Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تشد أحداث التطهير العرقي العالم إلى الوراء

لا تزال تطل برأسها في القرن الـ21 خلال فترات التغيير العنيفة ومشاهد الفارين من القتل والتعذيب تغمر الشاشات

منشأة في بلدة برييدور شمال البوسنة تخلد ذكرى ضحايا التطهير العرقي عام 1992 الذي قامت به القوات الصربية (أ ف ب)

ملخص

نشأ مفهوم "التطهير العرقي" خلال حروب البلقان والصراعات الناشئة عن تفكك يوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي

من أكثر الصور تكراراً خلال الفترة الأخيرة في مناطق متفرقة من العالم مشاهد لاجئين فارين بعد نجاتهم من القتل أو التعذيب، يحدث هذا عادة في حال الحروب، ولكن يزداد المشهد كثافة وعمقاً مأساوياً حينما يعكس صور الفارين وهم ينظرون إلى الخلف حيث منازلهم تشتعل فيها النيران، وآثار الحرائق في كل مكان، وتبدو مناظر جنود أو ميليشيات مسلحة تواصل عنفها بالسلب والنهب.

للوهلة الأولى تبدو المشاهد وكأن العالم على أعتاب تحول تاريخي، ولكن بقليل من النبش في الذاكرة السياسية-  الاجتماعية، نجد أن هذا المشهد محفور في الذاكرة، وباق في أضابير التاريخ منذ أن ظهرت ممارسة التطهير العرقي إلى الوجود، ويقال إنها تعود إلى قرون بعيدة منذ ما قبل التاريخ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم ذلك لم تجد تعريفاً مناسباً أو قانوناً يدينها بشكل صريح، ولم يتم بعد الاعتراف بالتطهير العرقي كجريمة مستقلة بموجب القانون الدولي، كما لم يرد ذكره في معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي أسوة بجرائم إنسانية أخرى.

الاتهام الذي وجهته أرمينيا لأذربيجان باعتمادها سياسة "تطهير عرقي" تجاهها عبر حصار منطقة ناغورنو قره باغ المتنازع عليها، ليس الأول من نوعه لا في المنطقة ولا العالم، فتاريخ التطهير العرقي يجسد أحداثاً صادمة وإن تشابهت أو تكررت. ويمكن لمقولة نعوم تشومسكي التي وردت في كتابه "الدول الفاشلة... إساءة استعمال القوة والتعدي على الديمقراطية" إذ قال "إذا كنا نأمل في فهم العالم، فمن المهم ألا نسمح للماضي القريب بأن يغيب في مطاوي النسيان"، أن تعيدنا إلى سنوات قاسية وماض كثيف ممتلئ بالتطهير العرقي خلال النزاعات أو أحداث أخرى.

و"التطهير العرقي" من العبارات التي تتسم بالغموض، على رغم حدوثه في أماكن وأزمان عديدة تكاد تكون غير محدودة. وفي الواقع يكاد التعبير يكون مرادفاً لتعبير "الإبادة الجماعية"، ويثير كثيراً من القلق بسبب اتساع نطاقه، ولأنه من الكلمات المشحونة بالمحتوى الانفعالي، وكان القرن الـ21، الذي يعتقد أنه على وشك إلغاء "الإبادة الجماعية"، يعتقد كذلك أنه على وشك إلغاء "التطهير العرقي"، فإن أي منهما لا يزال يظهر في غمار فترات التغيير التي تتسم بالعنف الثوري والتظلمات التاريخية.

المحيط الإثني

نشأ مفهوم "التطهير العرقي" خلال حروب البلقان والصراعات الناشئة عن تفكك يوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، على رغم أنها ليست أول مظهر من مظاهر النقل القسري للسكان للاجئين خلال قرون خلت.

أصدر مجلس الأمن الدولي عديداً من القرارات التي تتطرق إلى التطهير العرقي، وأولها القرار 771 في شأن حرب البوسنة الصادر في أغسطس (آب) 1992 كما أنشأت الأمم المتحدة لجنة خبراء بموجب قرار مجلس الأمن رقم 780  للتحقيق في انتهاكات القانون الدولي في يوغوسلافيا، وأصدرت اللجنة تقريراً مؤقتاً عام1993 ، ووفقاً لهذا التقرير، فقد شمل التطهير العرقي "جعل منطقة ما متجانسة عرقياً باستخدام القوة أو الترهيب أو الترحيل القسري أو الاضطهاد أو طمس الخصوصية الثقافية واللغوية والإثنية، وذلك عبر القضاء عليها نهائياً أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يراد له أن يسود"، وفي تقريرها النهائي عام 1994، أضافت اللجنة إليه "سياسة هادفة صممتها مجموعة عرقية أو دينية واحدة لإزالة السكان المدنيين من مجموعة عرقية أو دينية أخرى بوسائل عنيفة ومثيرة للرعب من منطقة جغرافية معينة".

ولاحظت اللجنة أيضاً أن الأفعال التي تندرج في إطار التطهير العرقي يمكن أن تندرج أيضاً ضمن جريمة الإبادة الجماعية، لذلك يتم الخلط بينهما في حين أن الإبادة الجماعية هي محاولة القضاء واستهداف مجموعة كبيرة معينة والقتل العمد لأفرادها بناء على الجنسية أو العرق أو الدين، بينما يرتبط التطهير العرقي بمحاولة إزالة مجموعات معينة من أراض معينة. كما ينطوي على بعض السلبيات لأنه يعرف بأنه تطهير لتدمير البشر الذين واجهوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

عملية معقدة

في مقاله المنشور عام 1993 بعنوان "نبذة تاريخية عن التطهير العرقي" بمجلة الشؤون الخارجية كتب أندرو بيل فيالكوف "على رغم أن عمليات التطهير الأولى لا تزال مصاغة بمصطلحات دينية، فإن أولى عمليات التطهير القائمة على التمييز العرقي هي التي نفذتها إنجلترا في أربعينيات وخمسينيات القرن الـ17، عندما اكتسحت الحرب والطاعون نصف السكان الإيرلنديين، فاغتنمت إنجلترا الفرصة لطرد معظم الكاثوليك الإيرلنديين المتبقين من أولستر، وبحلول عام 1688 أصبح 80  في المئة من أراضيهم مملوكة للبروتستانت الإنجليز والإسكتلنديين".

 

 

وبعد نحو70  عاماً في خريف عام 1755، تعرض المستوطنون الفرنسيون الذين قدموا منذ عام 1604 إلى القارة الأميركية واستوطنوا منطقة أكاديا على الساحل الشرقي الكندي إلى ترحيل 140 ألف من الأكاديين وهو ما عرف بالترحيل الكبير، وأحرقت منازلهم وصودرت أراضيهم.

يقول المؤرخ جون ماك فراجر، إن إزالة الأكاديين" تمت بشكل قسري وجرى إعادة توطين أكثر من عشرة آلاف شخص من قبل ميليشيات (ماساتشوستس) بمساعدة القوات البريطانية، وكانت تلك الحلقة الأولى من التطهير العرقي الذي ترعاه الدولة في تاريخ أميركا الشمالية"، وأكد أن "استعمار أميركا الشمالية كان مصحوباً بعديد من الأحداث القاتلة، لكن إزالة الأكاديين هي أول حال مسجلة بالتخطيط وتنفيذ عملية معقدة لتهجير ونقل آلاف العائلات قسراً، وإعادة استعمار الأرض من قبل المستوطنين".

أضاف فراجر "لم يكن ذلك هو التطهير العرقي الأخير، ففي عام 1830 أصدر الكونغرس الأميركي قانون إزالة الهنود الحمر، وهو في جوهره إذن للحكومة الفيدرالية بمساعدة ولايات مثل جورجيا في إبعاد الشعب الهندي من وطنه التقليدي"، وفي ذلك قال فيالكوف أيضاً "استقر الناجون من عمليات التطهير العرقي للأميركيين الأصليين التي جرت في ثلاثينيات القرن الـ19 في الأراضي الهندية، ثم في عام1862  ظهر تدمير المجموعة العرقية كهدف للدولة. وفي العقدين التاليين لعام 1866 شرعت الحكومة الفيدرالية في تخصيص المحميات للقبائل الهندية، أما العرقيات التي لم تهزم سابقاً مثل السايوكسي، والكومانشي، وألغونكين وغيرهم، فقد قاوموا وتم سحقهم لاحقاً".

جهود التطهير

من أشهر أمثلة التطهير العرقي التي حدثت خلال القرن الـ20، كانت المذبحة التركية للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى. ولم يتجل التطهير لمجموعة عرقية كهدف للدولة إلا في القرن الـ19، عندما بدأت تركيا في توجيه جهود التطهير ضد اليونانيين والأرمن، وبعد أن أصبح ينظر إلى تلك الأقليات على أنهم أعداء في الداخل شجع السلطان التركي عبد الحميد الثاني أعمال النهب الكردية على القرى الأرمنية حتى تطورت الأعمال العدائية إلى حرب، وبحلول عام 1894 انضمت القوات النظامية التركية إلى الأكراد، وقتل نحو 200 ألف أرمني، وتواصل القتل الجماعي الممنهج وطرد الأرمن من أراضي الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، ففي عام 1915 فقد الأرمن ما يقدر بنحو1.5  مليون شخص، أي أكثر من نصف سكانهم، إضافة إلى نحو90  في المئة من أراضيهم العرقية.

