ملخص
مخرج فيلم أوبنهايمر يضعه ضمن الكلاسيكيات الكبرى في هوليوود، ويعتبر أنه العمل الأضخم في مسيرته التي تتضمن مجموعة أفلام حظيت بمكانة مرموقة من النقاد والجمهور العالمي. ويشير الممثل الرئيس في الفيلم إلى أن دوره نقطة تحول في مساره المهني والشخصي
يصرح المخرج كريستوفر نولان من دون أن تشوب صوته أدنى نبرة تهكم، "أعتقد أن فيلم ’أوبنهايمر‘ Oppenheimer أضخم عمل صنعته على الإطلاق". إنه ادعاء مذهل من شخص أخرج بعضاً من أكثر الأفلام شهرة خلال السنوات الـ15 الماضية، لكنه ادعاء غير دقيق. في قلب دراما السيرة الذاتية التي نهض ببطولتها الممثل كيليان ميرفي في دور الرجل الذي دبر ولادة القنبلة الذرية، تكمن حقيقة بضخامة الكوكب. حينما اختبر ذلك السلاح للمرة الأولى، وتعرف تلك الحادثة الآن باسمه الرمزي "ترينيتي"، ظهر احتمال بأنه قد يمحو البشرية من الوجود. ومن شأن احتمال مثل هذا، في ذلك الوقت أن يردع ربما معظم الناس عن المضي قدماً، لكن ليس أوبنهايمر. فقد ضغط على الزر، مهما كان الحال.
ويتحدث نولان عن الفيلم الذي كلف إنتاجه 100 مليون دولار (ما يعادل 77.7 مليون جنيه استرليني) بعد يوم واحد من عرضه عالمياً للمرة الأولى في باريس، "لم يكن من المستطاع أن يأتي الفيلم الذي أردت صنعه بحجم أصغر. لا يتعلق الأمر بالمال، ولا بالميزانية، إذ إن حجم القصة هو ما جذبني إليها. حقيقة أن أوبنهايمر وزملاءه العلماء لم يتمكنوا تماماً من إلغاء احتمال أنهم قد يشعلون النار في الغلاف الجوي ويدمرون العالم بأسره، لكنهم مع ذلك أجروا الاختبار، فكرة انخراط شخص ما بهذه المخاطرة نيابة عنا جميعاً وعن جميع أحفادنا. لا يوجد شيء أكبر من ذلك".
مع ذلك، تعلق أمر الفيلم كله بمسألة العثور على الشخص المناسب لإحياء شخصية أوبنهايمر. لقد سبق للمثل ميرفي، 47 سنة، التعاون مع المخرج خمس مرات تشمل ثلاثية "فارس الظلام" Dark Knight (بين عامي 2005 و2012) و"تحميل" Inception (2010)، و"دنكيرك" Dunkirk (2017)، ولكن في أدوار غير رئيسة، بالتالي فقد شكل دائماً ضيف شرف في أعمال نولان، وليس الوجه الأبرز فيها. هذه المرة، طلب لأداء المهمة الرئيسة. وفي أحد الأيام الباردة من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2021، تلقى الممثل الإيرلندي مكالمة من نولان يبلغه بذلك. وجاءت إجابته على الفور بأن نعم.
أخبرني ميرفي الذي بدا عليه التعب واضحاً في اليوم الأخير من الجولة الصحافية للفيلم أثناء استعداده لمغادرة المملكة المتحدة بعد العرض الأول في غضون 24 ساعة، برفقة زملائه النجوم، تضامناً مع إضراب الممثلين في هوليوود، "بطريقة نموذجية من [المخرج] كريس، لم يخبرني أنه شرع في كتابة سيناريو. لم تكن هناك مقدمات ولا تنبيه. اتصل بي فجأة، وقال لي ’هل ترغب في تجسيد دوره؟‘ سأكون كاذباً إذا قلت إنني لم أرغب بشدة في لعب دور بطولة في أحد أفلامه [المخرج كريس نولان]. أعتقد أن أي ممثل في العالم سيرغب في العمل مع كريس، مهما كان حجم الدور. كان هذا بمثابة حلم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لطالما اعتبر نولان أحد المخرجين الممتازين في العالم. وبعد اقتحام مشهدية السينما المستقلة مع فيلمي "تتبع" Following (1998) و"تحميل حلم" Inception (2000)، قدم نولان المولود في لندن العملين الناجحين "بداية باتمان" Batman: The Beginings (2005) و"العظمة" The Prestige (2006)، مظهراً قدرته على توجيه مشاريع من أي حجم إلى النجاح التجاري والنقدي على حد سواء. ومع حلول الوقت الذي أصبح فيه "فارس الظلام" الفيلم الأكثر ربحاً لعام 2008، أسلمت هوليوود له مفاتيحها.
