Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف نشأت صداقة سكورسيزي الغريبة مع مايكل باول وإيميرك بريسبرغر؟

عندما التقيا في السبعينيات، أخبر سكورسيزي باول المذهول عن حبه الكبير لأفلامه (غيتي، شترستوك)

ملخص

لم يسهم أحد أكثر من المخرج الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي في تسليط الضوء على أعمال مايكل باول وإيميرك بريسبرغر وإخراجهما من غياهب النسيان

إنها إحدى أغرب الشراكات في تاريخ السينما – مارتن سكورسيزي، المخرج الأميركي من أصل إيطالي المقيم في نيويورك، ذو الطبع الناري، والذي لا يتوقف عن الكلام، والمخرج الإنجليزي الأرستقراطي، مايكل باول. عندما بدأت صداقتهما في منتصف السبعينيات كان سكورسيزي في قمة سطوته، فيما كان باول شخصية شبه منسية في المشهد السينمائي البريطاني، إذ إن سمعته لم تكن قد تعافت من الضربة القاسية التي تلقتها قبل عقد من السنوات إثر فيلمه التلصصي الذي يروي قصة قاتل متسلسل، "توم المتلصص" (1960) Peeping Tom.

باول وشريكه إيميرك بريسبرغر (اللذان سيحتفي "المعهد البريطاني للسينما" BFI بتجربتهما المشتركة الشهر المقبل، في عروض كبيرة مخصصة لهما) كانا قد انكفآ لصناعة أفلام للصغار، مثل "الصبي الذي استحال أصفر" (1972) The Boy Who Turned Yellow، وأعمال متواضعة أخرى، مثل كوميديا "إنهم رعاع غريبون" (1966) They’re a Weird Mob، التي جاءت بإنتاج أسترالي. إذ إن سنوات عزهما، مع أفلامهما الأشهر؛ "حياة وموت الكولونيل بليمب" (1943) The Life and Death of Colonel Blimp؛ و"مسألة حياة وموت" (1946) A Matter of Life And Death؛ و"نرجسية سوداء" (1947) Black Narcissus؛ و"الحذاء الأحمر" (1948) The Red Shoes، كانت قد أضحت وراءهما منذ زمن. بيد أن الأميركي الشاب المعجب بهما ظل مقتنعاً بأن باول (1905- 1990) وبريسبرغر (1902 – 1988) كانا "المخرجين الأكثر مشاكسة على الإطلاق اللذين يمكن تمويلهما من قبل استديو سينمائي رئيس".

الرجل الذي نسق لقاء التعارف بين سكورسيزي وباول كان خبير العلاقات العامة والمخرج والموزع مايك كابلان، الذي اشتهر بعمله مع ستانلي كوبريك وروبرت آلتمان. وكما أخبرني كابلان هذا الأسبوع، كان يؤدي دور وكيل لصديقه الممثل مالكولم ماكدويل، عندما التقى بباول للمرة الأولى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان باول معجباً بالأفلام التي عمل كابلان على توزيعها آنذاك – أفلام تتناول الفنون، مثل الوثائقي عن ديفيد هوكني "رشة أكبر" (1973) A Bigger Splash، وفيلم باربيت شرويدر "الوادي" (1972) The Valley الذي تضمن موسيقى لفرقة "بينك فلويد" Pink Floyd – وقد غدا الرجلان صديقين. وسيكثر المخرج الإنجليزي زياراته في ما بعد لمكاتب كابلان قرب "هولاند بارك".

ويتذكر كابلان "كان مارتي سكورسيزي يأتي إلى لندن، وقد كنا صديقين. تلقيت اتصالاً منه قال فيه ’هل تعرف مايكل باول؟‘" فأجاب كابلان بأنه طبعاً يعرف باول، الذي كان من المقرر أن يزوره في مكتبه بوقت لاحق من ذلك اليوم. ثم ذكر سكورسيزي أنه يسعى جاهداً للقائه. "كان الأمر مدهشاً. فحصوله يشبه القدر"، يقول كابلان عن لقاء سكورسيزي بـ باول.

