Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رواية تاريخية للبرتغالي ساراماغو حركت غيظ اليمين الإسرائيلي

"تاريخ احتلال لشبونة" بين الواقع وحرية المبدع في ابتكار مواقفه وحقائقه

لوحة تصور حصار لشبونة بريشة روكي غاميرو (متحف لشبونة)

ملخص

"رفض موارب لما فعله الصهاينة بالعرب لدى استيلائهم على فلسطين التاريخية"

من المعروف أن الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو كان مغضوباً عليه في إسرائيل، في الأقل خلال السنوات الأخيرة من حياته إلى درجة أن سياسيين يمينيين وصلوا إلى حد المطالبة بمنعه من دخول أراضي الدولة العبرية، وعزا المراقبون ذلك إلى مواقف مشاكسة عديدة اتخذها ضد الصهيونية وإسرائيل ولا سيما خلال زيارات قام بها إلى هناك، ولكن كان ثمة دائماً بين المراقبين من أكدوا أن "العداء الإسرائيلي" لساماراغو يعود إلى ما قبل ذلك، وربما بالتحديد إلى أواخر الثمانينيات وقبل حصوله على جائزة "نوبل" حين أصدر واحدة من رواياته الأكثر عمقاً بعنوان "تاريخ حصار لشبونة". فما علاقة هذه الرواية بإسرائيل؟ وما الذي أغضب الإسرائيليين فجعلهم يصرون على أنيابهم متحينين الفرص للانقضاض على كاتب رأوه منتقداً وجود إسرائيل نفسه واستيلائها على فلسطين من دون أن يدرك كثر كيف ولماذا؟

 

تلاعب!

لقد تولى بعد ذلك الإجابة عن هذا السؤال المتشعب ناقد أدبي إسرائيلي هو نعوم ليفنهوف الذي نبه، ومن موقع المؤيد لخطاب ساراماغو في الرواية، إلى مدى ما في هذه الأخيرة من "رفض موارب لما فعله الصهاينة بالعرب لدى استيلائهم على فلسطين التاريخية"، وهو رفض يمكننا أن نربطه، على ضوء هذا التحليل، ليس بالموقف السياسي التاريخي العام لرواية تحاول أن تشتغل على التاريخ، ليس من موقع المشاكسة عليه وعلى صحة ما يرويه، بل من موقع التلاعب فيه وإن بدا هذا التلاعب غير مقصود من جهة، وغير ذي جدوى من جهة ثانية، ولعل ما يمكن أن يحير في هذا السياق هو أن راوي هذا المتن الأدبي وبطله، وربما الناطق بالتالي بلسان ساراماغو، لا يبدو عليه أنه يدرك تماماً ما يفعله حين يحاول المشاغبة على التاريخ عبر تبديله كلمة واحدة في "وثيقة تاريخية" تقلب معناها، حتى وإن كانت لا تحدث أي تغيير في واقع الأحداث، مع أنها قد تكون المسؤولة عن إحداث تبدل جذري في حياة البطل - الراوي نفسه، وهنا كيلا يبدو ما نقوله نوعاً من كلمات متقاطعة بالغة الصعوبة، نعود إلى أحداث الرواية نفسها كما كتبها خوسيه ساراماغو.

 

بين التاريخ والأدب

وأحداث الرواية حتى وإن كانت تتناول منذ عنوانها حدثاً تاريخياً يعود بالزمن نحو تسعة قرون إلى الوراء، ليروي لنا ذلك الواقع التاريخي الذي يتناول حصار البرتغاليين المسيحيين بقيادة ملكهم دون ألفونسو إنريكيس مدينة لشبونة التي كانت في ذلك الحين حاضرة عربية مزدهرة تتعايش فيها الثقافات والأديان كما حال مدن الأندلس التي كانت ترتبط بها، ولكن ها هم أولاء "النصارى" يتطلعون إلى استعادتها اليوم، وتلك الاستعادة التي تمر عبر حصار المدينة تعتبر على أية حال فصلاً معروفاً في التاريخ البرتغالي، إذ يعتبر الفصل المؤسس لتلك الدولة، فصلاً ستتلوه فصول متعددة تنهي الوجود العربي - الإسلامي في الجزيرة الإيبيرية. إذاً، لئن كانت الرواية منذ عنوانها تحكي عن ذلك كله، فإنه ليس موضوعها الأساسي، فنحن هنا لسنا في إزاء رواية تاريخية ولا حتى في إزاء تاريخ أسبغ عليه بعد تخييلي، بل أمام رواية معاصرة وربما يصح القول إن موضوعها راهن ولكن علاقته بالتاريخ عميقة، وهذا ما يتجلى على أية حال من خلال ما يحكيه لنا الراوي رايموندو دا سيلفا، ودا سيلفا هذا ليس في حقيقة أمره سوى مصحح كتب يعمل في زمننا الراهن لدى إحدى مؤسسات النشر، وإذ كانت هذه المؤسسة تريد إصدار طبعة جديدة عن حكاية الحصار التاريخي للمدينة البرتغالية، فالأمر لا يعد كونه روتينياً أول الأمر.

لماذا قال الصليبيون "لا"؟

فذلك التاريخ الذي يدرس عادة حتى لطلاب المدارس الثانوية والابتدائية، تاريخ معروف لا جدال فيه يروي كيف أن الملك ألفونسو جمع قواته وتطلع إلى حصار المدينة طارداً مسلميها وعربها منها فارضاً على من يريدون البقاء أن يتنصروا يهوداً كانوا أو عرباً، ولكن الملك لمعرفته أنه وقواته غير قادرين وحدهم على إنجاز المهمة، يتوجه نحو قوات صليبية كانت في طريقها إلى "الأرض المقدسة" ويتألف معظم جنودها من الألمان، طالباً منها عبر رسالة ملكية تقديم يد العون لبلوغ "ذلك الهدف المقدس"، في التاريخ المعروف والمتداول يستجيب الصليبيون لنداء ألفونسو ويهرعون لنجدته بعد أن يبعثوا إليه رسلاً يخبرونه أن "الصليبيين سيساعدون إخوتهم في الدين للوصول إلى غايتهم"، وحتى الآن كل هذا موثق تاريخياً ومعروف ويشكل جزءاً أساسياً من التاريخ القومي البرتغالي، فما بال رايموندو دا سيلفا إذاً يستبدل وهو يصحح الطبعة الجديدة والمعاصرة لنا من ذلك النص التاريخي كلمة واحدة في الرسالة الصليبية التي يتلقاها ألفونسو مما يبدل المعنى جذرياً، إذ باتت الرسالة تقول إن "الصليبيين لن يساعدوا إخوتهم في الدين..." للوصول إلى تلك الغاية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هنا تبدأ الرواية

والحقيقة أن الرواية الحقيقية التي يكتبها ساراماغو تبدأ هنا تحديداً، تبدأ من ذلك التبديل الذي يحدثه رايموندو من دون أن يكون قد خطط له أو قصده. بالنسبة إليه كان فعلاً عابثاً مجانياً يكاد يشبه ما فعله ميرسو، بطل "غريب" كامو حين قتل الشاب العربي على ساحل وهران الجزائرية، ولسوف يبقى رايموندو على مجرى الرواية عاجزاً عن تفسير ما فعل بل حتى عن إعطائه أي معنى، وصحيح هنا أن ذلك التبديل سيستدرك من قبل محرري دار النشر حتى وإن كان الكتاب قد انتهى طباعة بالفعل، مما يجعلهم وبكل بساطة ينبهون القارئ عبر صفحة تضم إلى الطبعة الجديدة قائلة له إنه يعرف، في مطلق الأحوال أن الصليبيين قد ساعدوا البرتغاليين وتمكنوا معهم من احتلال لشبونة وإفراغها من سكانها المسلمين، فلا التاريخ تضرر مما فعله رايموندو، ولا البرتغاليون تأذوا، لكن الحكاية برمتها، على رغم عبورها المنطقي كان لا بد لها أن تحدث تغييراً في حياة ومسار رايموندو نفسه، ومن حيث لم يكن ليتوقع. فالحال أن دار النشر، وبغية استدراك ما قد يجري على الشاكلة نفسها في نشرهم أعمالاً مستقبلية، أتت برئيسة لقسم التصحيح تدعى ماريا سارا، ولما كان ذهن هذه المثقفة متفتحاً، شعرت بأن ما فعله رايموندو وربما "عن غير قصد" أمر مسل، فراحت تستمتع بالتأمل فيه، وبالتأمل عبره في سيرورة التاريخ الحقيقي متسائلة حول الكيفية التي سيكون عليها مجرى التاريخ، وربما تاريخ لشبونة نفسها ومن خلالها تاريخ البرتغال لو أن الصليبيين استنكفوا كما تقترح "غلطة" رايموندو، عن مساعدتهم على "استعادة" ديارهم، وانطلاقاً من هنا، وفي الوقت الذي بدأت فيه ماريا علاقة عاطفية برايموندو على ضوء ما أمتعتها به غلطته، تحدته في أن يعيد كتابة تاريخ لشبونة انطلاقاً من فكرته العبثية.

سر الغضب الإسرائيلي

لكن الأمور لم تقف عند هذا الحد، وذلك لأن رايموندو الذي أدرك أن تدخل ماريا هذا وعلى رغم طابعه التهكمي، بدأ يحدث تغييراً في حياته نفسها، راح يخلق نوعاً من حكاية جديدة في نصه الجديد، تستقي ربما من حكايته الجديدة مع ماريا، بحيث ومن دون إحداث أي تغيير في المجرى الرسمي للتاريخ، قد يكون منطقياً إعادة الاشتغال عليه ولو في أبعاد جانبية، وهكذا رأيناه يرسم لنا في النص الجديد حكاية غرامية بين صبية ريفية برتغالية تدعى أوروانا وجندي ألماني هو "في روايته الجديدة من قلة من جنود صليبيين ألمان انضموا بالفعل إلى القوات الملكية البرتغالية بعد متابعة الجنود الألمان طريقهم إلى الديار المقدسة رافضين تقديم العون للبرتغاليين". مهما يكن، فإن هؤلاء يتمكنون من احتلال لشبونة في نهاية الأمر "لأن لا أحد ولا حتى الفن الحقيقي يمكنه أن يبدل من وقائع حدثت حقاً" لكن في إمكانه "أن يعيد تفسيرها كما يعيد الاشتغال على مصائر أكثر خصوصية من تلك التي يرويها التاريخ".

فهل يمكننا أو لا يمكننا القول إن رايموندو ربح رهانه الذي واجهته به ماريا؟ لن يبدو هذا واضحاً في الرواية، ولكن الواضح وبكل قوة هو ذلك التقابل المزدوج: من ناحية بين حكايتي الغرام المنتمية إحداهما للحاضر والثانية للماضي واللتين تقوم الرواية برحلة مكوكية بينهما، ومن ناحية ثانية بين الواقع التاريخي المنتمي بدوره إلى الماضي يقابله تأمل التاريخ على ضوء الزمن الراهن، ومن الواضح أن هذا البعد الأخير هو ما أثار حفيظة الإسرائيليين اليمينيين ضد ساراماغو فاعتبروه عدواً لهم يحاول التشكيك الجدي بما تقوم عليه أسس أيديولوجيتهم بأكملها.

المزيد من ثقافة