ملخص
"تزه شا" رواية تجمع بين التخييل والفلسفة لترصد قضايا اجتماعية ووجودية شائكة
لحظة بالغة التعقيد تختلط فيها مشاعر اليأس والعجز واللاجدوى وانعدام المعنى. يضيق الكون على رحابته، فتذهب النفس بإراداتها المطلقة إلى الموت. هذه اللحظة اقتنصها الكاتب السعودي ياسر الغسلان في روايته "تزه شا" الصادرة حديثاً عن منشورات ضفاف – منشورات الاختلاف ، مفجراً أسئلة جدلية حول الحياة، الموت، الاختيار، القدر، والمصير. ومثيراً قضايا فلسفية واجتماعية شائكة.
قرر الكاتب أن يغلف بداية رحلته السردية بغلالة من الغموض، عبر اختياره عنواناً من لغة تخالف لغة النص، تبين من رموزها أنها مستدعاة من اللغة الصينية. ودفع عبر هذا الغموض بجرعة تشويقية، ضمن من خلالها تتبع القارئ لرحلة السرد، من أجل إزالة الغموض، واكتشاف الغاية والمعنى.
المدينة الفاضلة
خلق الغسلان فضاءً مكانياً متخيلاً، لا يُستدل منه على منطقة بعينها، فدولة "القبة" التي تدور بها الأحداث؛ لا معادل لها في الواقع، وإنما هي ابنة التخييل، منطقة انفصلت عن دولة كبيرة، وأسست نظاماً جديداً دعائمه؛ الحرية والتعدد واحترام القانون، وبالمثل احترام الاختلاف والخصوصية وحقوق الأفراد. لكن هذه الواحة التي شيدها الكاتب على غرار المدينة الفاضلة، لم تختف فيها آثام النفس الإنسانية وشرورها، فلم تحل فضائلها دون وقوع مواطنيها في الخيانة، والكذب والإدمان والعنف والإقدام على الانتحار، ليمرر الكاتب -ضمناً- رؤية مفادها؛ أن النقص وحده هو الأصل في طبيعة النفس الإنسانية، المجبولة على الخطأ.
انطلقت الأحداث من حادثة انتحار زوجة الراوي سليمة، ليعيش أستاذ الفلسفة بعد رحيلها حالة من الكآبة والحزن، جعلته يعقد العزم على المضي في الطريق نفسه، واللحاق بها بالطريقة ذاتها، غير أن الأحداث، إضافة إلى تكوينه النفسي؛ قادته إلى طريق آخر، تكشفت عبره المفاجآت.
هذه الرحلة التي اقتضت الإبحار في العوالم الداخلية للنفس الإنسانية، دفعت الكاتب إلى اختيار أسلوب السرد الذاتي، وضمير المتكلم من أجل تعرية هذه العوالم، واكتشاف أعطابها وتناقضاتها وما يعتمل فيها. وبينما تدفقت الأحداث في نسق أفقي، عاد الكاتب عبر الارتداد العكسي، وتقنية الفلاش باك إلى ما قبل حادثة الانتحار، ليضيء علاقة الراوي بزوجته، وحبه الشديد لها، مما أضفى هالة ضبابية أخرى، على قرار سليمة بمغادرة عالم، لها فيه زوج محب وحياة مستقرة وعمل ناجح. وهكذا بات السؤال: "ما الذي دفع بسليمة للانتحار؟"، محركاً رئيساً للأحداث.
تيار الوعي
واصل الغسلان نهجه في استجلاء أسرار النفس الإنسانية، وما يعتمل في دواخلها، عبر تيار الوعي. فبرز حضور كثيف للمونولوغ الداخلي، كان وسيلة ناجعة لرصد تحول الشخصية المحورية، لا سيما على الصعيد النفسي. فبينما بدأ الراوي من منطقة اليقين بحب سليمة له، انتقل إلى حالة من التشكك في حقيقة شعورها، تلته مكاشفة ذاته بأنها لم تحبه، ثم حالة من اللوم وجلد الذات والشعور بالمسؤولية عن انتحارها، وأخيراً صفح وتصالح مع النفس، تزامنا مع تكشف الحقائق. وكما كان المونولوغ الداخلي وسيلة لاستجلاء التخبط والحزن والاضطراب والتحولات التي عاشها البطل بعدما فقد زوجته، كشف أيضاً عن صراعاته الداخلية، وانقسامه بين تمسكه بالحياة ورغبته فيها من جهة، وبين رفضه لها وعزمه على إنهائها من جهة أخرى. "ما بالي إذن وانتحاري؟ هل نسيت الأمر أم هو نسيني؟ أم أن ما كنت أعتقده الطريق الصحيح لم يكن كذلك؟ ولكن سليمة انتحرت من أجلي وبسببي، أليس كذلك؟ سألت نفسي، لا أعلم، قلت بغضب. ربما، لا يهم الأمر الآن".
نزوع فلسفي
مع تدفق الأحداث تجلى ما غلف السرد من نزوع فلسفي، فقد مرر الكاتب جملة من التأملات والرؤى الفلسفية حول الموت، الحياة والحرية والاختلاف والحب والوعي والإيمان والحلم والأمل والتغير والتطور. وأثار قضايا فلسفية أخرى، مثل ضرورة اعتماد الشك منهجاً للعقل بهدف الاستدلال على الحقائق. وعلى رغم أنه جعل المحاضرات التي كان يلقيها الراوي على طلابه، بحكم عمله أستاذاً جامعياً لمادة الفلسفة، وكذلك أوراق طلابه، وطروحاتهم، ومناقشاته مع زملائه وأصدقائه؛ منفذاً تسللت عبره تلك الرؤى، والتجاذبات الفلسفية، فإن إفراطه في استدعائها وتمريرها عبر طيات النسيج، أثقل السرد -أحياناً- ونال من انسيابيته.
