ملخص
بدا واضحاً اليوم أن هناك عوامل معقدة داخلية وخارجية تحكم عملية إنهاء الحرب السودانية وتعوق باستمرار الجهود التي تسعى إلى إنهائها وسط عجز القوى السياسية عن الحل
حين فاجأت الحرب السودانيين في الخرطوم يوم 15 أبريل (نيسان) 2023، الأرجح أن القوى السياسية لم تكن تتوقع أن يتوسع نطاقها على ذلك النحو الخطر من الاتساع وأن تصل إلى تخوم الحرب الأهلية، كما تبدو اليوم مؤشرات كثيرة على ذلك.
وفي الواقع، حين فاجأت الحرب السودانيين في الخرطوم، لم يكن ذلك تداعياً عشوائياً لأحداث سائبة، وإنما كان صيرورة صارمة لتراكمات عجز سياسي وتاريخي تحققت نتائجه الكارثية حين وقعت أسبابها واستكملت شروطها في واقع سياسي فرط الفاعلون فيه عن تدبير صيانة اجتماع سياسي عجزوا معه عن رؤية المصائر الكارثية نتيجة لقصر نظرهم الاستراتيجي وسذاجة أنماط تفكيرهم السياسية.
والحاصل أن السودانيين حتى اليوم بقواهم كافة الحزبية والسياسية تفاجأوا بذلك الواقع الكارثي للحرب، وما زالوا عاجزين عن تدابير عقلانية في السياسة بتوافق وحدوي يخرجهم من مأزق الحرب.
وإذا كان الواقع السياسي ما قبل الحرب يعج بانقسامات رأسية مؤسفة لقوى الثورة ظل كل منها (وبصفة خاصة ما سميت قوى التغيير الجذري) يراهن على أوهام أيديولوجية، وكأن السلم الخادع والهش الذي أصبح عليه البلد عشية ما بعد الثورة هو سلم حقيقي، أو أنه سلم يسمح لهم بفائض لألعاب أيديولوجية ومواقف غفلوا معها عن رسم مصائر جادة تفي بالاستجابة لتحديات تجنب الحرب من خلال تنظيم خطوات سياسية إيجابية كوحدة العمل السياسي في جبهة وطنية واحدة.
وفي تقديرنا أن ثمة علاقة عضوية بين نمط التفكير السياسي للقوى الحزبية السودانية من ناحية، وطبيعة الواقع الذي يتحقق عن ذلك التفكير. فمن يرى طرائق تفكير القوى السياسية ما قبل الحرب (لا سيما تلك الأحزاب التي تحمل سمة الأحزاب المركزية) في قضايا استراتيجية أثرت خلال واقع ما بعد الثورة على مصير المرحلة الانتقالية كقضية شرق السودان سيلاحظ بوضوح أن طبيعة التفريط في تلك القضايا الاستراتيجية في ذهنية التفكير السياسي لقوى الحرية والتغيير، والقوى السياسية بصفة عامة جزء أصلي من نمط لتفكير عام عن السياسة السودانية في ذهنية تلك الأحزاب بوصفها سياسة تعكس اهتماماً مركزياً ضيقاً في الشأن العام لا يتعدى نطاق الخرطوم، في بلد مترامي الأرجاء كالسودان.
هذا التقليد المتوارث كمرض من الأمراض السياسية المزمنة لبنية ونمط تفكير الأحزاب السياسية المركزية في السودان هو الذي كانت الحرب إحدى نتائجه غير المباشرة على المدى الطويل.
اليوم ستبدو مهمة ما بعد الحرب أكثر صعوبة على القوى السياسية المدنية من أوضاع مهام الاستحقاق السياسي لتلك القوى ما قبل الحرب. وهذا سيعني أن القوى السياسية السودانية التي كشفت عن عدم كفاءتها السياسية في الاستجابة لتحديات أوضاع ما قبل الحرب سيكون من العسير عليها، وإن لم يكن مستحيلاً بطبيعة الحال، الاضطلاع بمهام سياسية من أجل التمهيد لما يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في إنهاء الحرب.
وبحسب الانقسام الذي يضرب كتلتي (قوى الحرية والتغيير – المركزي) من ناحية، والكتلة الديمقراطية من أخرى، ونشاطهما السياسي من أجل إنهاء الحرب، الذي تعمل عليه الكتلتان من مواقع مختلفة بين كل من القاهرة وأديس أبابا، وهما عاصمتان أفريقيتان تتنافسان على أجندات سودانية مختلفة، سيبدو واضحاً أن طبيعة المرحلة الانقسامية التي تحكم عمل الكتلتين جزء من منظومة العجز المانعة من وحدة وتمكين نشاط فاعل للقوى السياسية من أجل لحظة وطنية تعمل على إنهاء الحرب. هنا سنجد أيضاً أن في التناسب الطردي بين اتساع نطاق الحرب في السودان والتغيير الذي يضرب هويتها السياسية من ناحية، والعجز المتفاقم للقوى السياسية المدنية عن القدرة على الفعل الذي بإمكانه صنع تأثير يفضي إلى إنهاء الحرب من أخرى، ما يضعنا أمام حالة لا تبشر بخير في مستقبل هذه الحرب.
