Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حروب الظل والوكالة: كيف نفهم فوضى الشرق الأوسط؟

تطور الأمر كثيراً منذ أحداث السابع من أكتوبر2023 لتصبح جزءاً من المواجهة المباشرة والمعلنة بين إسرائيل وإيران وأذرعهما المتقاطعة مع واشنطن والغرب وموسكو

آثار القصف الإسرائيلي على قطاع غزة   (أ ف ب)

ملخص

 كشفت حروب الظل والوكالة ملامح الدور الغربي من زمن الحرب الباردة، وما سمي بـ "الحرب على الإرهاب" التي أرسلت خلالها واشنطن ولندن آلاف الجنود إلى أفغانستان والعراق، وصولاً إلى الوقوف ضد كل القوى التقدمية في الشرق الأوسط، وتثبيت الأنظمة القائمة أو محاولة تغييرها في الوقت نفسه من خلال الاستعانة بالجماعات الدينية المعتدلة والمتطرفة على حد سواء.

حروب الظل والحرب بالوكالة مفهومان وضعا لينطبقا حد التطابق على الشرق الأوسط كحال دراسة مثالية للسيولة والاختراق في النظام الإقليمي والفوضى المتحركة والأزمات المزمنة، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور هذا النوع من الحروب والصدامات غير المباشرة بين الدول احتفظ الشرق الأوسط والمنطقة العربية بنصيب الأسد من هذه النوعية من النزاعات، لأسباب عدة أبرزها ظهور إسرائيل وتأسيسها جهاز الـ "موساد" واشتعال الصراع العربي - الإسرائيلي وتأسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي أي إيه)، وبداية إرهاصات الحرب الباردة والصراع بين الولايات المتحدة ووكلائها والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي وتدخلات الطرفين العميقة في المنطقة، يضاف إلى هذا بالطبع الخلافات البينية العربية وتأسيس معظم أجهزة الاستخبارات بالمنطقة وصعود دورها منذ ستينيات القرن الماضي، أمنياً وسياسياً واقتصاديا على حد سواء.

في كتابه بعنوان "حروب الظل: الصراع السري على الشرق الأوسط"، أسهم كريستوفر ديفيدسون بأحدث دراسة غربية متخصصة عن خيوط السيطرة الغربية على الشرق الأوسط، فمن خلال سلسلة من المقابلات مع المسؤولين الغربيين والشرق أوسطيين المعنيين بالملفات السياسية والأمنية، وعدد كبير من الوثائق السرية والملفات الدبلوماسية المصنفة، قدم ديفيدسون عرضاً شاملاً لخطط الدول الغربية للسيطرة على الشرق الأوسط على مدى قرن كامل.

والدراسة غير المسبوقة لتاريخ محاولات السيطرة على المنطقة ونهب ثرواتها أتاحت تفسيراً دقيقاً مستنداً إلى الوثائق الغربية المسربة وشهادات عشرات الأكاديميين والصحافيين والدبلوماسيين وضباط وعناصر أجهزة الاستخبارات، كما كشفت ملامح الدور الغربي من زمن الحرب الباردة وما سمي بـ"الحرب على الإرهاب" التي أرسلت خلالها واشنطن ولندن آلاف الجنود إلى أفغانستان والعراق، وصولاً إلى الوقوف ضد كل القوى التقدمية في الشرق الأوسط وتثبيت الأنظمة القائمة أو محاولة تغييرها في الوقت نفسه من خلال الاستعانة بالجماعات الدينية المعتدلة والمتطرفة على حد سواء، مما جعل المؤلف يصل إلى نتيجة وتفسير لضعف الإرادة الأميركية في الحرب على الإرهاب، مرجعاً ذلك لتولي الولايات المتحدة والقوى الغربية زرع وتنشئة تلك الفصائل والجماعات بادئ الأمر كوكلاء وأذرع ميليشياوية لمحاربة خصومها والتأثير فيهم، كما جرى خلال محاربة الوجود السوفياتي في أفغانستان.

