Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لغة القسوة... عندما تبنى السودانيون مفردات الحرب

معجم التعاملات اليومية يتبدل وحتى طريقة ووقت النوم والاستيقاظ والخروج والدخول والطعام والزيارات

ملخص

في محاولة للتعايش مع واقع الحرب شاع عديد من المفردات وليدة عنف المعارك.

مع دخول الحرب في السودان شهرها الخامس، لم تغب بصماتها على تفاصيل حياة الناس اليومية التي اكتسبت مفردات جديدة تسربت من ميادين القتال وأفواه المتقاتلين فالتقطتها مجتمعات الشباب ونشرتها وسائل التواصل الاجتماعي.

وسط استمرار دوي المدافع والقصف الجوي والأرضي بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، تعج منصات وسائل التواصل بالملاسنات وحملات التخوين بين أنصار مصطلحي "البل بس" أو دعاة الحرب والحسم العسكري، و"لا للحر" المطالبين بالإنهاء الفوري للمعارك التي عمقت مأساة السودانيين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في محاولة للتعايش مع واقع الحرب شاع عديد من المفردات وليدة عنف المعارك، لكنها تسربت إلى قاموس العامة من الناس، مثل مفردة "البل" التي هي في الأصل تعود للبل بالماء، لكن "بل" العدو يعني الإغراق حتى الموت، أما مصطلح "الجغم" ذي الصدى الأوسع فيبدو أكثر عنفاً وقساوة في مضمونه، لأنه يعني القتل والإهلاك كأن يقال فلان "إنجغم" أو "جغم" أو "تم جغمه بنجاح" أي قتل، لكن المفردة خرجت من ميدان الحرب إلى الحياة المدنية، وباتت تستخدم في الإشارة إلى الهزيمة بشكل عام.

من أبرز العبارات التي كان يرددها جنود وضباط قوات "الدعم السريع" (زايلي ونعيمكي زايل) وهي عبارة أقرب إلى أن تكون مثلاً شعبياً، وتعني أن "الدنيا زائلة لا محالة"، ويطلقونها على سكان الخرطوم الذين ضاع أمنهم وأظلمت دنياهم وتبددت حياتهم العادية، كما على كل شخص قتل أو بدلت الحرب أحواله.

سرعان ما تسربت هذه العبارة لتجد طريقها إلى أفواه المواطنين، حتى باتت تستخدم في كل كثير من مواقف تبدل أحوال المتضررين من الحرب، أو داخل مراكز الإيواء التي جمعت الأثرياء والفقراء معاً، ثم أخيراً بدأ المصطلح ذاته يوجه إلى أفراد "الدعم السريع" أنفسهم، يردده المواطنون المغبونون أو حتى جنود الجيش أمام خسائر "الدعم السريع" وقتلاهم.

ناس الشجرة

من المفردات التي اكتسبت شهرة وسط المجتمع مصطلح "ناس الشجرة" الذي راج استخدامه بعد فيديو الفريق عبدالفتاح البرهان عقب إشاعة أسره بواسطة قوات "الدعم السريع"، إذ ظهر قائد الجيش في هذا المقطع لدحض الإشاعة وهو بكامل زيه العسكري وعتاده الميداني مع مسدس وبندقية آلية وقنبلة "القرنيت" على خصره، بينما يحيي عدداً من القادة العسكريين ثم يخاطبهم بالقول "ناس الشجرة بسملوا عليكم"، ومن لحظتها جرت العبارة على الألسن وباتت تستخدم على نحو واسع حتى في تحية الناس بعضهم بعضاً على رغم تباين التفسيرات حول من هم "ناس الشجرة" هؤلاء، إذ ذهب بعضهم إلى أن المقصود "قوة سلاح المدرعات" الموجودة بمنطقة حي الشجرة، بينما أرجعها آخرون إلى محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي أكد في لقاء تلفزيوني سابق أنه موجود تحت "شجرة" يدير المعارك مع ضباطه وجنوده.