وهناك التطهير العرقي للتتار في شبه جزيرة القرم وترحيل ما يقرب من 200 ألف منهم قسراً من بلادهم إلى مناطق استيطان خاصة في أوزبكستان وجبال الأورال عام 1944 .

أما الهدف من الحملة الصربية فقد كان إبعاد السكان من أجل خلق دولة أكثر أماناً وتجانساً عرقياً بعد تفكك يوغوسلافيا في مطلع التسعينيات، ووجهت اتهامات إلى القادة الصرب بالتطهير العرقي بهدف إقامة "صربيا الكبرى" خلال حروب البلقان، وجرى إبعاد أكثر من مليون شخص من غير الصرب خلال حرب البوسنة في الفترة من 1992 إلى 1995، كما اتهم الجيش الكرواتي وقوات كروات البوسنة بالتطهير العرقي خلال حرب البوسنة وحرب كرواتيا من 1991 إلى1995، واعترفت القوات الصربية بأن العملية مجرد تطهير عرقي لأغلبية البوشناق والأقلية الكرواتية من الأراضي التي ينبغي أن تكون جزءاً، أو متحالفة مع صربيا، حيث يفرض عليهم هذا الإجراء لحماية ما يمكن أن يكون أقلية من السكان الصرب في البوسنة المستقلة.

إعادة توطين

واتهمت ميليشيات "الجنجويد" ذات الجذور العربية التي استعان بها نظام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير في دارفور وقام بتسليحها في حربه مع الحركات المسلحة التي تنتمي إلى القبائل الزنجية، بالتطهير العرقي خلال النزاع في الإقليم الذي اندلع منذ عام 2003، وأسفر في عقدين من الزمن عن مقتل حوالى 300 ألف شخص وتهجير5.2 مليون شخص، وتخللت الحرب جرائم قتل واغتصاب وسلب ونهب وحرق للقرى.

 

 

ولم تنته الحرب في دارفور بسقوط نظام البشير، بل واصلت هذه القوات التي أصبحت "الدعم السريع" خروقات حقوق الإنسان في غرب دارفور، بحسب ما وثقت "هيومن رايتس ووتش" نماذج من هذه الممارسات قالت إنها تصل إلى مستوى التطهير العرقي، الذي يتم بوسائل عنيفة لإزالة السكان من جماعات عرقية هي الفور والمساليت. وفي الحرب الأخيرة التي التحمت فيها حرب الخرطوم المشتعلة، منذ أبريل (نيسان) الماضي، بحرب دارفور، نفذت عمليات قتل لهذه الجماعات راح ضحيتها والي غرب دارفور خميس أبكر بعد ساعات من انتقاده قوات "الدعم السريع" والمقاتلين من عرب دارفور المتحالفين معه في شأن التطهير العرقي، كما هوجمت14  قرية جنوب غربي مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور وأحرقت في يوم واحد لإزالة هذه الجماعات العرقية وإعادة توطين "الجنجويد" وجماعات عرقية عربية فيها، وأفاد سعد بحر الدين، سلطان دار المساليت، الذي وصل إلى شرق تشاد، في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، أن ما يقرب من70  في المئة من سكان الجنينة لجأوا إلى مدينتي أدري وأبيشي التشاديتين.

أزمة الروهينغا

قبل أغسطس 2017، كان غالبية "الروهينغا" الذين قدر عددهم بنحو مليون نسمة يمثلون ما يقرب من ثلث السكان في ميانمار، وهم مسلمون يختلفون عن الجماعات البوذية المهيمنة في البلاد عرقياً ولغوياً ودينياً، ومنذ الاستقلال في عام 1948، دحضت الحكومات المتعاقبة في بورما، التي أعيدت تسميتها إلى ميانمار، في عام 1989، مزاعم "الروهينغا" التاريخية، وحرمت الاعتراف بها كواحدة من المجموعات العرقية الرسمية في البلاد البالغ عددها 135  مجموعة.

