ملخص
في السياسة الخارجية المعضلة ضخمة، فهو يريد إنهاء الحرب الأوكرانية فوراً، مما يعنى صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي هذا سيغضب حلفاءه، ولن يمر الأمر بسهولة لدى مؤسسات الدولة الأميركية التي سبق له الاصطدام معها مراراً وتكراراً في ولايته الأولى.
لا أظن أن الانتخابات الرئاسية الأميركية قد عرفت، في السابق، درجة التناقض التي شاهدناها في الانتخابات الأخيرة بين استطلاعات الرأي والناتج الفعلي، والمقصود هنا ليس من فاز وإنما الفارق الكبير في النتيجة الفعلية.
فقد واصلت هذه الاستطلاعات الحديث عن فرص متقاربة، وبعضها أعطى الأسبقية للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس وبعضها للرئيس المنتخب دونالد ترمب، ولكن كان الحديث، غالب الوقت، يدور حول نسب متقاربة بين المرشحين هاريس وترمب، ولكن الانتصار الكاسح لترمب سواء في إجمال التصويت الشعبي أو المجمع الانتخابي، وفوزه في كل الولايات المتأرجحة، وهي أريزونا وجورجيا وميشيغان ونورث كارولاينا وبنسلفانيا وويسكونسن، وفوز الحزب الجمهوري بغالبية المجلسين، الشيوخ والنواب، يثير كثيراً من التساؤلات حول مدى دقة هذه الاستطلاعات، وعموماً مشكلة دقة الاستطلاعات ومراكز البحث أقل أهمية من الفهم الدقيق لدلالات ما حدث واستشراف احتمالات ما هو قادم .
معضلة الحزب الديمقراطي
وسادت الأوساط العلمية المعنية بدراسة النظام السياسي الأميركي سردية مفادها بأن العقود الأخيرة من القرن الـ20 وحتى الآن، تعرف غالبية تميل للديمقراطيين من غير الجماعات الأنغلوسكسونية البيضاء البروتستانت التي تميل، بمعظمها، للجمهوريين، وأنه كلما توفرت قيادة كاريزماتية أو قوية للحزب الديمقراطي ضمن وصوله إلى البيت الأبيض مثلما حدث مع بيل كلينتون ثم باراك أوباما، ومثلما احتشد مع جو بايدن لإطاحة ترمب منذ أربعة أعوام.
ولكن الأرقام تشير إلى أن نسبة غير مسبوقة من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية واللاتينية، بل وكذلك المسلمون والعرب، والأخيرة تجمع أقل عدداً ووزناً، إلا في بعض الولايات المتأرجحة، قد صوتت بنسب كبيرة لمصلحة ترمب، وقد كان هذا التصويت الأخير متوقعاً بسبب غضبها الشديد من أداء إدارة بايدن في حرب غزة ثم لبنان أخيراً.
وشمل مؤيدو ترمب أيضاً كثيراً من العمال البيض الذين كانوا يميلون تاريخياً إلى الديمقراطيين بحثاً عن سياسات اجتماعية واقتصادية أكثر مواءمة لهم مقارنة بالسياسات اليمينية للجمهوريين، ومعنى ذلك أن ثمة تحولات غير مسبوقة، حتى لو كانت قصيرة الأجل، انتهت بهذه الأنماط التصويتية التي أسفرت عن اكتساح ترمب والجمهوريين.
وقد أجمعت التحليلات على أن مشكلات الاقتصاد الأميركي، بخاصة التضخم، والقابلية لتصديق الخطاب الشعبوي لترمب، حول أنه سيقدم مزيداً من تسهيلات الضرائب للأغنياء، ستسفر عن تحسن الاقتصاد فضلاً عن القضية الخاصة بالأثر السلبي للهجرة غير الشرعية، وعدم قدرة الديمقراطيين عن التعامل معها، مما أوجد صدى واسعاً لدى الفئات العاملة من بيض وسود، ومن ذوي الخلفية اللاتينية، وحتى العرب، اعتبروا أن هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين، حتى لو كان بعضهم ينتمي عرقياً لهم، يسببون مشكلة لبلادهم.
ولكن في الحقيقة أن مشكلات الحزب الديمقراطي تتجاوز هذه الأبعاد السابقة، فقد تصاعدت الاتجاهات الليبرالية المغالية في صفوف بعض تيارات الحزب، وتركزت بقوة في مجالات حقوق المثلية والإجهاض، ومعها خطاب سياسة خارجية لها جذورها في المجتمع الأميركي، لكنها أخذت طابعاً أيديولوجياً متشدداً حول حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية.
والمعضلة أن الحزب الديمقراطي وقع في تناقض عميق وحاد بين شعاراته في السياسة الخارجية، التي تصدرت خطاب واستراتيجية بايدن في وثائق رسمية ربما تكون الأقوى في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية، وتداعيات انحياز أعمى للجرائم الإسرائيلية في حربها التي ما زالت مستمرة بعد أكثر من عام، ومن ثم أثار هذا استياء بعض أوساط الحزب الليبرالية وليس فقط من العرب والمسلمين، كما قوض، بالكامل، خطاب السياسة الخارجية لهذا الحزب بخاصة في ما يتعلق بمؤسسات النظام الدولي، وهي المؤسسات نفسها التي تتفق مع الخطاب السياسي الليبرالي.
ولا يقتصر التعقد على هذا، فالخطاب الليبرالي الاجتماعي نفسه الذي يتسم بالمغالاة، بخاصة في شأن المثلية، أوقع كثيراً من مؤيدي الحزب التاريخيين، من أقليات، في مفارقة لكونه وضعهم في تناقض مع معتقداتهم الدينية والشخصية.
لو أضفنا إلى ذلك تردد الرئيس بايدن، الذي ظهرت عليه علامات السن والشيخوخة منذ فترة ليست قصيرة في ولايته، ثم توهمه بقدرته على المنافسة، ثم الدفع بهاريس من دون إعداد كاف ولا ضمانات أنها الأقدر على تحقيق النصر، بالمراهنة، مرة أخرى، من الجناح التقدمي للحزب، كل هذه العوامل السابقة مجتمعة أسفرت عن النجاح الساحق وعودة ترمب للبيت الأبيض، وبحسب هذه الخلفية المتعددة نقدر أن مسألة كون هاريس امرأة ملونة كان له أثر ثانوي وليس بأهمية العوامل السابقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل سيكون ترمب مختلفاً عن ولايته الأولى؟
يركز كثير من التعليقات حول مناقشة ما إذا كان ترمب القادم سيكون مختلفاً عن ترمب السابق وأدائه الكارثي، وفي الحقيقة أنه لا بد من توقع بعض الاختلافات، فالرجل أكبر عمراً الآن، وهو الأكبر في تاريخ بلاده في مستهل ولايته الثانية، وليس من المؤكد أنه سيستمر بلياقته البدنية والذهنية مثلما حدث لسلفه الديمقراطي، وأيضاً ليس مؤكداً أنه سيتدهور صحياً، ولكن فقط يجب أخذ هذا البعد في الحسبان.
والرجل تغير بصورة محدودة لكنه ما زال يمارس خطابه السياسي الحاد، ولكنه، هذه المرة، أصدر عديداً من الرسائل المتناقضة في كثير من الاتجاهات، من بينها قضايا الاقتصاد ذاتها التي جاءت به بالأساس، فهو سيحسن مستويات المعيشة ويكافح التضخم، ويخفف من الضرائب للجميع، بخاصة رجال الأعمال، وهي مسألة ليست سهلة أو منطقية، فتخفيض الضرائب يجب أن تقابله مصادر تمويل إضافية للجوانب الاجتماعية، والسياسات الحمائية التي يريد تطبيقها على العالم تنتج منها سياسات حمائية مضادة تضر بالصادرات الأميركية، ومن ثم ستؤثر في الصناعة الأميركية ومناخ الأعمال، وقد تسفر عن نتائج تناقض تطلعات ترمب لأميركا القوية والأغنى.
وفى السياسة الخارجية المعضلة ضخمة، فهو يريد إنهاء الحرب الأوكرانية فوراً، مما يعنى صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي هذا سيغضب حلفاءه، ولن يمر الأمر بسهولة لدى مؤسسات الدولة الأميركية التي سبق له الاصطدام معها مراراً وتكراراً في ولايته الأولى، والموضوع، هذه المرة، أصعب، إلا إذا كانت هذه المؤسسات قد أدركت أن الهزيمة وشيكة في هذه الساحة الأوكرانية، وتفضل البحث عن مخرج من هذه الورطة. وفى جميع الأحوال سيثير هذا الأمر تساؤلات منطقية حول جدوى هذا الاستنزاف العسكري الغربي، وحول جدوى انقياد أوروبا للقيادة الأميركية، بخاصة أنه سبق لمواقف ترمب حول ضرورة تولي هذه الدول حماية نفسها والإنفاق الدفاعي، كثير من اللغط في الولاية الأولى، ثم في النهاية يضع هذا السؤال الحاسم حول تناقض مكونات الرؤية الترمبية ما بين العزلة وأميركا العظمى التي تقود العالم.
كما يأتي ملف الحرب الإسرائيلية وكل المسألة الإسرائيلية - الفلسطينية، فمن ناحية كان ترمب الأكثر دعماً لإسرائيل، وتحدث صراحة عن منحها الفرصة لإكمال مهمة تصفية القضية الفلسطينية وتوسيع حدودها لأنها صغيرة المساحة، لكنه، أيضاً، أعرب عن رغبته في إنهاء الحرب، وهو لا يتراجع، كما هو معروف عنه، ونقل عن اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه يريد الانتهاء من الحرب قبل بدء ولايته في يناير (كانون الثاني) 2025، وهو، أيضاً، يعرف أن اليهود الأميركيين صوتوا للديمقراطيين كعادتهم، أي ليس مديناً لهم ولا هو قلق من حملة انتخابية مقبلة. إذاً الأوراق مختلطة ومعقدة.
وفى وقت تتوالى فيه أنباء تعيينات الإدارة الجديدة يتضح أنه ستكون هناك اختلافات واضحة عن نمط التعيينات في ولاية ترمب السابقة، وإن كان يجمعها بأن معظمها منحاز بشدة لإسرائيل.
السياق الكلي هو الأكثر أهمية
في التقدير أن التداعيات السابقة الذكر ما زال معظمها في طور التبلور وستتضح تدريجاً نتائجها، وكيف ستسير الأمور، وربما يكون من السابق للأوان اليقين من المسارات المقبلة، ولكن من الواضح أن مصادر التحسب مرتبطة بثلاثة أبعاد. أما البعد الأول فيتعلق بمستقبل المجتمع الدولي ورؤية أميركا العظمى، وتناقض مكونات رؤية ترمب ما بين الانعزالية وما تتضمنه من تعامل فيه استعلاء مع الخصوم والحلفاء معاً، ومع توهم مواصلة القدرة على الهيمنة على هذا المجتمع الدولي، وما يكون مرتبطاً بهذا في أنه قد يصب مستقبلياً في تراجع الحضور الأميركي عالمياً.
أما البعد أو التحدي الثاني فهو مباشر وواضح ويتعلق بخطورة نية ترمب المعلنة بالانسحاب من اتفاقية باريس للتغير المناخي مرة أخرى، والتي بدت آثارها على مؤتمر "كوب-29" الجاري حالياً في باكو بأذربيجان، وهذا الاهتزاز والارتباك ستكون له تداعيات سلبية، من دون شك، على هذه القضية الحيوية، كما أنها تصب في مدى جدارة الولايات المتحدة بقيادة العالم مع تبني سياسات متذبذبة ومتقلبة بهذه الصورة مما يعود بنا إلى التحدي الأول، مرة أخرى.
أما البعد الثالث فهو خطورة غالبية التعيينات التي أعلنها ترمب في ما يتعلق بأمرين، أولهما الانحياز الشديد لإسرائيل، وثانيهما الصدام المحتمل مع مؤسسات الدولة الأميركية في كثير من النواحي، وعموماً ما زلنا في بداية مخاض صعب.