المخرج الأميركي الشاب كان قبل وقت قصير أنجز "أليس لم تعد تحيا هنا" (1974) Alice Doesn’t Live Here Anymore. وقام كابلان بترتيب عرض لذاك الفيلم حضره باول، ثم ترافق الجميع بعد العرض لتناول الغداء معاً في مطعم "جولي" Julie’s Restaurant في نوتينغ هيل. وحين جلسوا حول الطاولة، وراحوا يستمتعون باحتساء النبيذ، ذهل المخرج البريطاني بدايةً بحماسة سكورسيزي الكبيرة تجاه أعماله. إذ في نهاية المطاف، خلال تلك الفترة، كان باول يعيش في "كارافان"، ولم يكن لديه سوى القليل من المال، فيما أفلامه السابقة لفها النسيان. كان الرجل في الحقيقة يجهد للبدء بأعمال جديدة – وها هو سكورسيزي يقول له إنه أحد أعظم المخرجين الذين عرفهم.

سكورسيزي بدوره استذكر هذا اللقاء في ما بعد ضمن مقابلة نشرت في كتاب "تأملات في الشاشة" Screen Epiphanies، فقال: "أنا أتحدث بسرعة إلى حد ما. كنت متحمساً. وهو بدا متواضعاً إلى حد ما وقد فاجأه الأمر. كنت متدفق المشاعر وانفعالياً قليلاً تجاهه وتجاه أعماله. ولم أصدق أننا وجدناه! فقد أفدناه بآخر المستجدات من ناحية الإعجاب بأعماله وأعمال إيميرك في أوساط المخرجين الأصغر عمراً". وفي ما بعد وصف باول من ناحيته سكورسيزي، مشبهاً إياه براهب يسوعي "ضئيل الجسم متحمس، وعيناه متوقدتان، ولحيته مشذبة بعناية".

وقد مثل الأمر بداية صداقة جميلة استمرت حتى وفاة الرجل الأكبر (إيميرك) بعد 16 عاماً. وفاة إيميرك تلك ستحمل باول إلى الولايات المتحدة، حيث تزوج ثيلما شونماكر (مديرة التحرير الشهيرة لأفلام سكورسيزي).

والآن، بعد ثلاثين عاماً، يسرد سكورسيزي وثائقياً عن باول وبريسبرغر. وحين أعلن السنة الفائتة عن الفيلم، الذي أخرجه ديفيد هينتون، قام سكورسيزي مرة أخرى بإشهار حبه الدائم لأفلامهما.

"لقد شاهدت مراراً وتكراراً الأفلام التي صنعها (باول) مع إيميرك، لكن إحساس الحماسة والسحر الذي استمده منها لا يدوم وحسب، بل يزداد عمقاً. لا أعرف كيف يحصل ذلك، إلا أن أعمالهما، بالنسبة لي، تتمتع بحضور خارق وتبقى مصدر طاقة لا ينضب، وتذكيراً بالمعنى الكامن في الحياة والفن" (يقول سكورسيزي في الفيلم الوثائقي عن المخرجين).

من الوهلة الأولى يبدو شغف سكورسيزي بأفلام باول وبريسبرغر محيراً بعض الشيء. فهما يأتيان من عالم مختلف تماماً عن الذي يحيا فيه. إذ حين كان سكورسيزي يصنع عمله الدرامي العنيف عن الملاكمة، "الثور الهائج" (1980) Raging Bull، دعي باول وبريسبرغر للمشاركة في برنامج "ديزيرت آيلاند ديسكس" Desert Island Discs على إذاعة "بي بي سي". وقد اتسم الشريكان بشيء من الغموض حين ناقشا حياتهما وتجربتهما معاً. إذ إن باول آنذاك كان يعيش بكوخ في غلوسيسترشير، فيما بريسبرغر، المولود في هنغاريا، والذي جاء إلى إنجلترا في الثلاثينيات، كان يعيش في سافولك. وبصدق أشار مقدم البرنامج روي بلوملاي، للمستمعين بأن هذين العاشقين القديمين لبيتهوفن وباخ ضمن المشهد السينمائي البريطاني قدما في الحقيقة بعض "الأفلام الجميلة جداً".

عاش الرجلان في عالم بعيد جداً من ذاك الذي يعيش فيه سكورسيزي. وكان لدى الرجلين اهتمامات مختلفة جداً خارج نطاق الأفلام. إذ إن بريسبرغر، وعلى مدى أكثر من 50 سنة، شجع نادي أرسنال لكرة القدم بكل مساراته. وفي منتصف الثلاثينيات كان وصديقه وصاحبه المهاجر والمنتج الألماني غونتر ستابنهورست، يسافر لحضور جميع مباريات النادي البعيدة بسيارة "ستابي (ستابنهورست) الكرايزلر السوداء الكبيرة"، وفق ما كتب في ما بعد حفيد بريسبرغر ومؤلف السير كيفن ماكدونالد. والأخير وصف نادي أرسنال بـ"الشغف الدائم والأكبر" في حياة بريسبرغر.