ولا تقتصر حروب الظل والصراعات بالوكالة فقط على تدخلات القوى الغربية الكبرى في الشرق الأوسط، بل يظل الوكلاء أوراق لعب وأدواتاً فاعلة في أيدي القوى المتوسطة والإقليمية وحتى الدول الصغيرة والقوى الهامشية في هذا الإقليم،

والتاريخ يعيد نفسه كما يكشف الواقع الراهن مدى اتصال الوكلاء بمشغليهم، كما هو الحال مع الأذرع الإيرانية في المنطقة في صراعها مع إسرائيل وتدخلاتها المسلحة في بعض الدول العربية لمدة تزيد على العقد.

وربما تطور الأمر كثيراً منذ أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 لتصبح حروب الظل جزءاً من المواجهة المباشرة والمعلنة بين الجانبين، كما جرى خلال الضربات الصاروخية الإيرانية على إسرائيل مطلع أكتوبر الجاري انتقاماً لقائد أحد أذرعها المسلحة، على رغم حرصها المستمر على نفي العلاقة بدعم حركة حماس الفلسطينية في هجومها المباغت على إسرائيل في أكتوبر 2023 كنوع من الإمعان في التغطية، وتأكيداً لحرب الظل القائمة بين الجانبين

كما هو الحال مع عمليات الاغتيال والتخريب التي لا تعلن إسرائيل مسؤوليتها عنها داخل الأراضي الإيرانية أو ضد مصالحها بالخارج.

كيف نفهم "حروب الظل"؟

التدخل الغربي من أجل السيطرة على موارد الشرق الأوسط وتجاهل مصالح شعوب ومواطني دول المنطقة هو المفتاح في إدراك المفهوم الذي يقدمه كتاب "حروب الظل" الذي يعد تحليلاً شاملاً، ولا يوافر الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط حيث تحظى الأنظمة الماضية والحالية والحركات المتطرفة والشخصيات الفردية الرئيسة بقدر كبير من الاهتمام.

ويعطي مفهوم حروب الظل تفسيراً واضحاً لازدواجية المعايير الغربية حيث التناقض بين السياسات المعلنة، بل وتجاهلها عمداً وممارسة مواقف على النقيض منها سراً من خلال القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية السرية وعبر العمليات الخارجية الغامضة وغير المعلنة.

ومن خلال مقاربة حروب الظل تمكن قراءة التاريخ غير المكتوب لأحداث الشرق الأوسط على مدى العقود الماضية، ويتعزز هذا التحليل من خلال مئات من الوثائق الحساسة المدعومة بمجموعة من المقابلات مع مسؤولين سابقين رئيسين من دول غربية وشرق أوسطية، وصحافيين وناشطين، في عمل استقصائي يوفر للقارئ ثروة من الحقائق التي نادراً ما نراها في عمل واحد.

قبول المتناقضات والأضداد والثنائيات المتصارعة هو السبيل الأمثل لفهم الكيفية التي تعمل بها حروب الظل لتشكيل حاضر ومستقبل الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال أسهمت القوى الغربية بشكل رئيس في صناعة ما سمي بـ "ثورات الربيع العربي"، وقامت بالدور الأساس في إجهاضها من خلال ما يطلق عليه "الثورات المضادة".

وتستند الأطروحة المركزية للكتاب إلى تقدير النمط التاريخي للتدخل الغربي في الشرق الأوسط وتركيز الجهات الفاعلة الخارجية الرئيسة مثل بريطانيا وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة على الموارد الطبيعية في المنطقة، وتقوم تلك الأطروحة على مجموعة كبيرة من الأدلة لتسليط الضوء على الطرق التي أدركت بها الدول الغربية التهديدات لمصالحها الإقليمية، سواء من خلال صعود القومية العربية أو الاشتراكية أو الأيديولوجيات الراديكالية المحلية، وما أصبح استجابة غربية قياسية لهذه التهديدات عبر "التدخل والثورة المضادة".