بعد هجمات نفذتها جماعة مسلحة تعرف باسم "جيش إنقاذ روهينغا أراكان" في أغسطس 2017، على مواقع للشرطة والجيش، شن الجيش حملة دمرت مئات قرى الروهينغا وأجبرت ما يقرب من 700 ألف منهم على مغادرة ميانمار، وقتل ما لا يقل عن6700  منهم في الشهر الأول من الهجمات، وفقاً لمنظمة "أطباء بلا حدود"، بينما وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أعمال العنف بأنها تطهير عرقي.

منطقة انفصالية

بعد هجوم عسكري نفذته أذربيجان، في سبتمبر (أيلول) الماضي، على المنطقة الانفصالية ناغورنو قره باغ داخل حدود أذربيجان المعترف بها دولياً ولكن يسيطر عليها السكان الأرمن، اضطر أكثر من 100 ألف شخص من الأرمن إلى الفرار، وقالت المتحدثة باسم رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان إن أكثر من65036  شخصاً عبروا إلى أرمينيا، واتهم رئيس الوزراء الأرميني أذربيجان بممارسة التطهير العرقي في الإقليم، وأعلنت أرمينيا نزوح أكثر من نصف أرمن المنطقة الانفصالية، والذين كان عددهم يبلغ 120 ألفاً، بعد هجوم أذربيجان.

وتعود أزمة المنطقة إلى أنه قبل 100 عام، منح الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين قره باغ الحكم الذاتي كجيب ملحق بجمهورية أذربيجان السوفياتية، وبزوال الاتحاد السوفياتي أعلن أرمن الإقليم من جانب واحد "جمهورية آرتساخ" لتبدأ الحروب وتنتهي بسقوط عشرات الآلاف من الضحايا وتشريد أكثر من مليون شخص.

وبينما شدد المسؤولون على أن العملية مستمرة، أكدوا كذلك على أن أرمن ناغورنو قره باغ لا يزالون يواجهون خطر التطهير العرقي. ويستمر النزوح الجماعي للأرمن منها بعد الإعلان عن حل الجمهورية الانفصالية المعلنة من جانب واحد، إذ وقع رئيس ناغورنو قره باغ سامفيل شهرامانيان مرسوماً بحل جميع مؤسسات الدولة اعتباراً من الأول من يناير (كانون الثاني) 2024، ووفقاً للمرسوم فإن الجمهورية المعلنة من جانب واحد لن يكون لها وجود.

نتائج الخيارات

أستاذ علم الاجتماع في جامعة "كاليفورنيا" مايكل مان في كتابه "الجانب المظلم للديمقراطية"، قدم نظرية جديدة للتطهير العرقي مبنية على حالات تاريخية فظيعة، وقال إن "الخطر ينشأ حيث تتنافس عرقيتان وتطالب كل منهما بدولة خاصة بها على الإقليم نفسه. ويتصاعد الصراع حيث يقاتل الجانب الأضعف بدلاً من الاستسلام بسبب المساعدة من الخارج، أو حيث يعتقد الجانب الأقوى أنه قادر على نشر قوة مفاجئة وساحقة".

وأكد مان أن "التطهير العرقي نادراً ما يكون متعمداً مع سبق الإصرار، لكن يشعر الجناة بأنهم مجبرون على التصعيد عندما يتم إحباط خططهم الأكثر اعتدالاً. وهي حال تنطوي على التصعيد غير المتوقع والإحباطات التي يضطر خلالها الأفراد إلى سلسلة من الخيارات التي يعتقدون أنها أخلاقية وأكثر تحديداً، بينما يختار البعض في النهاية المسارات التي يعرفون أنها ستؤدي إلى نتائج كارثية. يمكننا أن ندينهم، ولكن من المهم بالقدر نفسه أن نفهم سبب قيامهم بذلك".

ويجادل مهتمون بقضية التطهير العرقي، بأنها على رغم بروزها بشكل عنيف بين وقت وآخر، إلا أنها لا تمضي على وتيرة مستمرة مما يعني أنها ستشهد تراجعاً، فأوروبا تقترب من نهاية مسيرة القرون الطويلة التي خططت لتحقيقها كدول قومية ديمقراطية ومطهرة عرقياً، أما أميركا فبعد تاريخها المروع من التطهير العرقي تحولت إلى تعددية ثقافية، ومثلها عدد من الدول الغربية وهي مستعمرات سابقة لا يشكل المهاجرون فيها أي تهديد سياسي. أما شرق آسيا وخصوصاً الاقتصادات المتقدمة كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة فهي أحادية العرق ولا تحتوي على أية توترات عرقية كبرى.

المزيد من تحقيقات ومطولات