في المقابل، كان باول يقضي الكثير من وقت فراغه بالمشي في التلال الاسكتلندية. إذ صحيح أنه من مواليد كانتربيري، إلا أنه أحب المغامرة شمالاً، مستقلاً قطار الليل نحو إنفيرنيس، من دون أن ينسى أخذ مؤنة كافية من الشوكولاته والويسكي في حقيبة الظهر.

لا يمكن للمرء تصور سكورسيزي متسلقاً (مرتفع) "بن مور كويغاتش" [في اسكتلندا]، أو واقفاً في المنصة الشمالية بـ(ملعب) أرسنال. إلا أنه كان يبجل هذين المخرجين ويعتبرهما شخصيتين ملهمتين. وقد بدأ شغفه بهما باكراً جداً. إذ إنه اصطحب وهو صغير لمشاهدة "الحذاء الأحمر". كما أنه خلال نشأته في منطقة "لوير إيست سايد" Lower East Side النيويوركية، شاهد أفلامهما على شاشة التلفزيون. وحين غدا في ما بعد مخرجاً له طريقته الخاصة، ازداد فضوله تجاههما على نحو أكثر حدة.

"كنا جميعاً نتساءل من هما هذين المخرجين، وأين يعيشان، وهل ما زالا على قيد الحياة"، قال سكورسيزي متذكراً كيف كان هو وصديقاه المخرجان الأميركيان ستيفن سبيلبيرغ وبريان دي بالما، يتحدثون في ما بينهم في مطلع السبعينيات عن باول وبريسبرغر. وهم لم يجدوا الكثير من المعلومات عنهما. وكانوا مبهورين وحائرين تجاه بطاقات الشارة الموجودة على أفلامهما والتي يرد فيها: "كتابة وإنتاج وإخراج مايكل باول وإيميرك بريسبرغر". وكانوا أيضاً معجبين باللوغو الذي يظهر في مطلع كل فيلم من أفلامهما والذي يتضمن جملة "إنتاج شركة آرتشيرز (ومعناها رماة السهام)" A Production of the Archers مكتوبة فوق الهدف، فيما سهم ينطلق نحو الدريئة.

لماذا يبجل سكورسيزي أعمالهما إلى هذا الحد؟ المخرج الأميركي رأى في الآونة الأخيرة أن أفلامهما كانت "شاسعة، شاعرية، حكيمة، مغامرة، متهورة، ومفعمة بالجمال، ورومنطيقية في العمق، وغير مساومة أبداً". وما لا تفصح عنه كلمات سكورسيزي هذه هما صفتا الغرابة والانحراف، اللتين اتسمت بهما في الغالب أفلام باول وبريسبرغر. خذوا مثلاً فيلمهما "قصة من كانتربوري" (1944) A Canterbury Tale. إنه دراما شديدة الإثارة من زمن الحرب، وقد صور في مقاطعة "كنت"، المنطقة التي ينتمي باول إليها. فهذا الفيلم، من جهة، يحتفي بالكاتدرائيات، والمروج والقرى المبنية ببيوت من قش في الريف الإنجليزي، فيستعيد روحية تشاوسر [الشاعر والكاتب الإنجليزي جيوفري تشاوسر]، كما يقوم، في الوقت عينه، بالإشارة إلى مختلف الفروقات الثقافية بين السكان المحليين وبين الجنود الأميركيين الذين وصلوا آنذاك وحلوا بينهم. أما من الجهة الأخرى، فإن الفيلم يطلق شبح "غلومان" [رجل الغراء]، الشخصية الغامضة التي ترش غراءً على شعر امرأة شابة. وتصرخ امرأة في مطلع الفيلم: "يا إلهي، هذا شعري. أحدهم جاء من العدم وصب شيئاً عليه... شيئاً دبقاً". فيهمس جندي أميركي ساخراً: "إنها إنجلترا، ما من لحظة مملة أبداً".

تناولت أفلام باول وبريسبرغر في أغلب الأحيان شخصيات مهووسة ومستوحدة، لا تختلف كثيراً عن شخصيات أبطال أفلام سكورسيزي. فرجل الغراء، "كولبيبير" Colpepper، الريفي الذي يؤدي دوره إيريك بورتمان، والذي يريد أن يوقف إغواء النساء الإنجليزيات من قبل الجنود الأميركيين، هو شخصية لا تقل غرابة، وبطريقة إنجليزية جداً، عن شخصية ترافيس بيكل التي يؤديها روبيرت دي نيرو في فيلم "سائق التاكسي" (1976) Taxi Driver.

أما شخصية ليرمونتوف، مدير مسرح الباليه في "الحذاء الأحمر"، فهو شخصية مندفعة وعنيدة ومستعدة للتضحية بكل شيء من أجل فنها – أي فنان صاحب قيم يشبه تماماً الذين يصورهم سكورسيزي. وشخصية القاتل المتسلسل مارك لويس (بأداء كارل بوهم) في "توم المتلصص"، والذي حاول تصوير ضحاياه النساء بلحظات موتهن، فيمثل نمط شخصية من تلك التي يتوقع المرء مشاهدتها في فيلم عن الاستغلال تدور أحداثه في نيويورك السبعينيات، لا في دراما بريطانية (صنع باول هذا الفيلم مع الكاتب ليو ماركس، وليس مع بريسبرغر).

وقد تحدث سكورسيزي عن انجذابه لهذا "الجانب الأكثر قتامة" في مقاربات باول، "حيث يغدو الفن، بطريقة ما، شريراً ومنحرفاً". وهو (سكورسيزي) ذهل بـ "جرأة" المخرج الإنجليزي في دفع المشاهدين إلى التعاطف مع قاتل. كذلك استمتع بالطريقة التي اعتمدها باول في صنع "توم المتلصص": "الألوان المتوهجة... حيث للمشهد جانب قذر، يأخذك بطريقة مضحكة إلى مشاعر غريبة وأساسية".

ثم هناك براعة الصناعة والشكل. مثلاً، في "قصة من كاتينبوري" ينتقل المخرجان بالزمن 600 سنة إلى الأمام عبر الانتقال بالصورة من طائر جارح في زمن تشاوسر، إلى طائرة حربية محلقة في السماء.

ولن يكون مفاجئاً أن نكتشف أن مشاهد محددة في فيلم سكورسيزي الجديد، "قتلة زهرة القمر" Killers of the Flower Moon، الذي سينطلق بالصالات [البريطانية] في أكتوبر (تشرين الأول)، متأثرة مباشرة بنواحي الإضاءة والتأطير أو المونتاج في بعض أفلام باول وبريسبرغر القديمة. فهو بالغ الشغف إزاء كل شيء في أعمالهما، من روحانية القصة الرومنسية التي تدور أحداثها على جزيرة في فيلم "أعرف إلى أين أذهب" (1945) I Know Where I am Going، وصولاً إلى استخدامهما اللون الأحمر [بما يتناسب مع الأجواء السينمائية].

الشهر المقبل ستستعاد الأعمال الأعظم لهذين المخرجين الشريكين على شاشات السينما، وذلك في إطار موسم يخصصه لهما "المعهد البريطاني للسينما" في مختلف أنحاء المملكة المتحدة. كما سيتسنى لنا قريباً مشاهدة الوثائقي الجديد عنهما الذي يرويه سكورسيزي. عنوان الوثائقي، وفق المعلومات على الإنترنت، "صنع في إنجلترا"، إلا أنه لم يعلن عنه رسمياً بعد، ويجري الحديث على أنه "رسالة الحب" التي خصها سكورسيزي لهما.

على مدى نصف قرن، منذ أن التقى سكورسيزي بالمخرج الإنجليزي في ذاك المطعم بنوتينغ هيل، قام المخرج الأميركي بما لم يقم به أحد ليُخرج باول وبريسبرغر من غياهب النسيان التي غرقا فيها. إلا أن أعمالهما لم تتوقف يوماً عن إيقاد مخيلته لفترة أطول بكثير من تلك المدة.

"سينما بلا حدود: عوالم باول وبريسبرغر الخلاقة يعرض بين 16 أكتوبر (تشرين الأول) و31 ديسمبر (كانون الأول)"

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من سينما