 

ويوضح ديفيدسون أنه بعد بزوغ الهيمنة الغربية على المنطقة كان الاستقرار والاتساق في سياسة الشرق الأوسط بمثابة ركائز السياسة الغربية، حفاظاً على المصالح المتحققة وسعياً إلى تعزيزها، لكن في الوقت نفسه تظل هذه القوى المهيمنة ممسكة بأدوات الاستقرار والفوضى في آن واحد.

ويرى الخبير في شؤون الأمن القومي الأميركي جون روسو ماندو أن القوى الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا تعتمد على كلا النوعين من الحروب، سواء حروب الظل أو الحروب بالوكالة، لكن الأمر لا يقتصر على القوى الغربية فقط بل تقوم دول شرق أوسطية عدة بدعم الوكلاء في النزاعات بصورة معلنة أو سراً، وممارسة الحروب الخفية وحروب الظل.

أما عن الفارق بين حروب الظل والحرب بالوكالة فيوضح ماندو أن "الحرب بالوكالة علنية حين يكون دور أميركا وبريطانيا وإسرائيل وغيرها معروفاً، أما الحرب الخفية فسرية ويعتمد اللاعبون على التجسس وقوات حرب العصابات المدعومة سراً لتنفيذ العمليات".

ويقترح مدير المركز الوطني للدراسات في القاهرة الباحث هاني الأعصر أن "حروب الظل غالباً ما تتطور إلى صورة من صور الحروب بالوكالة، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تحتفظ بنصيب الأسد من أنماط حروب الظل والحروب بالوكالة على حد سواء، فالمنطقة تنطوي على تناقضات كبيرة وقوى متنافسة ومتعارضة المصالح والانتماءات وأخرى تبحث عن الهيمنة الإقليمية، وقوى تقليدية تريد إعادة إثبات نفسها كقوة ضاربة وحاضرة في الإقليم".

يوضح أن "المثال الأبرز على هذا التحول بين النوعين من الحروب يتمثل في الصراع بين إيران وإسرائيل، والتنافس بين إيران وبقية القوى الإقليمية العربية وتركيا، ففي حال إيران وإسرائيل تطورت المواجهات من عمليات التخريب والاغتيالات وعمليات الإرباك والإشغال والأنشطة الهدامة وتعطيل المنشآت إلى نمط من الحروب بالوكالة عبر الميليشيات المدعومة من إيران، ثم تحولت أخيراً إلى نمط من الحرب المباشرة والمعلنة المدارة أو المنضبطة تحت سقف معين".

ويذكر الأعصر أن "حروب الظل تشمل العمليات الاستخباراتية أو العسكرية النوعية التي تقوم بتنفيذها أطراف بعينها للحفاظ على أمنها ومصالحها، سواء عبر إحكام سيطرتها على مناطق ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة إليها أو عبر تعزيز نفوذها في هذه الأماكن على حساب الأطراف المنافسة، أو عبر السعي إلى إضعاف القوى المعادية التي تشكل تهديداً واضحاً لأمنها ومصالحها، لكن من دون الإعلان عن مسؤوليتها لتجنب تحمل التبعات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لذلك قدر الإمكان".

وتبقى المنطقة تعاني فوضى متراكمة ومتحركة لعقود رغبة من القوى الكبرى في السيطرة على مواردها وبخاصة النفط، ولا سيما منذ استخدامه كسلاح اقتصادي في مواجهة الغرب الداعم لإسرائيل خلال حرب عام 1973.

الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط

على رغم أن الحرب بالوكالة تنتمي بصورة واضحة إلى سياسات الدول الكبرى في العالم، ويعرف فيها الطرف الأصيل الداعم للوكيل المحلي في النزاع، حتى إن لم يبد في الواجهة أو على مسرح الأحداث، فإن الخبير في شؤون الأمن القومي الأميركي يذهب إلى أنه "يمكن للولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل وغيرها أن تزعم أن اللاعبين الذين تدعمهم يتصرفون بمفردهم، وعلى سبيل المثال يتبادر السودان إلى الذهن، حيث تقدم بعض الدول المساعدة السرية لجانب واحد (قوات الدعم السريع) بينما تفعل روسيا وإيران ذلك للجانب الآخر (القوات المسلحة السودانية)"، كما تتسم الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط بأن "الهدف الحقيقي غالباً هو السيطرة على الموارد، وتستخدم القضايا الطائفية كذريعة"، وفقاً لماندو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتذهب الباحثة في الدراسات الإيرانية ميرفت زكريا إلى أن إيران تعد من أبرز الدول التي تلجأ إلى هذا النوع من المواجهات خلال مرحلة ما بعد الحرب الباردة، من خلال رعاية مجموعة من الجماعات المسلحة التي تقوم بمواجهة الخصم أو تطويقه بالنيابة عنها، ولا سيما مع إسرائيل، وتتضح أبرز محفزات ذلك في عدم تفضيل العقيدة العسكرية الإيرانية للمواجهات العسكرية المباشرة، ولا سيما بعد الحرب مع العراق التي تكبدت إيران خلالها كثيراً من الخسائر، والشاهد على ذلك أن إيران تطلق عليها "الحرب المفروضة" كدليل على أنها فرضت عليها من قبل صدام حسين، وأنها كانت غير راغبة بالدخول فيها.

وفي إطار رغبة طهران بالاعتراف بها كفاعل إقليمي داخل منطقة الشرق الأوسط، مما يمكنها من مواجهة خصومها وبخاصة إسرائيل، فلا بد لها من أن تدخل في مواجهات قد تصل حد الحرب، ونتيجة لعدم تفضيلها الحرب المباشرة على أراضيها فإنها من خلال "حروب الظل" أو "الحروب بالوكالة" تستطيع الدخول في مواجهة مباشرة من دون أن يمس ذلك أجزاء من أراضيها، وذلك نتيجة لإدراك نظام الولي الفقيه في إيران أن الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل لن يكون مع هذه الأخيرة وحدها وإنما مع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، مما يحمل فارقاً قد لا يبدو هيناً في حجم العتاد العسكري والتفوق التكنولوجي الذي تحظى به إسرائيل وحلفاؤها في الغرب، وفقا للباحثة.

وأوضحت زكريا أن إسرائيل تفكر بالأسلوب الإيراني ذاته، "فعلى رغم تفوقها العسكري والتكنولوجي على إيران فإنها تدرك أنها لن تدخل في مواجهة مع طهران وحدها، وقد لا تدخل في مواجهة بالأساس معها، وإنما سيقوم وكلاء إيران في المنطقة بهذه المهمة، وعلى رغم قدراتهم العسكرية المحدودة فإنهم مؤثرون للغاية في خلفية قربهم الجغرافي من الحدود الإسرائيلية وقدرة أحدهم مثل جماعة الحوثي اليمنية على وقف السفن المتجهة إلى إسرائيل".

وتتابع أن "هذا الأمر حمل في طياته تداعيات مباشرة على الاقتصاد في تل أبيب، وفي ما يتعلق بجماعة 'حزب الله' اللبنانية فإنها استطاعت من خلال الدخول كجبهة إسناد لحركة 'حماس' الفلسطينية في قطاع غزة بعد عملية طوفان الأقصى أن تتسبب في تهجير سكان الشمال الإسرائيلي، ناهيك عما فعلته الحركة ذاتها في السابع من أكتوبر 2023".