ولم يبرز حضور الفلسفة عبر القضايا والرؤى التي طرحها الكاتب وحسب، وإنما برز أيضاً عبر ما استدعاه من أقوال وأسماء لأشهر الفلاسفة، في عصور مختلفة مثل أرسطو وأفلاطون وفولتير ولودفيغ فيورباخ وآرثر شوبنهاور وفرانسيس بيكو وغيرهم.
موضوعية السرد
لجأ الكاتب إلى تقنية الحوار، لتطويع ما ساقه من زخم معرفي وفلسفي داخل النص، ومن أجل إبطاء السرد، على نحو يتيح للقارئ فرصة تأمل ما أُثاره من قضايا. وربما كان حرياً به اعتماد الاختزال، والاقتصاد اللغوي، في غير موضع لتسريع الإيقاع السردي، وتعزيز جمالية الحوار. وعلى رغم أنه تمكن عبر هذا الديالوغ من تعزيز الإيهام بآنية الحدوث، وأتاح مساحات حرة للشخوص الثانوية، كي تتحدث بصوتها، مما أضفى مزيداً من الموضوعية على السرد، وأتاح رؤية أكثر شمولية، فإنه لم يبرز تعدداً في الخطاب اللغوي يناسب مقتضى الحال، ويتسق مع تنوع الشخوص، واختلاف مرجعياتها. فكان فرج المشرد المتسول يستخدم اللغة ذاتها، التي يستخدمها ريان أستاذ الجامعة. وقد حاول الكاتب تبرير ذلك، عبر إبرازه ثقافة المتسول واهتمامه بالقراءة.
وإضافة إلى ما أثاره الغسلان من قضايا ورؤى فلسفية، رصد العديد من القضايا الاجتماعية الشائكة، التي لم تتغلب عليها حداثةٌ ولا تشريع، مثل التحرش والنظرة الدونية للمرأة، التي تحد من قدراتها، وتختزلها في جسد جميل، خلق ليتنعم به الرجال. "مشكلتي تشبه ما تعانيه مريم... لا أعلم إن كنت سأنتحر... لا يمكن أن أستمر هكذا حيث لا أكون في نظر من حولي إلا باعتباري سلعة ووسيلة واقتناء".
وتطرق إلى قضية التطرف والعنف اللذين يلجأ إليهما البعض، لمواجهة الأفكار لمجرد أنها تنم عن اختلاف. وقدا بدا هذا العنف على المستوى الجسدي، فيما قام به أحد الطلبة من هجوم على أستاذ الفلسفة واتهامه بالإلحاد، اعتراضاً على آرائه في قضية الإيمان. وبدا مرة أخرى على المستوى اللفظي، حين أوصى أحد الفنانين لطيفة بضرورة اعتزالها الرسم، والبحث عن مهنة أخرى، فعزز لديها شعور الفشل، الذي كاد أن يقضي على مسيرتها الفنية، وعلى حياتها أيضاً. وأحال الكاتب مرة أخرى إلى القضية ذاتها بالإشارة إلى العدائية المفرطة على وسائل التواصل الاجتماعي، والشعور بالفوقية، ومحاولات إقصاء الآخر.
تطرق النص إلى قضايا أخرى مثل الإدمان والمقامرة، والتحرش. وأبرز الكاتب -ضمناً- رؤى تحيل إلى سبل الانعتاق، التي تعتمد بالأساس على البوح ومكاشفة الذات. وقد عمد إلى استدعاء حضور صريح للقارئ داخل النص، وجعله واحداً من شخوصه، فتوجه له مراراً عبر أسلوب الخطاب، ليزيد من حالة التماهي ويكسر سكونية عملية التلقي، من دون أن يؤثر على استقلاليتها.
لمحات من الفانتازيا
في رحلة الراوي للبحث عن الأسباب التي دفعت سليمة للانتحار، لجأ إلى جلسات الوساطة الروحية، وتحضير الأرواح، فكانت هذه الجلسات رافد الفانتازيا في النص. وفضلاً عما حققته من زيادة جاذبية ومتعة السرد، أتاحت رصد تناقضات النفس، التي تتراوح بين الانحياز للعلم، والجنوح إلى الخرافة، وكانت كذلك وسيلة الكاتب لتفسير عنوان النص، والإعلان عن ماهية "تزه شا"، وعلاقتها بالأحداث والشخوص. ولم تكن هذه الجلسات رافداً وحيداً للفانتازيا، فقد أضفى الكاتب على فضائه المكاني بعض السمات الغرائبية، كأن تحمل العملة المستخدمة فيه اسم "حريات"، وكما استخدم الفانتازيا، استخدم أيضاً الرمز، فكان ما رآه ريان خلال الجلسة الروحية (مفتاح، فراش، وردة توليب سوداء)؛ رموزاً استبق بها الكاتب، حملت دلالاتها حل لغز انتحار سليمة، الذي أرجأ الكشف عنه حتى نهاية السرد. وقد لجأ للمزيد من الحيل الاستباقية لزيادة التشويق. فاستبق بوصية الأم الصينية لابنتها بحرق "تزه شا"، وباكتشاف البطل قرضاً استدانته سليمة من عملها، وكذلك عثوره على حبوب منع الحمل في حقيبتها، والرسائل مجهولة المصدر. وأرجأ الغسلان تفسير كل تلك الأحداث للمحطات الأخيرة من السرد، والتي بلغ معها نهاية تنتصر للحياة مقابل الموت.