالي كبير، وكذلك يكافئه صاحب الشركة (جلال الهجرسي) على أمانته بعد أن ظن به السوء.
فارق زمني
أدرك كاتب النص الفارق الزمني الكبير بين إنتاج الفيلم، والوقت الذي تقدم فيه المسرحية، فنسج نصه مستجيباً للتطورات التي حدثت، سواء من حيث طبيعة اللغة المستخدمة، أو من حيث طبيعة العلاقات بين الشخصيات. أي إنه "عصرن" الأحداث حتى يستجيب المشاهد ويشعر بأنه بصدد عرض هنا والآن، وليس أمام مجرد مسرحة فيلم قديم شاهده عشرات المرات. الأزمة بدأت بعد أن سرق اللصوص الهاتف النقال الخاص بالرجل الطيب، وتعمقت أكثر بعد أن صادفه شخص فضولي أمطره بالنصائح التي لم يجدِ معظمها نفعاً.
أيضاً حرص الممثلون على خلق مسافة بينهم وبين أبطال الفيلم، وسعى كل منهم إلى البحث من طريقة أداء تناسب العصر من ناحية، ولا تضعه، من ناحية أخرى، في مقارنة مع أبطال الفيلم الشهير.
كان عنصر التمثيل واحداً من أبرز عناصر العرض. اختار المخرج ممثليه بعناية، ووظف كل منهم في الدور المناسب، وأحكم سيطرته عليهم. نعم ترك لهم حرية الارتجال والخروج عن النص أحياناً، لكن ذلك كله جاء في إطار يميل إلى الانضباط والبساطة والابتعاد عن المبالغات اللفظية والجسدية، ويميل كذلك إلى خدمة دراما العرض. فنحن أمام ممثلين متمرسين يعرفون متى يرتجلون ومتى يتوقفون، وإن كانت اللعبة قد استغرقت بعضهم أحياناً مما أدى إلى نوع من الترهل النسبي، وهي مشكلة لا يخلو منها معظم العروض الكوميدية، ذلك أن الكوميديا مغرية، بخاصة في ظل استجابة الجمهور.
تعاون الممثلين
لعب هشام إسماعيل دور الموظف الطيب بخبرة ممثل كوميدي شاطر ومتزن، اتسم أداؤه بعدم المبالغة، تاركاً الموقف واللفظ يؤديان دوريهما بعيداً من الافتعال أو محاولة الاستحواذ على مساحة أكبر باعتباره بطل العرض وصاحب النصيب الأكبر فيه. تبدى ذلك في تلك المساحة التي أتاحها لذلك الشخص الفضولي أو "الحشري" بلغة المصريين (لعب دوره شريف حسني) الذي صادفه في الشارع واقترح عليه حلولاً عدة للتغلب على مشكلته من دون أن يطلب منه ذلك، وهي تركيبة كثيراً ما نصادفها في الشارع المصري. كان شريف حسني واحداً من أكثر العناصر تفجيراً للكوميديا. هو ممثل كوميدي من طراز فريد، تعيد المسرحية اكتشافه بعد أن لعب أدوراً صغيرة في "مسرح مصر" مع أشرف عبدالشافي.
هناك أيضاً عمرو رمزي الذي لعب دور الأمير، وعلى رغم أنها ربما تكون المرة الأولى التي يلعب فيها دوراً مسرحياً كوميدياً، فقد أدى دوره بسلاسة وحضور طيب من دون مبالغة أو سعي لحصد التصفيق. وبالمثل جاء أداء تامر فرج في دور مساعده الشخصي بحس كوميدي منضبط، وأحمد السلكاوي في دور ابن عم الأمير الساعي إلى اغتياله. وأدى كل من محمود فتحي، وجلال الهجرسي، ووفاء عبدالله، ورشا فؤاد، ومحمود يوركا، ومحمود الهنيدي، ورانيا النجار، ونهى لطفي، وشيماء عبدالقادر، وفهد سعيد، ومجدي عبدالحليم، أدوارهم بشكل جيد في حدود المساحات التي شغلوها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تضمن العرض نحو ستة مناظر، نجح مصمم الديكور حمدي عطية في تصميمها، أولاً بشكل واقعي مبهج، ونجح، ثانياً، في تغييرها بسلاسة وانسيابية، سواء من طريق إسقاطها من أعلى، أو إدخالها من الجانبين أو إدارتها على الوجه الآخر، وذلك كله أثناء الإنارة، مما أدى إلى الحفاظ على إيقاع العرض، وسهل كذلك من حركة الممثلين واستعراضات الراقصين التي صممها أسامة مهني. وأسهمت إضاءة أبو بكر الشريف في إظهار جماليات الديكور، وإضفاء الرؤية الواضحة للمتفرج.
أشعار العرض لطارق علي، الموسيقى والألحان لكريم عرفة، توزيع أيمن التركي. كلمات بسيطة من نسيج الدراما، وألحان تتماس مع طبيعة العرض في مرحه وشقاوته.
استطاع العرض اجتذاب شرائح من الجمهور ربما لا ترتاد عروض المسرح الرسمي، أو مسرح الدولة، ذلك أنه حقق المعادلة الصعبة، قدم كوميديا راقية بعيداً من الإسفاف والإفيهات اللفظية الفجة. وحقق فرجة مسرحية على قدر عال من الرشاقة والبهجة، وبأسعار دخول لا يتجاوز أعلاها 100 جنيه (ثلاثة دولارات) وهو ما لا يستطيعه المسرح الخاص، الذي يفرط، أغلبه، في كوميدياه إلى حد الابتذال، لأنه، في الأول والآخر، محكوم بحسابات المكسب والخسارة، حتى ولو على حساب المسرح نفسه.