ملخص
يلتسين يقتحم وزارة الدفاع بعد منتصف الليل طلباً لقصف البرلمان ويهدد رئيس المحكمة الدستورية
يتذكر مواطنو روسيا الاتحادية حقبة التسعينيات بكثير من الألم. وكانوا اختتموا عامها الأول بأكبر كوارث القرن الـ20، بحسب ما قال الرئيس فلاديمير بوتين الذي وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه "أكبر الكوارث الجيوسياسية" في ذلك القرن. وما إن سقطت الدولة العظمى حتى عكفت "حفنة" من أبناء روسيا الاتحادية وعلى رأسهم بوريس يلتسين وعدد من رفاقه ممن سقطوا في شباك الغرب على دراسة سبل الإجهاز على ما بقي من دعائم تلك الدولة، عبر تبديد ثرواتها تحت ستار "الخصخصة" وبيع ثروات الوطن، ولتتسع الهوة بين رفاق الأمس وتتباين المقاصد والتوجهات. وكشف مهندس الخصخصة نائب رئيس الحكومة رئيس ديوان الكرملين في تسعينيات القرن الماضي أناتولي تشوبايس عن حقيقته، التي أوجزها في ما بعد بقوله إن "مهمته تلخصت في تدمير الشيوعية، إيماناً من جانبه بأن كل مصنع يباع هو مسمار في نعش الشيوعية". وأذكر بهذا الصدد كثيراً من اعترافات يلتسين ورفاقه ممن لم تخرج تصريحاتهم بهذا الشأن عما قاله تشوبايس، الذي انتهى به المطاف هارباً إلى تركيا ومنها إلى إسرائيل مع أول أيام "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في أوكرانيا. وكان قد فرغ من مهمته في سنتين كانتا وحدهما كافيتين لإماطة اللثام عن حقيقة الفريق واستراتيجية الرفاق.
"زوركين" والمرسوم 1400
كان المرسوم 1400 الذي أصدره بوريس يلتسين في 21 سبتمبر (أيلول) 1993 تحت رقم 1400، يقضي بحل مجلس السوفيات الأعلى (البرلمان)، والإعلان عن انتخابات برلمانية جديدة، وهو ما سارعت المحكمة الدستورية برئاسة فاليري زوركين بتأكيد عدم دستوريته.
ومن "مذكرات يلتسين" ننقل أنه استطلع آراء عدد من كبار رجاله ومنهم وزير الدفاع بافيل غراتشوف، وميخائيل بارسوكوف الرئيس السابق لجهاز الأمن والاستخبارات الذي عارض إقرار هذا المرسوم. وتوالت الأحداث سريعة عاصفة، وسرعان ما كشف رئيس مجلس السوفيات الأعلى روسلان حسب اللاتوف وألكسندر روتسكوي، نائب الرئيس الروسي، عن اعتراضهما ضد المرسوم، مدعومين بمواقف الغالبية من نواب مؤتمر نواب الشعب الذي اجتمع للإعلان عن عزل يلتسين، وتنصيب نائب الرئيس روتسكوي قائماً بأعمال الرئيس. وأذكر أن يلتسين بدأ آنذاك محاولات استمالة عدد من كبار قيادات البرلمان ومنهم سيرغي فيلاتوف الذي نجح في إقناعه بقبول التخلي عن منصبه البرلماني مقابل تعيينه رئيساً لديوان الكرملين. وأذكر أن فيلاتوف وكان يشغل منصب النائب الأول لرئيس مجلس السوفيات الأعلى، ومعه وزير الخارجية آنذاك أندريه كوزيريف وآخرون، دعوا عدداً من رموز الصحافة الأجنبية إلى "بيت الصحافة" الذي يشغله اليوم مجلس الاتحاد (المجلس الأعلى للجمعية البرلمانية الفيدرالية)، وكنا منهم من موقعنا آنذاك كمدير لمكتب "الشرق الأوسط" في موسكو، مع رموز كبريات وكالات الأنباء العالمية، حين قاموا بشرح أبعاد الموقف وتفاصيل الصراع مع "قوى الرجعية"، بحسب ما قالوا. وطلبوا على نحو غير مباشر المساهمة في النشر من دون الإشارة إلى المصدر، من منظور رؤيتهم التي قدموها في إطار تصوير الموقف وكأنه صراع حول السلطة من جانب البرلمان ونائب الرئيس، ضد موقف الرئيس يلتسين الذي "يناضل من أجل دعم الديمقراطية". ولم يمض من الزمن سوى بضعة أيام حتى زار مكتبنا سيرغي بابورين، أحد أبرز أعضاء مجلس السوفيات الأعلى، ومنه علمت بلقاء جرى بين سيرغي فيلاتوف وفاليري زوركين، رئيس المحكمة الدستورية العليا، وكان يقيم في أحد المباني المجاورة لمكتب "الشرق الأوسط"، والمخصصة لأعضاء البرلمان. ورداً على سؤالي عن جوهر اللقاء وموقف زوركين رئيس المحكمة الدستورية العليا، قال بابورين إن الرد يمكن معرفته من زوركين. واصطحبني إليه حيث يقيم. وهناك استقبلني رئيس المحكمة الدستورية بوجه شديد الشحوب وقد اعتراه الضعف والهزال. نقل لي ما قاله فيلاتوف عن عرض الرئيس يلتسين حول الرجوع عن قرار عدم دستورية المرسوم 1400، وأن يقدم استقالته من منصب رئيس المحكمة الدستورية، والقبول بمنصب عضو المحكمة. ورداً على تساؤله عن الموقف في حالة الرفض، أجابه فيلاتوف بقوله إنه "لا يحبذ مثل هذا الرد نظراً إلى عدم استقرار الأوضاع في العاصمة، واحتمالات حوادث السيارات، ومدى الخطورة التي قد تلحق بأي من أبنائه!".
وأسارع لأشير إلى أن فاليري زوركين حظي خلال الأيام القليلة الماضية من موقعه كرئيس للمحكمة الدستورية العليا، بلقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين، قدم فيه خريطة لأوكرانيا تؤكد تبعية كثير من أراضيها لروسيا، كما شهد مجلس الاتحاد (المجلس الأعلى للجمعية البرلمانية الفيدرالية) لقاء آخر للتصديق على تجديد تعيينه رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، بعد أن كان بوتين أعاده مع مطلع سنوات ولايته الأولى رئيساً لهذه المحكمة التي انتقلت إلى سانت بطرسبورغ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يلتسين في وزارة الدفاع
وتمضي الأيام عاصفة، صاعقة تنذر بما لا تحمد عقباه. ويحكم الرئيس الأسبق يلتسين حلقة حصاره حول البرلمان، وتظهر الأسلاك الشائكة "صناعة أميركية"، لتضفي على الموقف بعداً جديداً عميق المغزى. ويتدفق رجال الشرطة والأمن دعماً لحلقة الحصار حول المبنى. وتستمر الاتصالات من دون ما يشير إلى انفراجة، ليتضاعف الموقف على نحو أكثر مأسوية صوب ما هو على النقيض، وتتفاقم الأزمة وتقطع المياه والكهرباء وخطوط الهواتف عن مقر السوفيات الأعلى. وراح النواب يعقدون جلساتهم واجتماعاتهم الرسمية داخل المبنى على ضوء الشموع. ولعب عدد من المراسلين الصحافيين الروس دورهم كخطوط اتصال بين أطراف الأزمة من أعضاء البرلمان والمسؤولين في الحكومة والدولة. وتتسع دائرة الحصار لتشمل مساكن أعضاء البرلمان في المبنى رقم 26 شارع روبليوفسكويه في غرب العاصمة. ويظهر القناصة وقوات الأمن المركزي فوق أسطح المنازل المجاورة لمقر السوفيات الأعلى مع مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 1993.
وتحدد قوى المعارضة الأحد الثالث من أكتوبر موعداً لتظاهراتها الحاشدة في قلب العاصمة، التي انتهت بالصدام مع قوات الأمن والشرطة واقتحام دائرة الحصار. ويعتلي قادة البرلمان وكبار قيادات المعارضة الشرفة الخلفية لمبنى السوفيات الأعلى يناشدون الجماهير التوجه إلى الكرملين ومبنى التلفزيون في شمال العاصمة. ويرتفع العلم السوفياتي الأحمر برموزه المنجل والمطرقة فوق مبنى بلدية العاصمة المواجه لمقر السوفيات الأعلى. ويتساقط الضحايا الذين قالت المصادر الرسمية إن عددهم 158 شخصاً، بينما كان في واقع الأمر زهاء عدة أضعاف هذا العدد.
ومع حلول المساء تبلغ الأحداث ذروتها، ويخرج الرئيس يلتسين من عزلته في مقر سكنه في ضواحي المدينة، إذ اختار الهليكوبتر سبيله إلى الكرملين. ويقول قائد حراسته ورفيق المسيرة منذ طرده من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1987، ألكسندر كورجاكوف، إنه حار طويلاً حتى استقر على ضرورة الصمود والتصدي. ويستدعي يلتسين وزير دفاعه الجنرال بافيل غراتشوف في محاولة لإقناعه باتخاذ ما يلزم من إجراءات. ويعقد الجنرال اجتماعه في مقر وزارة الدفاع القريب من الكرملين، بينما يظل يلتسين في انتظار القرار إلى ما بعد منتصف الليل. ولما طال الانتظار من دون أن يصله الرد، قرر يلتسين مداهمة مقر اجتماع الوزير مع رجاله من دون سابق إنذار. دلف إلى القاعة ليجلس على مقربة من بابها، وطلب من الجنرالات مواصلة جدلهم، ليتوقف الجدل من دون نتيجة. ووقف الوزير لإعلان استحالة ما يطلبه يلتسين من دون "أمر كتابي". وكان المطلوب إرسال بضع دبابات لقصف مقر السوفيات الأعلى الكائن على مسافة أقل من كيلومتر واحد عن الكرملين. وانتفض يلتسين واقفاً ليقول "ليكن ما تطلبه"، وغادر المكان.
"سي أن أن" و"بث مباشر" لقصف البرلمان
كان الهرج والمرج يسود مبنى السوفيات الأعلى الذي انتشرت الظلمة بين أرجائه، عدا بصيص أضواء الشموع في بعض غرف وطرقات الأدوار العليا. وما إن اقتربت الساعة من العاشرة مساء، حتى بدأ مراسلو "سي أن أن" في التسلل إلى خارج المبنى. ولم نفهم سر مغادرة المكان سوى صباح اليوم التالي. كانوا قد استأجروا بعض غرف "فندق أوكرانيا" (حالياً راديسون) المواجه لمقر السوفيات الأعلى، حين استطاعوا الانفراد بنقل مشاهد المأساة على الهواء مباشرة، وتسجيل الحدث التاريخي صوتاً وصورة!
وما إن لاح صباح الرابع من أكتوبر 1993 حتى انفجر الموقف، وبدأ القناصة من على سطح وممرات المبنى المجاور مهمتهم. راحوا يقصفون المبنى لتتساقط طلقات الرصاص فوق السجاد المفروش في ممرات الأدوار العليا، وينبعث الدخان منها "حاداً ثقيل الرائحة"، بينما بدأت الدبابات مهمتها، ودوت طلقاتها عالية صاخبة تزيد من حدة التوتر، واندلعت ألسنة اللهب تلتهم المكان، على مرأى ومسمع من الجماهير التي احتشدت على الضفة الأخرى من نهر موسكو المواجه للمبنى.
وما إن انتصف النهار حتى كان الجميع فرغوا من مهمتهم... أعضاء مجلس السوفيات الأعلى من مهمة المعارضة، وقوات الأمن من مهمة تحييد المجلس وإرغام أعضائه على الاستسلام. واندفع من بقي في المبنى إلى الخارج حيث كان ينتظرهم أفراد الأمن المركزي وقوات الأمن والشرطة. وظهر روسلان حسب اللاتوف رئيس مجلس السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية ومعه رفيق الأمس ليلتسين ألكسندر روتسكوي نائب الرئيس، الذي لم يستمر في منصب القائم بأعمال الرئيس أكثر من 10 أيام ظل خلالها حبيس مقر المجلس، وعدد من رفاقهما. خرجوا منكسي الرؤوس تحت حراسة رجال الأمن إلى سجن ليفورتوفو الذي يعود تاريخه إلى عام 1881، وتحولت تبعيته من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل مطلع القرن الجاري.
انتصار بلون الدم
عاشت موسكو "انتصار" يلتسين ورفاقه ممن انفردوا بالحكم، لمواصلة ما بدأوه من مسلسل عبثي. راحوا يحتفلون بالنصر، ويستعدون لاقتسام ما بقي من التركة. أعدوا في عجالة دستوراً جديداً نص على إلغاء منصب نائب الرئيس، واستبدال بـ"السوفيات الأعلى" "مجلس الدوما" وتعني "الفكرة أو الرأي"، وهو المجلس التشريعي التاريخي إبان سنوات الإمبراطورية الروسية. وأجريت الانتخابات البرلمانية التي أسفرت نتيجتها عن فوز الحزب الديمقراطي الليبرالي (حزب جيرينوفسكي المتطرف) بالغالبية. وعقد "مجلس الدوما" الجديد أولى جلساته في مطلع يناير (كانون الثاني) 1994، إذ أقر العفو العام عن كل من جرى اعتقاله في الرابع من أكتوبر 1993.
ولم يمض من الزمن سوى القليل، حتى اندلعت حرب الشيشان الأولى 1994 - 1996، التي كانت خير دليل على فشل السياسات وسوء التقدير. وسارت الأمور في روسيا من سيئ إلى أسوأ. وتدهورت الأوضاع الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وغرقت البلاد في الفوضى وتدنت شعبية بوريس يلتسين حتى 3-6 في المئة في يناير 1996. وأسهم ذلك في صعود القوى السياسية الجديدة وبخاصة الحزب الشيوعي الروسي الجديد بزعامة غينادي زيوغانوف الذي خاض الانتخابات الرئاسية التالية بعد عامين اثنين، ليحقق المفاجأة الكبرى. وكان الحزب الشيوعي فاز بالغالبية البرلمانية، التي انطلق منها ليحقق المفاجأة في الانتخابات الرئاسية في صيف 1996 أمام بوريس يلتسين، الذي كان خاض هذه الانتخابات تحت إشراف خبراء أميركيين، مع أناتولي تشوبايس الذي "استأجره" أصحاب البنوك السبعة، لإدارة الحملة الانتخابية ليلتسين، وذلك قبل أن ينتهي به الحال هارباً إلى تركيا ومنها إلى إسرائيل مع بداية "العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا". استطاع يلتسين أن يحقق الفوز في الجولة الأولى ليخوض انتخابات الإعادة أمام زيوغانوف، زعيم الحزب الشيوعي. وفي حملة محمومة أعدها أثرياء روسيا الجدد بتمويل من أصحاب البنوك السبعة بزعامة الملياردير فلاديمير غوسينسكي، إمبراطور الإعلام رئيس المؤتمر اليهودي الروسي، المقيم الآن في إسرائيل، وبوريس بيريزوفسكي زميله الذي هرب إلى بريطانيا ليقضي نحبه نحراً أو انتحاراً في مطلع القرن الجاري، جرى إعداد الجولة الثانية مسلحة بكل أشكال الضغط الإداري والتزوير بما كان يسمح بفوز يلتسين، بحسب مصادر كثيرة، وبالقرائن والأدلة.
وكان يلتسين قد امتثل لكل شروط مليارديرات روسيا الجدد وسادتهم من وراء المحيط، ممن أرغموه على التخلي عن كل رفاقه القدامى، ليبقى وحيداً يصارع المرض، ويرافق "الشراب"، بحثاً عن وريث يقيه شرور الحساب والعقاب، حتى قدم له فالنتين يوماشيف رئيس ديوان الكرملين وزوج ابنته تاتيانا فلاديمير بوتين مع نهاية القرن الماضي.