واستطراداً، يشكل "أوبنهايمر" الفيلم الـ12 للمخرج نولان. وقد يمثل عمله الأقل ميلاً إلى الطابع التجاري حتى الآن، إذ يتكون من شريط مدته ثلاث ساعات يحتاج إلى كثير من الجهد والتركيز المضغوط لفهمه، وصور جزئياً بتقنية الأبيض والأسود، وتروى قصته، وفق ما خمنتم بالفعل، بطريقة غير متسلسلة، إذ يشتهر كريس بأنه ككاتب ومخرج يختار تجنب الصور المنشأة حاسوبياً لمصلحة المؤثرات العملية. لقد استخدم ممراً دواراً صنع من أجل فيلم الإثارة المحير للعقل "تحميل حلم"، وجلب بوارج حقيقية أثناء تصوير دراما الحرب العالمية الثانية "دنكيرك"، وحطم طائرة [بوينغ] "747" حقيقية في فيلم "مبدأ" Tenet المعقد (2020). وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من أجل "أوبنهايمر"، وأعاد إنشاء انفجار ذري.
وببساطة، تمثل أحد التحديات التي وضعها نولان لنفسه في التمكن من صنع الفيلم بالطريقة التي يريدها، إذ لا تصور تلك الرؤية قنبلتي هيروشيما وناغازاكي اللتين تسببتا في كل تلك المعاناة والدمار، إذ يقدر أنه قتل ما بين 129 و226 ألف شخص في التفجيرين، ما ترك صدمة دائمة لا تزال تؤثر في اليابان (ويمكن القول، على العالم بأسره). حتى يومنا هذا، لم ينخرط صناع الأفلام الغربيون إلا جزئياً في الأهوال الحقيقية للقنابل الذرية. وهذا العمل يشكل تأويل نولان لقصة "أوبنهايمر".
بالنسبة لكيليان ميرفي، جاء الشريط بمثابة لحظة مهمة في مسيرته السينمائية. في وقت سابق من هذا الشهر، أخبره الممثل روبرت داوني جونيور الذي يشاركه بطولة "أوبنهايمر" أن حياته ستتغير الآن بعد اختياره بطلاً لـ"هذا الفيلم الضخم". ومع ذلك، بدت فرضية أن هذا الدور سيعلن انطلاقة ميرفي، محيرة للبعض. ففي نهاية المطاف، ظهر الممثل على الساحة منذ أكثر من عقدين من الزمن في فيلم الرعب "بعد 28 يوماً" 28 Days Later (2002) الذي تدور أحداثه ما بعد نهاية العالم للمخرج داني بويل. بعد ذلك، اكتسب شهرة عالمية في دور ستيفين نايت بطل مسلسل العصابات التاريخي "بيكي بليندرز" Peaky Blinders الذي تعرضه "بي بي سي" في المملكة المتحدة و"نتفليكس" عالمياً. كيف رأى ميرفي اقتراح داوني جونيور؟
يقدم ميرفي شرحه عن ذلك، "بصراحة، وأنا أعلم أن كل ممثل يردد هذا الكلام لدرجة مزعجة، لكنني لا أفكر في ذلك. إن ’بيكي بليندرز‘ ظاهرة، إذ يشاهده الناس في جميع العالم ويعشقونه. في المقابل، لا يمكنك أبداً التفكير في هذا الجانب الثانوي من العمل، لأنك لن تؤديه بالشكل الصحيح حينها".
أدت معرفة نولان "الموسوعية" بمسألة أوبنهايمر إلى حماية ميرفي من أن يدرك بشدة أي ضغوط يواجهها مخرجه. بدلاً من ذلك، بحث ميرفي عن طريقة "للتواصل مع حقيقة" أوبنهايمر "والعثور عليها في كل لحظة" من الفيلم. وأثناء استعداده لأداء دوره في الفيلم، شاهد ميرفي الشريط الملحمي "لورنس العرب" Lawrence of Arabia (1962) للمخرج ديفيد لين (والمفضل لدى نولان) "من حيث الحجم وقصة الحياة". كذلك تضمنت قائمة ما توجب عليه [ميرفي] مشاهدته أيضاً فيلم ’أماديوس‘ Amadeus (1984) للمخرج ميلوش فورمان، "من أجل مراقبة سالييري وموتزارت، وهذا النوع من العلاقة التنافسية" التي تردد صداها في تعامل أوبنهايمر مع فاعل الخير الزئبقي لويس شتراوس (يؤديه داوني جونيور)، وهو شخصية تصبح معيقة بشكل متزايد في حياة أوبنهايمر في السنوات التي أعقبت اختراعه القنبلة.