 

 

توضح المتخصصة الاجتماعية سلوى محيي الدين أن الحرب وظروف الاشتباكات والمعارك الدامية فرضت طريقتها وأسلوبها وقسوتها علي الموجودين من السكان حتى الآن داخل العاصمة الخرطوم، حتى في طريقة ووقت النوم والاستيقاظ والخروج والدخول والأكل، حيث كان لابد للناس من التعايش مع هذا الواقع على رغم قسوته.

وتضيف "غالباً يجري تبني مثل تلك المفردات والمصطلحات في سياق التفاعلات المجتمعية اليومية مع إفرازات الحرب، التي شكلت نمطاً للتعايش خلال الأشهر الأربعة الماضية، وباتت المعارك أشبه بالسمة اليومية للحياة ومصدر الخوف والقلق والفرح أيضاً في بعض الأحيان".

تلاحظ محيي الدين أن كثيراً من سكان الخرطوم الباقين فيها تجاوز كثير منهم محطة الخوف والحزن المفرطين إلى محاولة التأقلم، إذ أصبح الناس الآن أكثر تعايشاً مع أصوات المدافع والاشتباكات عموماً وكذلك مع الموت والجثامين، إذ شهدت والعاصمة تغيرات شملت حتى مراسم تشييع الموتى التي أصبحت تجري داخل المنازل أو في الشوارع أمام الأبواب.

تشير محيي الدين إلى أن عديداً من مفردات اللهجات العامية لقبائل دارفور التي يستخدمها كثير من أفراد "الدعم السريع" وصلت إلى الخرطوم، معتبرة أن مصطلحي "البل" و"الجغم" يعبران عن نمط عنيف يستخدمه طرفا الحرب في إشارة إلى رغبة كل منهما في سحق الآخر، لكنها تسربت إلى المجتمع وحياة الناس لتعبر عن أية لحظة تفوق أو انتصار، وصار هناك بخلاف "البل" العسكري "البل" الإعلامي والرياضي، وجميعها بمعنى البز والتفوق بشكل عام.

 

 

تتوقع المتخصصة الاجتماعية أن تمضي تأثيرات هذه الحرب أبعد من ذلك، بحيث لا تقتصر على تحولات في اللغة أو المفردات الخاصة بأهل الخرطوم والسودان عامة، إذ من الواضح أن كل المجتمع السوداني أصيب بشروخ وصدمات كبيرة قد تحتاج إلى ترميمات طويلة الأمد على مستويات عدة بسبب حدتها وشدتها وكثرتها.

من جانبه يوضح الضابط السابق بالجيش محمد أزرق أن مصطلح "الجغم" الذي انتشر بكثافة خلال هذه الحرب يعني بالنسبة إلى المتقاتلين من الطرفين "الإهلاك المباشر"، وباتت هذه المفردة مخيفة ومرعبة جداً بالنسبة إلى كلا الجانبين، وتستخدم للإيحاء بشدة الفتك بالخصم، فيقولون مثلاً إن الكتيبة الفلانية "جغمت" أي أبيدت عن بكرة أبيها في هجوم واحد، لذلك تجد المقاتلين يرددون "جغم بس" للمبالغة في تصوير شراستهم واستعدادهم لسحق الطرف الآخر.

بين المدني والعسكري

يشير أزرق إلى أن أصل عبارة "الجغم" مدني وليس عسكرياً، إذ تعود للهجة العامية لسكان مناطق وسط السودان عموماً، وتعني عندهم "الرشفة" أو شرب سائل دفعة واحدة، لذلك يمكن القول إن هذه المفردة اقتبسها العسكريون ثم عادت تحمل أكثر مما كانت تحمل من معان في السابق.