بدوره يرى الباحث في العلاقات الدولية بمركز لندن للدراسات إيثان إي دينسر أن حروب الظل لا تعتمد بالضرورة على العمليات السرية وحروب العصابات، مشيراً إلى أن الحروب بالوكالة وحروب الظل متشابهة إلى حد ما لكنهما نوعان مختلفان، إذ تتضمن حروب الظل استخدام جيش دولة ما من دون ضرورة الاعتراف بالعلاقة بهذا الجيش، في حين أن الحروب بالوكالة "هي ما نراه بصورة متكررة في الشرق الأوسط، حيث يقدم الجانبان الدعم لوكلاء متعارضين مختلفين بالإستراتيجيات والذخائر، ولكن من دون نشر قوات مباشرة على الأرض."

ويستكمل الباحث أنه "عندما نفكر في إيران وإسرائيل فإن حربهما هي حال كلاسيكية من الصراع بالوكالة، ويدور نزاعهما في كثير من المناطق الجغرافية والمسارح، ويستخدم كل جانب أنواعاً مختلفة من الحرب بالوكالة، سواء الدعم المباشر بالذخيرة للمجموعات المعارضة أو الحرب السيبرانية، وذلك لتحقيق أهدافهما المعلنة".

ويتابع، "بينما تنشط هذه الحرب بالوكالة بالتأكيد بين إيران وإسرائيل يظل كلا الجانبين متجنبين للحرب الشاملة المباشرة والمعلنة، إذ تشكل القدرات النووية الإيرانية التي تظل غير معروفة إلى حد كبير وغير خاضعة لرقابة القوى الغربية تهديداً كبيراً لإسرائيل، في حين تتمتع القدرات العسكرية الإسرائيلية بالقدرة على تعطيل إيران بصورة كبيرة، فالطابع المترسخ للحرب بالوكالة، وبخاصة في حال إيران من خلال رعاية مجموعات في مختلف أنحاء سوريا ولبنان والعراق واليمن، يحمل في طياته خطراً كبيراً يتمثل في قلب هذه الدول رأساً على عقب في حال إعلان حرب شاملة".

حروب قليلة الكلفة

وإضافة إلى الرغبة في تجنب المواجهة المباشرة أو تحول الحرب التقليدية إلى نظيرتها نووية، وكذلك البعد الجغرافي بين الأطراف المتحاربة بما يجعلها تلجأ إلى دعم وكلاء وأذرع داخل الدولة الخصم أو على حدودها، تعد كلفة الحرب التقليدية عنصراً أساساً في تفضيل الدول للحروب بالوكالة وحروب الظل.

وبحسب الخبير في شؤون الأمن القومي الأميركي جون روسو ماندو فإن الدول تعتمد على الحروب بالوكالة لأنها تسمح لها بتجنب عواقب الحروب الأكثر تدميراً بين الدول المتماثلة في القوة والأنداد لبعضهما بعضاً، وخلال الحرب الباردة خاضت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حروباً بالوكالة في فيتنام وأنغولا ونيكاراغوا وأفغانستان وغيرها، لأن كلفة تبادل الهجوم النووي الشامل كانت لتكون مرتفعة للغاية، وكان الأمر نفسه ينطبق على الحرب الحالية في أوروبا حتى لو ظلت تقليدية".

 

وعلى رغم الدعم الأميركي المتواصل لإسرائيل فإن المراقبين يرون أن هذه المليارات من الأسلحة والدعم المالي والتكنولوجي من واشنطن إلى تل أبيب أقل بكثير من كلفة دخول واشنطن في الحروب مباشرة، مما يكلفها تريليونات الدولارات فضلاً عن الخسائر البشرية وضغوط الرأي العام وغيرها، ويقول جون ماندو إن "إسرائيل وقفت كقوة مضادة لإيران، وتقليدياً كانت إسرائيل أكبر حليف لأميركا في الشرق الأوسط ومع ذلك أصبح الحزب الديمقراطي معادياً بصورة متزايدة لإسرائيل بسبب تحوله السياسي نحو اليسار، ولقد أظهرت إسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة ما يمكن إنجازه عند وجود إرادة سياسية، ولم يرغب الديمقراطيون في أن تدمر إسرائيل وكلاءها وأرادوا منها أن تستمر في نمط الحروب الجارية، ومع ذلك غيرت هجمات السابع من أكتوبر 2023 هذه الديناميكية، فقد عمل الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته على وقف إسرائيل، ومع ذلك تجاهلهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقد مات الآن غالبية قادة 'حماس' و'حزب الله' اللبناني".

ويعتقد ماندو أن الرأي العام الأميركي سئم من المغامرات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى بعد الحروب التي أساءت إدارتها في العراق وأفغانستان والتي أهدرت تريليونات الدولارات، فلقد دعمت إدارة أوباما المتطرفين في سوريا وليبيا على أمل أن تتمكن واشنطن من استغلالهم للحصول على موارد الطاقة، وفي ليبيا أرادوا الوصول إلى الغاز والنفط الليبيين، وفي سوريا أرادوا إخراج بشار الأسد لمد خط أنابيب نفط عبر الأراضي السورية".

حروب يمكن إنكارها

وتنطوي الحروب السرية للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على محددات عدة غير مرتبطة بالكلفة الاقتصادية المباشرة للحرب وحدها، مثل ما يتعلق بالسمعة وصورتها الدولية والكلفة السياسية.

وفي كتاب "حرب الظل: تاريخ الحروب غير المعلنة التي خاضتها أميركا" يتتبع المؤلفان لاري هانكوك وستيوارت ويكسلر تاريخ العمليات السرية التي يمكن إنكارها، مؤكدين أن كل رئيس وكل إدارة أمرت بمثل هذه الأنشطة منذ الحرب العالمية الثانية، وفي كثير من الحالات اعتمدت العمليات السرية على وكلاء لم يشارك فيها أفراد أميركيون إلا عن بعد ومعزولين بطبقات من الإنكار.

ويشرح الكتاب تطور هذه العمليات السرية موضحاً بالتفصيل التكتيكات والأدوات المستخدمة منذ عهد الرئيس الأسبق هاري ترومان وحتى عهد إدارة باراك أوباما، ويسرد أشهر محاربي الظل على مدى الـ60 عاماً الماضية، ويفكك خيوط العلاقة بين وكالة المخابرات المركزية والجيش الأميركي في هذه العمليات.

كما يفسر الكتاب لماذا شعر كل رئيس بداية من فرانكلين روزفلت وما بعده بأنه مجبر على اللجوء إلى العمل العسكري السري الذي يمكن إنكاره.

 

ويتناول الكتاب أيضاً الديناميكية السياسية لعلاقة الرئيس بالكونغرس وحقيقة أنه على رغم عقود من القتال اختار الكونغرس الأميركي عدم ممارسة مسؤوليته في إعلان حال حرب واحدة، حتى في حال القتال الممتد والحرب المعلنة.

بدورها ترى الباحثة في الشؤون الجيوسياسية والأمن القومي إيرينا تسوكرمان أنه "بالنسبة إلى الحروب الخفية فإن الفكرة هي نفسها أيضاً، ولكن مع بعض الفروق الدقيقة، فالحروب الخفية تتجنب زعزعة الاستقرار المفرطة والواضحة، وعلى سبيل المثال تسمح انقلابات القصر للدول ظاهرياً بالعمل على الخطوط المتوقعة نفسها من دون ثورات ضخمة في الشوارع ومن دون تعطيل التجارة والمعاهدات السياسية والترتيبات الملائمة الأخرى، أو إجبار الشركات على الانسحاب بسبب الأخطار الجيوسياسية، فهي أقل كلفة وأكثر جراحة من الحرب بالوكالة".