يتألف كل بقية الفريق التمثيلي الداعم للممثل ميرفي من وجوه معروفة في هوليوود. يشارك مات ديمون في ظهور متجهم بدور ليزلي غروفز، مدير "مشروع مانهاتن"، وإميلي بلانت كزوجة أوبنهايمر الصابرة بشكل مثير للإعجاب، وفلورنس بيو في دور جين تاتلوك، الطبيبة النفسية التي دخلت في علاقة خارج نطاق الزواج مع أوبنهايمر. ويؤدي أدوار العلماء المتعددة (هناك كثر منهم) ممثلون من بينهم جوش هارتنيت وبيني سافداي وديفيد كرومهولتز وكينيث براناه. وكذلك يزيد بهاء العمل مع وجود توم كونتي في دور ألبرت أينشتاين، وغاري أولدمان في دور زعيم عالمي آخر بعد تجسيده دور تشرشل في فيلم "الساعة الأشد حلكة" Darkest Hour، إذ يؤدي شخصية الرئيس الأمريكي هاري ترومان.
وبالتالي، أدى تجميع هذا الفريق التمثيلي الضخم حول ميرفي إلى مساعدته على نقل العظمة التي كان نولان ينشدها. ووفق كلماته، "الحجم في السينما شيء غريب. هل يأتي من الأكشن والمؤثرات؟ أم أنه يأتي من تجمع أكثر الممثلين إثارة في الوقت الراهن، بغية سرد قصة تدور حول لحظة يتغير فيها العالم إلى الأبد؟".
في الواقع، بالنسبة إلى هذا الفيلم المكلف، جاء "أوبنهايمر" محملاً بالحوارات بشكل مدهش. لقد قارنت المراجعات النقدية المشاهد التي تركز على جلسات الاستماع التي تستكشف مشاركة أوبنهايمر في "مشروع مانهاتن" بمشاهد مماثلة في فيلم "جون إف كينيدي" JFK للمخرج أوليفر ستون (1991) و"نيكسون" Nixon (1995) - وهناك بصمة واضحة للمخرجين آلان باكولا وسيدني لوميت في حبكة التشويق السياسي للفيلم. يضاف إلى ذلك أنه فيلم مملوء تماماً باللقطات القريبة غير المريحة. وفي بعض المشاهد، تشعر كأنك قادر على لمس عظام وجنتي ميرفي البارزتين في حال مددت يدك وحاولت ذلك.
على كل حال، يشعر ميرفي بالقلق من التذكير بأن وجهه سينتشر على شاشات السينما طوال الصيف في جميع أنحاء العالم، في الصالات التي تعرض الأفلام بتقنية "آي ماكس" ذات الدقة العالية، وليس أقل من ذلك. ووفق كلماته، "أحب مشاهدة أفلام كريستوفر نولان حينما لا أكون فيها. وحينها، لا يتوجب عليك القلق حيال حجم أذنيك أو أي شيء آخر. أنا لا أصنع أفلاماً كي أتمكن من النظر إلى نفسي. لا أفعل هذا حقاً، لكن على رغم قولي هذا، رغبت بالفعل في مشاهدة هذا الفيلم مع الجمهور، لأنه مصمم بهذه الطريقة".
بالأحرى، إنها طريقة تصميم كل شريط من أفلام نولان. لكن، مع القوة العظيمة تأتي الحاجة إلى النجاح في شباك التذاكر. يمكن أن ينظر إلى هذا على أنه نتيجة طبيعية لإنتاج مثل هذه الأفلام الكبيرة.
لقد سألت نولان عن مدى شعوره بأن هذا المقياس سيكون اختزالياً حينما يتعلق الأمر بقياس النجاح الحقيقي للفيلم. وأجاب، "ليست لديَّ إجابة صادقة عن هذا السؤال"، قبل أن يتناول المسألة بصدق إلى حد ما، إذ أضاف "إنه مزيج من العوامل. يتمثل دافعي في أن أحكي قصة، لكنني لست مخرجاً يعمل في الفراغ. أنا لست صانع أفلام يخرج أفلاماً لنفسه وحدها. أنا أصنع فيلماً أرغب في تجربته مع الجمهور، وأنا أصنعه بميزانية على مستوى، حيث يتعين عليك حقاً محاولة العثور أكبر أعداد من الجماهير. أنا أستمتع بهذا الشكل من التواصل. أعتقد أن الفيلم الهوليوودي الذي يحرز رواجاً ضخماً يستطيع، في أفضل حالاته، الوصول إلى الناس بطريقة لا يستطيع فعلها سوى أشكال فنية أخرى قليلة، بما في ذلك الأنواع السينمائية الأخرى، في جميع أنحاء العالم. علاوة على ذلك، تميل أرقام شباك التذاكر إلى أن تكون محض فكرة مجردة".
في سياق متصل، جاء المشروع بمثابة انطلاقة مهمة للكاتب والمخرج [كريس نولان] لأنه فيلمه الأول الذي يركز على شخصية حقيقية. على رغم استناده إلى كتاب السيرة الذاتية "بروميثيوس الأمريكي" (نشر في عام 2005) كمصدر للفيلم، فقد وجد كريس أنه لا يزال يتعين عليه استيعاب مدى قوة أوبنهايمر العقلية. يفسر ذلك السبب في أن الجزء الأوسط من الفيلم، الذي يركز على بناء مختبر سري للغاية في صحراء نيو مكسيكو، حيث يستطيع أوبنهايمر وفريقه تصميم القنبلة واختبارها، جاء بمثابة استراحة للمخرج نولان.
ووفق ذلك المخرج، "لقد امتلك أوبنهايمر مستوى ذكاء مختلفاً تماماً عن أي شخص نعرفه، لكن من المفيد النظر إلى تعيينه مخرجاً، بالمعنى الحرفي [في اللغة الإنجليزية تستعمل الكلمة نفسها للمخرج والمدير]، في مختبر "لوس ألاموس"، وإدراك أن ما أسند إليه خلال تلك السنوات الثلاث، تمثل في تجميع هذه المجموعة المتباينة من المواهب. لم يكن أذكى شخص بينهم، لكنه الرجل الذي وحد الجميع بغية تحقيق الاستفادة القصوى من مواهبهم. هذا بالتأكيد ما يجب أن أفعله أنا كمخرج".
على رغم إنتاجه أفلاماً رائجة تتطلب منه جهداً جباراً لفترة طويلة من الوقت، فإن نولان لا يظهر أي نأمة من الإرهاق. إنه مخرج يصدر باستمرار أفلاماً جديدة كل ثلاث سنوات، وغالباً ما يباشر العمل في الأشهر التالية بعد الانتهاء من آخر فيلم. هل سيستمر هذا الانتظام في المضي قدماً؟ يبدو أن الاستراحة ليست في الأفق بعد. ويصف نولان ذلك، "أجد صعوبة في تخيل عدم الرغبة في صناعة الأفلام"، بحماسة طفولية تخترق الجدية للحظات، "سأفعل هذا طالما أن شخصاً ما سيدعمني في إنجازه".
في النهاية، حينما يؤتي هذا المشروع ثماره، يمكنكم المراهنة على أن ميرفي "سيجيب دائماً بنعم" إذا اتصل به نولان، حتى عنى ذلك الاضطرار إلى تحمل رؤية وجهه معروضاً على شاشات عملاقة. وبحسب كلمات ذلك الممثل، "لا يخلو مشروع من المخاطر، لكن إذا عملت مع أحد أعظم صانعي الأفلام من الأحياء، أعتقد أنك ستمتلك فرصة جيدة لمعرفة أنه سيكون جيداً".
في المقابل، قد يأتي الانتظار بشكل أطول قليلاً من مجرد إصدار "أوبنهايمر"، إذ يقر نولان بأن الاستمرارية بعد مشروع بهذا الحجم، تتطلب بعض الجهد. ووفق كلماته، "يصبح من الصعب بعض الشيء العثور على مواضيع مختلفة بما فيه الكفاية، وتأتي في الوقت نفسه لتشكل إضافة إلى ما تعلمته كمخرج. ولذا، تجد أنك تتروى إلى حد ما، لكنني أحب صناعة الأفلام. ومن حيث الميزانية، سأصنعها على أي مستوى أستطيع الوصول إليه. إنه شيء سأفعله دائماً".
يعرض "أوبنهايمر" في دور السينما حالياً.
© The Independent