وينوه إلى أن مصطلحات أخرى سادت خلال فترة الحرب، مثل مسمى "دعامي" للفرد من جنود "الدعم السريع" وجمعه "دعامة"، ولعل المصطلح ولد في مقابل المسمى المعروف به أفراد الجيش السوداني وهو "جياشة" ومفردها "جياشي"، وعبارات أخرى تقابل عبارة "يا أخي" و"ابن أمي"، مثل "ولضمي" و"ولدبوك" وهي عبارات دارفورية عربية تعني "ولد أمي" و"ولد أبوك"، كما سادات مصطلحات في الأسواق الطرفية التي ظهرت أخيراً وعرفت بـ"أسواق دقلو"، وتبيع بضائع مسروقة في الغالب من بينها أثاثات رخيصة الثمن تحت مسمى "العفش الصاحبو طفش".

بدوره يشرح محمد حسام الدين النور المتخصص في تعليم اللغات أن التلقين والتكرار والاستماع ظواهر متضافرة مع عنصر التفاعل وتعتبر من أهم أساسيات تعلم أية لغة، سيما وأن مسألة التعلم تعتمد كلها على الأذن وتكرار الاستماع في اكتساب المفردات الجديدة التي تشكل بدورها جملاً متكاملة، وبالتدريج تتحول تلك العبارات المكتسبة إلى رصيد لغوي مستخلص ودائم من التعبيرات المسموعة.

 

 

ويلفت النور إلى أن كثرة سماع المفردات الجديدة يمثل إحدى وسائل تبني لغة أو لهجة تذوب لاحقاً في حياة الناس ثم تستقر بعد ذلك ضمن اللغة الأصلية، مشيراً إلى أن المحيط الأسري للطفل يمثل معين مفرداته في المراحل الأولى من حياته قبل أن يتعرف بمجتمعات محيطة أخرى مثل الشارع والمجتمع والمدرسة حيث يتغذى قاموس المفردات، لأن عملية التعلم تتم من خلال الاحتكاك وتنمو عبر ذلك الاكتساب الجديد للمفردات.

المتخصص في مجال الإنذار المبكر إسماعيل سليمان، وهو من قدامى العسكريين، يلفت إلى أن الحروب غالباً ما تنتج مصطلحاتها ومفرداتها الخاصة، وعادة ما تجد طريقها إلى حياة الناس وأحزانهم وأهازيجهم، بخاصة إذا تطاول أمد القتال بدرجة تجعل المدنيين مكرهين على التعايش والتأقلم، ثم يبدأ المجتمع، وبخاصة في ظل انفتاح وسائل التواصل الذي يسهل عملية التفاعل مع تلك المفردات، في تبني كثير منها مما يمكنه من التعايش القسري مع ظروف الحرب.

غير أن متخصص الإنذار المبكر يرى أن الأطراف المتقاتلة كثيراً ما تلجأ أيضاً إلى استخدام لغات غير بشرية هي في الواقع إشارات ميكانيكية كشفرات تترجم بواسطة المقاتلين المدربين عليها، وشبهها بنقرات رسائل التيليغراف في أوقات مضت.

يشير سليمان، الذي يسكن في غرب أم درمان، إلى أنه رصد بالصدفة ولأيام عدة ظاهرة يعتقد أنها نوع من التواصل بين قوات "الدعم السريع"، إذ درج على سماع أصوات متتابعة لطلقات مدافع رشاشة تنطلق بشكل يومي منتظم في الزمان نفسه ما بين نحو الساعة الثانية والرابعة فجراً، ولم يستبعد أن تكون تلك الإشارات نوعاً من التخاطب والتراسل الخاص متفق على ترميزه مسبقاً.

بتتبعه لهذه الأصوات اكتشف سليمان أنها تمثل لغة وإشارات للتخاطب بين نقاط ارتكاز تلك القوات مع بعضها بعضاً، وتصدر على نحو منتظم في شكل طلقات محددة العدد بواسطة مدفع رشاش تكسر هدوء الليل، ثم يجيء الرد عليها بذات العدد من الطرف الآخر، أو ربما أقل أو أكثر بحسب طبيعة الرسالة المراد توصيلها.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير