في سلسلة جديدة من التحركات "غير المسؤولة"، حسبما يصفها الخبراء والمحللون، تجاهل البنك المركزي التركي أن البنوك العاملة في تركيا أصبحت خاوية من الأموال، وأن تعليق الآمال على استمرار خفض الفائدة لن يقود البلاد إلى تحسن كبير في ملف الاقتصاد الذي يعيش أوضاعاً صعبة خلال الفترات الأخيرة.
وكشف البنك المركزي التركي عن تغييرات تنظيمية تحدد الأموال التي يتعين على المقرضين وضعها كاحتياطيات وفقاً لقيمة الائتمان الممنوح، في خطوة تيسيرية جديدة تستهدف دعم الاقتصاد.
وقال البنك المركزي التركي إنه سيتم تحديد نسب الاحتياطي الإلزامي للبنوك بالليرة التركية التي لديها نمو في القروض من 10 بالمئة إلى 20 بالمئة عند 2 بالمئة مع بعض الاستثناءات، بينما تظل دون تغيير بالنسبة إلى البنوك الأخرى.
واستثنى "المركزي التركي" الودائع وصناديق الاستثمار ذات الاستحقاق لمدة سنة أو أطول وغيرها من الخصوم ذات فترة أطول من استحقاق 3 سنوات، بما في ذلك الودائع التي تم الحصول عليها من البنوك في الخارج.
وتبلغ النسبة في الوقت الحالي 7 بالمئة للودائع التي تصل إلى 3 أشهر، و4 بالمئة للودائع لمدة 6 أشهر، و2 بالمئة للودائع لمدة عام.
بالإضافة إلى ذلك، قرر البنك المركزي التركي تحديد معدل التعويض الحالي البالغ 13 بالمئة على الاحتياطيات المطلوبة المقومة بالليرة التركية بنسبة 15 بالمئة للبنوك التي تتمتع بنمو قروض بين 10 بالمئة إلى 20 بالمئة و5 بالمئة للبنوك الأخرى.
ويعتبر هذا القرار خطوة تيسيرية جديدة تستهدف دعم الاقتصاد عبر تسريع نمو الائتمان الممنوح من البنوك، بعد أيام من قرار البنك المركزي خفض معدل الفائدة بنسبة 4.25 بالمئة.
وأشار "المركزي التركي" إلى أن هذا القرار سوف يساعد في إطلاق سيولة في السوق بقيمة 5.4 مليار ليرة وما يعادل 2.9 مليار دولار من الذهب والسيولة من العملات الأجنبية.
وسريعاً تفاعلت سوق العملة مع القرارات الجديدة التي أعلنها البنك المركزي التركي، حيث تراجعت الليرة التركية بنحو 1.4 بالمئة أمام الدولار لتصل إلى مستوى 5.6603 ليرة.
وشهدت الليرة تقلبات في وقت سابق هذا العام، بعدما هبطت نحو 30 بالمئة أمام الدولار في 2018.
أردوغان يواصل التدخل ويعتزم خفضا جديدا لأسعار الفائدة
ويواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تدخله بشكل مباشر في السياسة النقدية لبلاده، متجاهلاً النظريات والقوانين الاقتصادية التي تتحرك في إطارها البنوك المركزية على مستوى العالم. حيث كشف قبل أيام، عن أنه سيتم خفض أسعار الفائدة بشكل أكبر عقب التخفيضات التي أعلنها البنك المركزي الشهر الماضي، وسط تحذيرات من أن الخطوة التي تهدف إلى تشجيع الأفراد على الاقتراض ستفرغ خزائن البنوك.
وخفض البنك المركزي التركي أسعار الفائدة الرئيسة 425 نقطة أساس بشكل أكبر من المتوقع إلى 19.75 في المئة الشهر الماضي لتحفيز الاقتصاد، الذي يعاني من الركود في أول خطوة للابتعاد عن حالة الطوارئ التي أقرها خلال أزمة العملة العام الماضي.
وقال أردوغان إن "البنك المركزي التركي خفض أسعار الفائدة وسيتم خفضها بشكل أكبر". وأضاف "أدعو كل المواطنين والجميع إلى ضرورة تجاهل التكهنات بشأن اقتصادنا، عليكم فقط أن تؤدوا عملكم".
وبعد ساعات من توليه منصب محافظ البنك المركزي التركي، قال مراد أويسال، محافظ البنك المركزي التركي، إن البنك لديه فرصة "كبيرة" للمناورة بشأن أسعار الفائدة خلال الأشهر المقبلة.
البنوك التركية أصبحت خالية من الأموال
وفي بيان، اعتبر الخبير الاقتصادي التركي جان تيومان، أن الحكومة التركية التي ضغطت على الزر لإنعاش الاقتصاد من خلال تخفيض البنك المركزي لسعر الفائدة بسرعة "يتعين عليها أن تبحث عن سياسات جديدة بمجرد إدراكها أنه لا توجد أموال حالياً للقيام بذلك"، قائلا إن ذلك قد يجعل البنوك "خالية من الأموال".
وأشار إلى أنه في مثل هذه الأيام من العام الماضي كان لدى البنوك التركية ودائع بقيمة 807 مليارات ليرة تركية و154.1 مليار دولار من الودائع بالعملات الأجنبية. وخلال عام مضى بلغ متوسط سعر الفائدة الصافي (المعفاة من الضرائب) للودائع بالليرة التركية 19.32 في المئة و2.1 في المئة للودائع بالعملات الأجنبية في جميع البنوك التركية. ولفت إلى أن انخفاض المدخرات بدلا من زيادتها يخلق نقصا في الموارد، ويقلل من قدرة البنوك على منح القروض.
علاقة الأموال الرخيصة بإرادة الناخبين
وكالة "بلومبيرغ" ذكرت في تقرير حديث، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دائماً ما يُبدي امتعاضه عندما تفرض المصارف في البلاد تكلفة مرتفعة نسبياً على الأشخاص لاقتراض الأموال. ولا تعتبر هذه المسألة بمثابة أمر غير عادي بالنسبة إلى "سياسي" بالنظر إلى أن الأموال الرخيصة يمكن أن تضمن حشدا انتخابيا.
لكن ما يجعل الأمر غريبا فوق العادة بالنسبة إلى الرئيس التركي هو مجادلته غير التقليدية بشأن معدلات الفائدة المنخفضة وتصميمه على تحقيق ذلك من خلال انتزاع السيطرة على السياسة النقدية من محافظي البنوك المركزية المستقلين نظرياً.
وطرحت الوكالة 6 أسئلة تتعلق بما يدور في ذهن الرئيس التركي، أولها ما هي أزمة أردوغان مع معدلات الفائدة المرتفعة؟
حيث يرى الرئيس التركي أن معدلات الفائدة المرتفعة تؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي كما تزيد من معدلات التضخم. ويمثل كلا الأمرين مصدراً كبيراً للقلق بالنسبة إلى "أردوغان"، بخاصة بعدما عانى حزب "العدالة والتنمية" بقيادته من خسائر قوية داخل المدن الرئيسة خلال الانتخابات البلدية لعام 2019، بما في ذلك المركز التجاري "إسطنبول".
وتمر تركيا بأول ركود اقتصادي منذ نحو عقد، كما أن التضخم يدور في نطاق ما بين ثلاثة وأربعة أمثال مستهدف البنك المركزي البالغ 5 بالمئة.
ما هي مبررات أردوغان لإقحام نفسه في إدارة السياسة النقدية؟
لكن هل هذه مبررات معقولة لأن يتدخل الرئيس التركي في اختصاصات البنك المركزي التركي ويحدد بنفسه مصير سعر الفائدة؟
ترى "بلومبيرغ" أن مبررات أردوغان تتمثل في أنه عندما يزيد البنك المركزي التركي معدلات الفائدة، فإن المصارف تكون أقل قدرة على الاقتراض من أجل الحفاظ على الاحتياطيات الإلزامية، كما تميل للإقراض بمعدلات الفائدة المرتفعة الخاصة بها.
ومن شأن ذلك أن يجعل القروض بالنسبة إلى الشركات أكثر ندرة وأكثر تكلفة، وبالتالي يمكن أن تبطئ الاقتصاد. كما يرى أردوغان أن معدلات الفائدة المرتفعة تتسبب في زيادة في الأسعار، تتناقض مع النظريات الاقتصادية التقليدية.
وتعتقد تلك النظريات أنه عندما ترتفع معدلات الفائدة فإن معدلات الاقتراض تتراجع ما يدفع المستهلكين للإنفاق بصورة أقل وكبح التضخم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المحتمل أن نظرية أردوغان تعتمد جزئياً على خبرته في إدارة الشركات، والتي كان أغلبها في الصناعات الغذائية، قبل أن يبدأ عمله السياسي ويصبح رئيساً لتركيا. وتقترض العديد من الشركات التركية بشكل كثيف نسبياً لتأمين قدرتها على تغطية النفقات التشغيلية ما يجعل التقلبات في تكاليف الاقتراض مصدراً لحالة عدم اليقين، كما يجعل زيادة الفائدة بمثابة نفقات إضافية.
ومن وجهة نظر الرئيس التركي، فإن معدلات الفائدة المرتفعة تؤدي إلى ارتفاع الأسعار بسبب أن الشركات ليس أمامها خيار سوى تمرير التكاليف المتزايدة تلك إلى عملائها. ويفترض هذا الإطار تحدي الاقتصاديين التقليديين، مثل أن معدلات الفائدة تشكل جزءاً كبيراً من تكاليف الشركات وأن المنتجين لديهم قوة تسعير كافية لفرض رغباتهم على المستهلكين.
هل هناك من يؤيد النظريات الاقتصادية الجديدة للرئيس التركي؟
السؤال الرابع الذي طرحته "بلومبيرغ" يتعلق بمن يدعم ويتفق مع تصرفات وتحركات أردوغان بشأن سعر الفائدة؟
وذكرت أن قليلين يؤيدون وجهة نظر الرئيس التركي، وقد لقبت المبررات القائلة بأن معدلات الفائدة المنخفضة تنتج معدل تضخم منخفض باسم "التمرد الجديد"، وذلك في عام 2014 من قبل الكاتب في وكالة "بلومبيرغ"، نوح سميث، عندما كان أستاذاً مساعداً للتمويل بجامعة ستوني بروك في نيويورك. وكانت تمثل إشارة إلى نظرية للخبير الاقتصادي بجامعة ييل "إيرفينج فيشر" حول العلاقات بين التضخم ومعدلات الفائدة الاسمية ومعدلات الفائدة الحقيقية (تستبعد أثر التضخم).
أما المنتقدون لهذه الفكرة، فإنهم يرون أنه حتى لو كانت نظريتهم تحمل صحة ما فلن تكون قابلة التطبيق على اقتصاد مثل تركيا، والذي يعاني من ارتفاع مزمن في معدل التضخم كما يعتمد على التمويل الأجنبي، حيث يقلل خفض معدلات الفائدة من العائد على الاستثمار في الأصول التركية، كما تميل العملة المحلية إلى الضعف مقارنة بالعملات الأخرى عندما يقرر الأجانب وضع أموالهم في مكان آخر.
وهو ما يؤدي إلى زيادة تكلفة السلع المستوردة بالليرة كما يتسبب في ارتفاع الأسعار أو زيادة معدل التضخم. لكن لم تكتسب هذه النظرية الدعم الكافي حتى تصبح أساس السياسة النقدية لأيّ دولة، على الرغم من أن أردوغان يحاول أن يجعل تركيا هي النموذج لذلك.
كيف تحرك أردوغان لتنفيذ فكرته؟
أما السؤال الخامس الذي طرحته الوكالة فيتمثل في: ماذا فعل أردوغان لتنفيذ هذه الأفكار؟
بالفعل، قلص أردوغان استقلالية البنك المركزي، حيث قام بعد فوزه في إعادة الانتخابات الرئاسية عام 2018 بإدخال تعديل يمنحه السلطة التنفيذية لتعيين أعضاء لجنة تحديد سياسة معدل الفائدة بالبنك. وفي أوائل شهر يوليو (تموز) الماضي، أعلن إقالة محافظ البنك المركزي التركي، مراد سيتينكايا، بعد الضغط عليه من أجل الحد من تكاليف الاقتراض، لكنه لم يستجب لمطالب أردوغان المتكررة بشأن خفض كبير في أسعار الفائدة.
وقدم المحافظ الجديد للبنك المركزي التركي أكبر خفض في معدل الفائدة التركي منذ عام 2002 في الأقل، عندما تبنت تركيا هدف التضخم كإطارها النقدي. وفي العديد من الدول، يُمنح محافظي البنوك المركزي الاستقلالية في تحديد معدلات الفائدة على المدى القصير كضمانة ضد دوافع السياسيين لتعزيز الائتمان على حساب قوة الاقتصاد على المدى الطويل.
لكن ماذا يهم إذا كان أردوغان مخطئاً؟ ترى "بلومبيرغ" أنه إذا كان أردوغان مخطئاً، ويشير التاريخ إلى أنه كذلك، فإن معدلات الفائدة المنخفضة التي يضغط لتطبيقها من شأنها أن تتسبب في ضعف الليرة وتسارع التضخم. وربما يندم أردوغان على أفعاله، حيث إن هذه التهديدات يمكن أن تسهم في تآكل قاعدة شعبية الرئيس.
ويوجد كذلك خطر قيام المستثمرين في الديون التركية بالابتعاد عن تلك الأصول بسبب انخفاض الفائدة. ويُعد سوق الديون التركية واحداً من أكبر الأسواق الناشئة، والذي تبلغ قيمته نحو 223 مليار دولار، وهو على قدم المساواة مع السوق الروسية المماثلة.
وبسبب معاناة تركيا من نقص في المدخرات، فإنها تعتمد على هؤلاء المستثمرين لتمويل التوسع الاقتصادي. ومن شأن فقدان هؤلاء المستثمرين شهيتهم حيال سوق الائتمان التركية أن يقوض الآثار الإيجابية للأموال الرخيصة على النمو الاقتصادي.