ملخص
"القاتل" الأميركي يقع في فخ الإجرام المتبادل عبثياً
يستمر مهرجان البندقية السينمائي حتى 9 سبتمبر (أيلول) في الكشف يوماً بعد يوم عن تفاصيل مسابقته أمام جمهور غفير يملأ الصالات العديدة طوال ساعات اليوم، من الثمانية والنصف صباحاً حتى بعد منتصف الليل. إلى الآن، وبعد انقضاء خمسة أيام على انطلاق "الموسترا"، ودخولنا في الأسبوع الثاني، عرض أكثر من نصف الأعمال التي تتسابق على "الأسد الذهبي" (23 فيلماً في المجموع)، ويمكن القول إن المستوى العام جيد، مع بعض الأفلام التي تتجاوز المعدل، وبعضها الآخر يبقى ما دونه، إلا أننا لا نزال في انتظار التحفة التي قد تحسم كل شيء، علماً أن خيارات لجنة التحكيم نادراً ما تتوافق مع أهواء النقاد وأذواقهم. إلى هذه اللحظة، لا يزال "كائنات مسكينة" للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس هو الفيلم المفضل للنقاد، وهذا ما يتبدى جلياً من الأحاديث السريعة التي يتبادلها بعضنا مع الآخر، في اللحظات بين خروجنا من صالة ودخولنا إلى أخرى. أما النجوم التي يمنحها النقاد، من واحدة للأسوأ إلى خمسة للأفضل، فهي الأخرى مؤشر إلى الأفلام التي تهتف إليها القلوب.
أمس، كان موعدنا مع فيلمين لسينمائيين بارزين: "الوحش" للفرنسي برتران بونيللو، و"القاتل" للأميركي ديفيد فينتشر. عملان أحدهما مختلف عن الآخر جذرياً. "الوحش" هو أحد الأفلام الفرنسية الثلاثة المعروضة في إطار المسابقة. أما "القاتل" فهو واحد من ستة تأتينا من أميركا، البلد الأكثر حضوراً داخل المسابقة هذا العام. وبعد عرض عدد منها، لا نزال في انتظار مشاهدة فيلمين أميركيين من هذه البلاد السينمائية الكبيرة، هما "أصل" لإيفا دو فرناي، و"بريسيلا" لصوفيا كوبولا.
فيلم بونيللو، "الوحش"، مفاجئ على جميع المستويات، وإلى حد بعيد، هذا المخرج المغاير يقدم في جديده رؤية سينمائية حرة ومبتكرة ومتماسكة لموضوع الذكاء الاصطناعي واقتحامه حياة البشر، لكن على طريقته الخاصة جداً التي تستلهم سينما النوع، وهذا يعني أننا يجب ألا نتوقع منه خطاباً مباشراً عن الموضوع. هناك أفلام عدة في "الوحش"، موزعة على ثلاثة تواريخ (1910/2014/2044)، سنبحر بينها باستمرار. واللافت أن بونيللو استوحى بعض الأفكار من رواية "وحش الغابة" لهنري جيمس (الذي اقتبسها بشكل حرفي المخرج النمسوي - اللبناني باتريك شيحا، وعرض في برلين في مطلع هذا العام)، ولكن دعمها بفكره ومشاهداته حول عالم يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي، ويعتمد عليه في وقت أسرع مما كان يظنه.
يروي بونيللو أنه سمع البروفيسور جفري هينتون، وهو أحد مطوري الذكاء الاصطناعي، يصرح بأنه ندم على هذا الاختراع، ويأتي ندمه من خشيته أن تتحول النسخ اللاحقة لهذا الاختراع إلى خطر على البشرية، هذا الخوف هو ما يرويه "الوحش"، مستعيناً بطريقة وفرضية خاصتين باللغة السينمائية التي يرغب فيها المخرج الذي يعلق قائلاً: "الكارثة أنه ما عادت هناك كارثة. هناك توجه نحو محو فرادة الإنسان. إذا جعلنا الخوف يختفي من هذا الإنسان، سيختفي أيضاً الإحساس بأننا أحياء".
من الصعب أن نروي حبكة الفيلم ونعطيها حقها، فالتجربة التي يوفرها للمشاهد بصرية في المرتبة الأولى، لا يمكن حصرها في كلمات. يقدم بونيللو سينما حسية تخترق العقل والإحساس، نتفاعل معها، ونشعر بها في مسام جلدنا. في أية حال، هي قصة غابريال (ليا سايدو في أداء مدهش) التي تعيش في عالم، حيث المشاعر والتعبير عنها أصبحا من الأشياء غير المرغوب فيها، لا بل باتا يعدان من العوائق على طريق تطور البشر، ولذلك يتعين على غابريال، بهدف التأقلم مع هذا الواقع الجديد، أن تعود إلى ماضيها وتنقح حمضها النووي، لتتخلص من التروما التي تسللت إلى داخل لا وعيها! وهذا يعني أيضاً العودة إلى علاقتها مع حب حياتها.
هذا هو الفيلم باختصار شديد، لكن المشاهدة أمر مختلف تماماً، وتضمن متعة عالية سببها الضياع في الدهاليز، فبونيللو يطلق العنان لمخيلته المجنونة المتفلتة من كل القيود السينمائية التقليدية، مجدداً نفسه وذاهباً إلى أبعد حدود في التلاعب بالمشاهد وتوقعاته. المستقبل الذي يخشاه يجعله الفيلم قريباً جداً منا، لدرجة يمكن أن نلمسه ونشارك فيه. "الوحش" هو أيضاً تأملات في مهنة صانع الصورة السينمائية، وماذا تعني هذه الصورة ونحن في حضن الذكاء الاصطناعي.
"القاتل" لديفيد فينتشر المقتبس من قصة مصورة للكاتب الفرنسي ألكسيس نولان أكثر كلاسيكية من "الوحش"، لكن الكلاسيكية التي يتقنها الأميركيون ويجيدون صناعتها من دون أن تبدو أكاديمية، مع براعة سردية وأسلوب ممتاز لا يمكن أن ينكرهما عاقل. صحيح أن الإخراج هنا هو نقطة القوة الأهم، لكن هناك غياباً فاضحاً للروح ينسحب على كل جوانب العمل. يتركنا "القاتل" لا مبالين نوعاً ما، على رغم كل العناية والأناقة اللتين يستعين بهما مخرج "سبعة" لتناول موضوعه. أما الطول فهو محسوس في هذا الفيلم أكثر من غيره، خصوصاً أن الأجواء سوداوية. ساعتان و20 دقيقة ونحن نتعقب قاتلاً مأجوراً (مايكل فاسبيندر)، ونبقى أقرب ما يمكن له ولأفكاره وضربات قلبه. تلخص الحبكة بالآتي: بعد مهمة لم تجرِ كما يجب، يقرر مكلفوه قتله، وهو بدوره سيقرر قتلهم، هذا كل ما ينطوي عليه الفيلم الذي يحملنا من مكان إلى آخر، بصحبة شخص ينتقل من موقع إلى موقع حفاظاً على حياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفيلم مقسوم إلى فصول، في كل واحد منها نرحل إلى مكان جديد (باريس، الجمهورية الدومينيكية، نيو أورليانز، فشيكاغو)، وتفاصيل جديدة. يقدم فينتشر تنويعة أخرى عن مهنة القتل، تسيطر عليها السخرية والنيهيلية، أو العدمية. يدرك القاتل أنه قاتل، ويعي مدى محدوديته في عالم واسع، ويفصح عن فلسفته حيال مهنته، في تعليقات طويلة تأتي من خلال التعليق الصوتي (في نوع من اعترافات داخلية)، الذي ربما هو الخطأ الأبرز في الفيلم، إذ يضعف بعض الشيء من اللجوء إلى الصورة، هذا القاتل له رأي في كل ما يجري، وهو يعاني قبل أي شيء آخر، الملل، الذي يعتبره أكبر تحدٍّ له خلال قيامه بعمله. نراه في مطلع الفيلم ينتظر اللحظة المناسبة لقنص الشخص المستهدف، من غرفة باريسية مستأجرة لهذا الغرض، ثم يلوذ بالفرار في سلسلة مشاهد إيقاعية تصر على عضلات فينتشر الإخراجية. وعلى رغم محاولاته الصريحة للإتيان برؤية جديدة لفيلم "النوع" (الجانر)، يصعب على فينتشر أن يبقى حراً تماماً، إذ عليه التعامل مع كل المفردات والأدبيات التي تصنع "فيلم القاتل المأجور"، من خدع واحتيالات ليبقى القاتل شخصاً بلا هوية، يختفي خلف أسماء مستعارة وجوازات مزورة وسلاح ذي حدين.