وسنرى بوضوح أن ملامح العجز الأصلي في أطروحات القوى السياسية ما قبل الحرب ما زالت تفعل فعلها العقيم في تلك القوى ولكن في واقع أشد بؤساً هو واقع الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأمر الذي سيحيلنا إلى خفض سقف التوقعات الممكنة من سعي الكتلتين في سبيل مساعي إنهاء الحرب، خصوصاً في ظل ما أشرنا إليه في تحليل سابق من ضرورة جبر العجز الكياني للقوى السياسية السودانية اليوم في ظل الحرب بعلاقات سوية مع المجتمع الدولي قد تلعب دوراً مهماً للتأثير في طرفي الحرب، لكن لسوء الحظ أن كلاً من المجتمع الدولي والإقليمي منخرطان في ملفات دولية وإقليمية تتفاقم آثارها على المنطقة والعالم بما يؤثر سلباً في المساعي الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب بالسودان.
ولعل من المفارقة الواضحة اليوم أن ثمة انسداداً واضحاً للفعل السياسي المقاوم للحرب في منظومات القوى السياسية (لا سيما قوى الحرية والتغيير – المركزي) من داخل السودان، حيث إن القيادات السياسية والكوادر الحزبية لقوى الحرية والتغيير المركزي تنشط من خارج السودان في ظل الحرب والأجواء التي خلقها الاستقطاب حول الحرب داخل السودان، فيما نرى في الوقت ذاته أن عناصر تحالف الكتلة الديمقراطية تمارس نشاطاً ملتبساً في موقفه من الحرب داخل السودان، وهو أمر يدل على شلل واضح في أي إرادة سياسية لتلك الكتلة من أجل إنهاء الحرب.
صحيح أن مواجهة واقع الحرب من داخل السودان هو مهمة صعبة جداً لقوى الحرية والتغيير/المركزي، وأن نتيجة الحرب ووقائعها في الولايات والمدن خارج نطاق الحرب السودانية خاضعة بطبيعة الحال لتحكم القوى القديمة بالمجال العام وإسناد تلك القوى لأجندة مواصلة الحرب، لكن مع كل ذلك من الأهمية بمكان بعد مرور ستة أشهر من بداية الحرب أن تكون هناك جبهة داخلية لمقاومة الحرب تنشط فيها جميع القوى المدنية والسياسية من أجل إنهاء الحرب بعد أن اتضح للجميع أن طبيعة هذه الحرب عبثية في صميمها.
ومع ذلك لا بد من القول إن ثمة فرقاً واضحاً جداً بين طبيعة الموقف والنشاط المتلبس لتحالف الكتلة الديمقراطية في بلورة موقف واضح من إنهاء الحرب، وبين الموقف الحاسم لقوى الحرية والتغيير/المركزي من الحرب، لا سيما في ظل تحالف أطراف من الكتلة الديمقراطية كقسم حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، الذي ما زال في منصب وزير المالية، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة مني مناوي الذي ما زال حاكماً لدارفور من طرف البرهان. الأمر الذي يشكك في جهود إنهاء الحرب التي تسعى لها الكتلة الديمقراطية عبر حراكها الخارجي إقليمياً ودولياً.
خارجياً تنشط القوى المدنية والسياسية في تحالف كبير من أجل إنهاء الحرب، وهذا التحالف الكبير الذي يضم قوى سياسية ومدنية مختلفة يسعى لتشكيل جبهة مدنية عريضة ضد الحرب يمكن القول إنه تحالف يحسب فيه لقوى الحرية والتغيير/المركزي قيمة مضافة لرصيد مسؤوليتها الوطنية بموقفها الذي راهنت فيه على أن تكون جزءاً من كل، أي جزء من الجبهة المدنية العريضة من أجل إنهاء الحرب، وهي جبهة تنشط من أجل تكوينها جهود كبيرة هذه الأيام في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وتسعى لعقد مؤتمرها العام والذي سيضم كافة القوى المدنية والسياسية المناهضة للحرب، حيث تمهد لذلك المؤتمر باجتماع تحضيري لوحدة القوى المدنية سيتم عقده في 21 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.
بدا واضحاً اليوم أن هناك عوامل معقدة، داخلية وخارجية، تحكم عملية إنهاء الحرب السودانية وتعوق باستمرار الجهود التي تسعى إلى إنهائها، لا سيما إذا ما عرفنا أن عجز القوى المدنية السياسية اليوم يبدو أكثر عرضة للهشاشة بعد الحرب من تلك التي كانت قبلها، في الوقت الذي بدت فيه تعقيدات وملفات سياسية عميقة تحكم أسبقيات أجندة المجتمع الدولي حيال أزمتين كبيرتين، عالمية وإقليمية (أوكرانيا - غزة) ومن ثم قد تصرف ذلك المجتمع عن الاهتمام بصورة خاصة لأولوية إنهاء الحرب في السودان، ولو موقتاً.