Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شريف مليكة الطبيب المصري وجد في الرواية ملاذا

بدأ شاعراً وقاصاً وكتب أعمالاً تتوزع بين التاريخ وأزمات العصر

لوحة للرسام شفيق رضوان (صفحة الرسام - فيسبوك)

 بين الشعر والقصة والرواية، تنوعت ارتحالات الكاتب الطبيب المصري شريف مليكة، حتى استقر أخيراً على الرواية، كنوع إبداعي سردي يمنحه مساحة مرنة للتعبير. أتى مليكة من عالم الطب، إلى الأدب، وهذا الانتقال لم يكن الأول في حياته، فقد سبقه التحول من طب الجراحة في مصر إلى التخصص في علاج الألم، بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة الأميركية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، مما جعل رحلته ثرية وممتدة زمانياً ومكانياً، بما تشمله من انتقالات وتحولات، نتج منها دواوين شعرية ومجموعات قصصية، وسبع روايات، أحدثها رواية "دعوة فرح" (دار العين) التي تناول فيها سيرة الكاتب المؤرخ اللبناني فرح أنطون، الذي يعد من أعلام النهضة العلمانيّة العربية.

الشعر أولا

"دواير"، هو عنوان الديوان الشعري الأول الذي أصدره مليكة عام 2003،  مع تخوفه من فكرة الكتابة وحضور هذه الموهبة، التي يعتبر أنها جاءته متأخرة، فهو من مواليد عام 1958، وقد مضى في مساره المهني كطبيب، في جامعة جونز هوبكنز في ولاية ميريلاند، فكيف يتعامل مع الكتابة التي طرقت بابه بقوة؟ يصف مليكة هذه المرحلة قائلاً: "بدأت الكتابة على نحو مفاجئ في شهر أبريل (نيسان) 2000 عندما انتابتني رغبة ملحة في كتابة أبيات شعرية بالعامية المصرية، فدونتها فوق علبة كبريت، ثم نقلتها إلى دفتر عند وصولي إلى البيت حتى أكملتها إلى قصيدة، ثم بدأت فوراً في كتابة قصيدة أخرى، ثم أخرى، فأخرى، ولم أتوقف... كنت أخشى أن يجف المنبع فجأة، كما ظهر فجأة".

اكتفى مليكة بنقل هذه القصائد بصوته إلى أصدقائه وأقاربه عبر الهاتف، أو في اللقاءات، فكانوا يعجبون من هذه الموهبة التي ظهرت فجأة! ثم أتى أحد أصدقائه ليعلمه أن خاله، المسرحي العملاق ألفريد فرج، سمع بموهبته وأراد أن يسمع شعره خلال وجوده في ولاية ميريلاند. يقول: "وافقت على مضض، فمن أكون أنا لأقف في حضرة ألفريد فرج لأقرأ أمامه قصائدي؟ لكن المفاجأة أن القصائد أعجبته حتى قال إن هذه الكلمات لم تعد تخصني، بل ينبغي لي نشرها، لأنها تخص الناس. طلب مني أن أهاتفه بمجرد وصولي إلى القاهرة ليقدمني إلى ناشره، وهذا ما كان".

ويضيف: "ظللت أكتب وأكتب، وتنقلت بين الشعر والنثر، وتعرفت إلى إلهامي بولس، واحد من أصدقاء نجيب محفوظ ومريديه. نشر لي أربعة دواوين شعرية وثلاث روايات ومجموعتين قصصيتين، ثم أعلن اعتزاله العمل كناشر، وأغلق دار الحضارة للنشر، لذا انتقلت من ثم إلى دور نشر جديدة، وبدأت أجد اهتماماً نقدياً في أعمالي".