وتتابع أن "مفهومها أيضاً أضيق من الحروب بالوكالة، فالحرب الأهلية لا تهدف بالضرورة إلى استنزاف الموارد أو إضعاف البلاد ككل، أو حتى التخلص من الحكومة بأكملها، بل تهدف إلى القضاء على اللاعبين الرئيسين غير الملائمين أو التأثير في عوامل محددة ومصممة بصورة ضيقة لا تناسب الطرف الذي يقاتلهم".

وتستطرد، "على سبيل المثال تستخدم إيران الوكلاء لأنها قوة عسكرية ضعيفة تتجنب المواجهات المباشرة مع الجيوش التقليدية، وبسبب العقوبات أصبح كثير من معداتها قديمة وحتى أسلحتها الجديدة التي طُورت بالتعاون مع روسيا أو الصين أقل شأناً من الأسلحة الأميركية أو الفرنسية المتطورة التي تشتريها دول الخليج، ومن ناحية أخرى استخدمت بعض الدول الخليجية وغيرهم الحرب بالوكالة غير المعلنة داخل إيران من خلال مجموعات المعارضة مثل الأحوازيين لإضعاف وزعزعة استقرار النظام من دون الحاجة إلى الدخول في مواجهة مباشرة، لأسباب لوجستية واقتصادية وسياسية، كما أنه من الأسهل استخدام القوى الداخلية داخل البلاد لزعزعة استقرارها والاستيلاء عليها من إرسال حشود من القوات للقتال مع الحكومات، وهي الفكرة التي نقلها الاتحاد السوفياتي إلى إيران وغيرها وعُرفت خلال الحرب الباردة في أوروبا باسم 'الفوضى المسيطرة'  أو 'هندسة الفوضى'، حين حاول السوفيات استخدام الدول الصغيرة التابعة لهم وزعزعة استقرارها مما خلق صعوبات سياسية لحلفائهم الغربيين.

 

التنظيمات الدينية أكثر دخولاً في حروب الظل

وتعتقد الباحثة في الشؤون الجيوسياسية والأمن القومي إيرينا تسوكرمان أن "حرب الظل تختلف عن الحرب بالوكالة لأنها خفية وتعتمد على عوامل ومجموعات ليست معروفة بالضرورة، مثل أجنحة الدولة العميقة داخل الحكومة أو التلاعب الخفي بمجموعات أو أفراد قد لا يدركون تماماً أنهم يتعرضون للتلاعب".

وتضيف أن "هناك مثال واضح على الاختلاف، فـ 'حزب الله' و'الحوثيون' و'حماس' وكلاء لإيران لكنهم ليسوا أمثلة على حروب الظل، لأن الجميع يعرف من هم ولا يحاولون حقاً إخفاء ذلك، ومع ذلك فغالباً ما تعمل جماعة 'الإخوان المسلمين' كجزء من حروب الظل، وهي تتلقى تمويلاً ودعماً سرياً من جهات حكومية تستخدمها لكسب نفوذ سياسي ضد الحكومات الشرعية أو لتحقيق أهداف وأجندات محددة".

وتوضح تسوكرمان أنه "خلال الحرب الباردة دخل الاتحاد السوفياتي والقوى الغربية في حرب بالوكالة وحرب ظل في الشرق الأوسط، فقام الاتحاد السوفياتي بتسليح وتدريب وتمويل حركات التحرير مثل 'منظمة التحرير الفلسطينية' و'حزب العمال الكردستاني' بهدف محدد يتمثل في تقويض المصالح الغربية في الشرق الأوسط، في حين عملت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة مع حكومة الشرق الأوسط لنشر الأيديولوجية الدينية وتعزيز الحركات لمواجهة الجماعات المؤيدة للاشتراكية أو الشيوعية".

وتمضي في القول "كان بعض ذلك حرباً بالوكالة، مثل تسليح المجاهدين في أفغانستان، لأنه كان تدريباً مباشراً وواضحاً لمجموعة من الناس لخوض حرب مع الاتحاد السوفياتي نيابة عن الغرب، وكان بعض ذلك غير مباشر ومخفي وتضمن اغتيال شخصيات رئيسة معينة، ورفع مكانة رجال الدين أو السياسيين ذوي الميول الإسلامية، واستخدام وكالات الاستخبارات بدلاً من الجيش لجهة تعزيز الأجندات في بلدان معينة".

وتضيف، "كما استخدم الاتحاد السوفياتي مزيجاً من أساليب حروب الوكالة وهي حركات التحرير، والحروب الخفية في هذه الحال تشمل اغتيال زعماء معارضة معينين، ونشر الدعاية من قبل وكالات الاستخبارات وتجنيد الجواسيس وما إلى ذلك".

وتابعت الباحثة أنه "يمكن للمرء أن يزعم أنه في حين أشعلت إيران حرباً طائفية ودينية بسبب مصالحها الجيوسياسية الخاصة، فإن إدارة أوباما شاركت بوضوح في هذه الأجندة كما يتضح من خطابه في القاهرة عام 2009 والتصريحات اللاحقة التي تهدف إلى إعادة التوازن لدور إيران والسعودية في الشرق الأوسط، وفي الممارسة العملية ترجم ذلك إلى تعزيز إيران وأيضاً إلى تعزيز العلاقات معها".

وبحسب الباحثة فإن "الولايات المتحدة لم تشارك بصورة مباشرة في الحرب على الأرض بل استخدمت مزيجاً من الحرب بالوكالة والحرب الخفية، فدعمت واشنطن جماعة الإخوان المسلمين في مصر خلف الكواليس أثناء الربيع العربي، والعناصر الموالية لـ 'حزب الله' في البحرين حتى كادت أن تسمح بانقلاب داخلها، ثم استمرت في تقديم الدعم لهذه العناصر من خلال الوسائل السياسية والتعليمات الاستخباراتية، وقد حمل بايدن العباءة نفسها، والسبب في استخدام الحرب بالوكالة هو تجنب الخسائر المباشرة وإنفاق الموارد".

إلى أي مدى تعد إسرائيل وكيلاً للولايات المتحدة؟

تجيب الباحثة في الشؤون الجيوسياسية والأمن القومي تسوكرمان عن هذا التساؤل بأن الولايات المتحدة ترى "إسرائيل حليفاً رئيساً من حيث مصالحها في الشرق الأوسط، وتنظر إلى ما تقوم به على أنها تقضي على المنظمات الإرهابية نيابة عنها، لكن هناك أيضاً حرباً خفية بين إيران وإسرائيل، بمعنى محاولات الاغتيال من قبل الطرفين ضد بعضهما بعضاً في نقاط مختلفة من الزمن، وعمليات استخباراتية غير مميتة وأخرى قاتلة متنوعة".

وتتابع، "ومع ذلك فإن إسرائيل ليست بالمعنى الدقيق للكلمة وكيلاً للولايات المتحدة، نظراً إلى حقيقة وجود مصالح متباينة وخلافات كبيرة بما يكفي، لدرجة أن الولايات المتحدة تتراجع عن الدعم الواضح لإسرائيل كما نرى من أحدث بيان لواشنطن، ولا تزال الولايات المتحدة تحاول الحفاظ على إمكان إقامة علاقة مع إيران بعد التواصل مع الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان، ونرى ذلك أيضاً لأن الولايات المتحدة أبقت على بعض العملاء الإيرانيين في الولايات المتحدة، مثل أريان طبطبائي في البنتاغون".

وتشير إلى أنه "علاوة على ذلك فإن الولايات المتحدة تميز بين الحكومة اللبنانية و'حزب الله' وتعتقد أن لبنان يستطيع الآن أن يتولى السيطرة الكاملة مع إضعاف 'حزب الله'، ولكن إسرائيل تنظر إلى الحكومة اللبنانية على أنها متشابكة مع 'حزب الله' بصورة لا تنفصم وغير قادرة على فصل أجنداتهما"، على حد وصفها.

المزيد من تقارير