غواية الرواية

كانت أولى تجاربه الروائية مع "زهور بلاستيك". هذا الانتقال من الشعر إلى الرواية، يستحق التوقف أمامه في تجربة مليكة، فهو بعد انتقاله إلى كتابة الرواية، لم يرجع إلى الشعر. يصف التجربتين، موضحا أنه لم يتعمد الانتقال من الشعر إلى القصة أو الرواية أو التنقل بينهما. يقول: "أترك الكتابة تأخذني كما تريد، كأنني مركب ورقي تركه طفل طافياً فوق سطح مائي، يدفعه التيار والموج الخفيف هنا أو هناك فيتبعه طائعاً، لذلك لا أفضل نوعاً من الكتابة عن الآخر. لكن الأثير لدي هو العمل الأحدث الذي أجده الأقرب إلى نفسي. ثم يتغير الأمر بميلاد عمل جديد وهكذا".

في رواية "زهور بلاستيك"، يحكي الكاتب عن شاب، يقع بالصدفة على معلومات عبر شبكة الإنترنت عن جزيرة مجهولة، تقع في قلب المحيط الأطلسي يعيش فيها جماعة من البشر، من مختلف أصقاع الأرض، حياة مجزية تقدم لهم وعوداً خيالية، ولكنهم في الحقيقة يعيشون أكذوبة كبيرة. وفي نسق وصفي ينتمي إلى الديستوبيا، يصف كيف يعيش هؤلاء الأشخاص تحت المجهر وكأنهم فئران للتجارب، لا يعرفون ماذا يخبئ لهم الغد؟

يمزج مليكة بين الواقعي والمتخيل الغامض، عبر استخدام ضمير المتكلم، كي يكشف كل ما يمكن حدوثه في الخفاء، سواء بالنسبة إلى المهاجرين الطامحين إلى الثراء والحرية، أو في ما يتعلق بمن يضعون الخطط السرية للتحكم بعقول وحيوات الآخرين. لنقرأ: "خروجهم إلى الدنيا كان بالقطع سبيلهم لتفهم حقيقة هجرتهم المزعومة، وواقع عزلتهم عن العالم فوق سطح تلك "الجزيرة" المحاطة بالمياه والصخور من كل اتجاه. إنها الجزيرة التي أمضوا فوق أرضها زهرة أعمارهم، فصارت لهم ذكريات الكفاح الأولى، والحاضر المعيش بكل تفاصيله في وطنهم الجديد، والغد الواعد. ولكن لابد من أن ينهار هذا الحلم، لأن معرفة سر "الجزيرة" لا بد وأن يكون لها وقع الزلزال على حياتهم الجديدة".

 أما رواية "خاتم سليمان" فهي ملحمة طويلة تتكون من 27 فصلاً، رواية أجيال تبدأ أحداثها من عام 1945، وصولاً إلى الزمن المعاصر، كما تتنوع شخصياتها المروي عنها عبر الراوي العليم.

من ضمن رواياته أيضاً رباعية "مريم والرجال"، التي أراد أن يضمنها جزءاً كبيراً من تاريخ مصر، من خلال عمارة تضم أدواراً عدة، واختار أن يبدأ سرده من اللحظة المعاصرة مع "الست مريم"، الشابة التي تغمرها مسحة من الحزن أضفت على عمرها عمراً.

يبدو مليكة في كتابته الرواية، مخلصاً للحظات زمنية بعينها أراد أن يؤرخها في نصه، ينقلها من الذاكرة كما لو أنه يحفظها من الزوال والتلاشي. هذه التفاصيل نجدها مبثوثة في سطور وصفه الدقيق للأماكن والأشخاص، كأن يقول في رواية "مريم والرجال" : "الحكاية بدأت منذ سنوات عديدة، ولكني تذكرت هذا اليوم بالذات، لأهميته لدي أنا شخصياً. يوم رحل جدي، كنا نلعب. وكانت لعبتنا أمام شقة الست مريم، في الدور الثالث، في حضن البناية الشامخة بطوابقها الخمسة. أما الست مريم فكانت شابة جذابة في منتصف العشرين، لكنها كانت عازفة عن الزواج كما عرفنا جميعاً. كنا نلهو بين العتبات المستطيلة المبلطة بقطع الرخام، ذات الأطر المزخرفة برسوم الغصون وثمار الكروم. تتصاعد ضحكاتنا المبتهجة من كل الأدوار، تعلو أو تهبط، مرتطمة بالجدران الحجرية العتيقة، ويعود صدى الأصوات محتضناً الزمن، فنكاد نسمع ضحكاتنا اليوم ممتزجة برجع ضحكات أصوات شباب، لعبوا وضحكوا، وصاحوا هنا من قبلنا لسنين وسنين".

 يقف القارئ أيضاً على اهتمام صاحب "قارورة زرقاء" بذكر تفاصيل جمالية حول فن العمارة، وعلاقته بالأماكن والأحداث التاريخية والسياسية، ووصف مداخل العمارات والأعمدة الكورينثية وبراعة المعماريين والتفاعل الحضاري، الناتج من أثر الثقافة اليونانية والإيطالية في سكان مدينة الإسكندرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في روايته "دعوة فرح"، استحوذت شخصية المفكر اللبناني فرح أنطون، على ذهن شريف مليكة، الأمر الذي دفعه لتقمص شخصيته وكتابة مذكراته، من خلال بطل يعثر صدفة في إحدى مكتبات الإسكندرية على مذكرات فرح أنطون، التي كتبها لأخته روز. ومن المعروف عن أنطون أنه هاجر من الشام إلى الإسكندرية في أواخر القرن التاسع عشر، هرباً من اضطهاد السلطان عبد الحميد.   بداية الرواية مكتوبة بصيغة ضمير المتكلم لراو معاصر، ولا تتجاوز صفحات عدة، ثم اختار شريف مليكة الانتقال في السرد ليمضي بصوت فرح أنطون نفسه، على شكل مذكرات يومية، بدأها برسالة طويلة إلى أخته روز. ولعل اللافت في العمل هو اللغة التي اختارها، كي تحمل عبارات وتراكيب تتناسب مع ذاك الزمن، سواء في استرسال الكلام، أو غياب علامات الترقيم، لنقرأ: "دعيني أشرح لك الأمر يا روز. فقبل عدة أعوام كان الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية آنذاك قد نفي إلى بيروت، لاتهامه بالمشاركة في حركة الضابط المصري أحمد عرابي في القاهرة. ومن بيروت جاء الشيخ إلى طرابلس مرتين. وبلغني أنه التقى الشيخ علي رضا وابنه رشيد... الشيخ محمد عبده كان (ومايزال) يمثل لي النقلة التي أتطلع إليها لتحقيق التقارب بيننا فتنتهي للأبد فرقتنا وتحزباتنا".

وبين الواقعي والتخييلي، تقدم الرواية عالماً متكاملاً لزمن أنطون، سياسياً عبر كل الصراعات التي شهدتها تلك المرحلة، وفكرياً من خلال العلاقات التي شكلت تقاطعات وجوده مع أعلام عصره، مثل مراسلاته مع عباس محمود العقاد، صداقته مع بشارة تقلا، ولقائه مع جبران خليل جبران، يقول: "وصلني اليوم خطاب من جبران خليل جبران أعاد إلي ذكريات تلك الصداقة الوليدة التي أنارت لي حياتي يوماً".

   وفي ختام الرواية، وتحت عنوان "النهاية"، يطرح مليكة سؤالاً ضمنياً يشبه مقارنة بين الزمن الذي عاش فيه أنطون والزمن المعاصر، قائلاً: "هل من الممكن تخيل أن ما كتبه فرح أنطون كان قد كتبه بالفعل قبل كل تلك السنين؟ هل يبدو لك أيضاً وكأن الزمن قد توقف بنا، فكأنه لم يكتب كلماته تلك إلا بالأمس القريب؟".

يعلق شريف مليكة على سبب اختياره الكتابة عن فرح أنطون، بقوله: "وجدت تشابهاً كبيراً بينه وبيني، في ذاك النداء الداخلي للاهتمام بالتقدمية والثقافة بدلاً من الرجعية والتنابذ. وقد هاجر مثلي بحثاً عن مستقبل أفضل".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة