ملخص
تحتضن الولايات المتحدة ثاني أكبر كتلة يهودية خارج إسرائيل وهي موطن لواحدة من أكبر مجتمعات اليهود بالعالم، فما موقفهم من حرب القطاع؟
لا يوجد إجماع بين اليهود الأميركيين حول الصراع في إسرائيل وغزة، إذ شهدت آراء أكبر كتلة لهم في العالم خارج إسرائيل مواقف متباينة وتغيرات واضحة رافقت التحولات الزلزالية في السياسة والرأي العام الأميركي، فما مواقف اليهود ومنظماتهم وكيف تختلط مشاعرهم في الولايات المتحدة بين الخسارة والعزلة والرفض والدعم؟
يشكل اليهود الأميركيون ثاني أكبر كتلة يهودية خارج إسرائيل، وهي موطن لواحدة من أكبر مجتمعات اليهود في العالم، الذين يمثلون 0.2 في المئة فقط من إجمالي سكان العالم، ووصل عددهم بالولايات المتحدة، وفقاً لمركز "بيو" للأبحاث، إلى 7.5 مليون شخص يشكلون 2.1 في المئة من سكان الولايات المتحدة، ويقطن 80 في المئة منهم أفضل وأهم 40 مدينة مثل نيويورك (1.9 مليون) وواشنطن العاصمة وضواحيها (235 ألفاً) ولوس أنجليس (617 ألفاً)، وفقاً لموقع مشروع السكان اليهود الأميركيين.
ويرتبط اليهود الأميركيون بإسرائيل بدرجة عميقة عبر التاريخ وكثير منهم لديهم أقارب يعيشون في إسرائيل، وتشير كثير من البيانات إلى أن هذه العلاقة تعود إلى عقود طويلة ماضية، فقد هاجر إليها من اليهود الأميركيين منذ عام 1948 أكثر من 148 ألفاً، بحسب بيانات الوكالة اليهودية.
كما حصل ربع مليون إسرائيلي على حق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة حتى عام 2015 وفقاً لوزارة الأمن الداخلي الأميركية وتمتع غالبيتهم بجنسية الولايات المتحدة. وبحسب موقع "تايمز أوف إسرائيل" فإن عدد من يحملون الجنسية المزدوجة للبلدين ويعيشون في إسرائيل يبلغ 300 ألف، لكن صحيفة "واشنطن بوست" ذكرت قبل أسبوعين أن عدد الأميركيين الذين كانوا في إسرائيل قبل هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) (ومعظمهم يقيمون هناك) يقدر بنحو 600 ألف شخص.
ووفقاً لمركز "بيو" للأبحاث فإن 45 في المئة من اليهود الأميركيين زاروا إسرائيل، منهم 19 في المئة زاروها مرة واحدة و26 في المئة زاروها مرات عدة أو عاشوا فيها، كما يقول ثمانية من كل 10 يهود أميركيين إن الاهتمام بإسرائيل هو جزء أساس أو مهم مما يعنيه كونهم يهوديين، ويقول ستة من كل 10 إنهم يشعرون شخصياً بارتباط عاطفي بها، وتقول نسبة مماثلة إنهم يتابعون الأخبار المتعلقة بالدولة اليهودية من كثب.
مشاعر مختلطة
ولهذا لم يكن من المستغرب أن يؤدي هجوم "حماس" الذي أسفر عن مقتل 1200 إسرائيلي إلى سلوك غريزي لدى عديد من الأميركيين اليهود بالتواصل مع العائلة والأصدقاء في إسرائيل إذ يعرف غالبيتهم تقريباً شخصاً تأثر بشكل مباشر أو غير مباشر بالحادثة بحسب موقع "فوكس"، لكن هذا الهجوم وما تبعه من حملة عسكرية مضادة من إسرائيل على "حماس" وقطاع غزة الذي أدى إلى مقتل أكثر من 9 آلاف في الأقل من الفلسطينيين غالبيتهم من المدنيين الأبرياء، فضلاً عن إجلاء أكثر من مليون شخص يعيشون في النصف الشمالي من القطاع، جعل الأمر أكثر تعقيداً بسبب العواقب الإنسانية المدمرة لذلك.
وتفاقم الحزن بين فئات من اليهود الأميركيين وبخاصة الشباب على فقدان أرواح إسرائيلية وفلسطينية بريئة، وخرجت مجموعات منهم ارتدوا قمصاناً سوداء تطالب بوقف الحرب وبأن لا تكون باسمهم، وتظاهروا داخل وخارج مبنى الكونغرس في واشنطن وفي محطة قطارات نيويورك وعدد من الجامعات المرموقة، وهو تحول يعكسه ظهور جيل أصغر سناً من اليهود الأميركيين أكثر تقدمية وأكثر استعداداً لانتقاد إسرائيل، إلا أنهم يشعرون بالحسرة والخسارة على فقدان أرواح الإسرائيليين والفلسطينيين، كما يشعرون بالعزلة والقلق لأن رفاقهم في اليسار الديمقراطي رفضوا إدانة قتل الإسرائيليين، وابتعدوا عنهم، بينما يرتفع التهديد بمعاداة السامية، وهو أمر حذرت رابطة مكافحة التشهير اليهودية من أن الحركة اليسارية التي تحرض ضد إسرائيل باسم الحقوق الفلسطينية جعلت معاداة السامية أكثر قبولاً اجتماعياً في الأماكن ذات الميول اليسارية مثل الحرم الجامعي.
سبب التحول
يشكل اليهود الأميركيون 2.4 في المئة من إجمالي الناخبين، وهم مجموعة ليبرالية بقوة وكانوا منذ فترة طويلة إحدى الدعامات الأساسية للحزب الديمقراطي، ووفقاً لاستطلاع أصدره مركز "بيو" للأبحاث عام 2020، تم تحديد 71 في المئة من اليهود على أنهم ديمقراطيون أو يميلون إليه، وعلى رغم أن قيادات الحزبين الرئيسين الجمهوري والديمقراطي حافظا منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، على دعم قوي لإسرائيل، فإنه في السنوات القليلة الماضية، تطور الديمقراطيون في وجهات نظرهم في شأن الصراع بين إسرائيل وفلسطين.
ويعود سبب ذلك إلى أن الشباب اليهودي الأميركي يتحرك في اتجاهات مختلفة عن آبائهم، ففي حين أن نسبة متزايدة من الشباب اليهود يعتبرون أرثوذكسيين، فإن نسبة أكبر تقول إنه ليس لديهم أي انتماء ديني، وهو جزء من اتجاه متزايد للشباب الأقل تديناً من الأجيال الأكبر سناً التي تظهر تعاطفاً قوياً مع إسرائيل.
وبينما يميل الأميركيون اليهود إلى أن تكون لديهم وجهات نظر إيجابية تجاه إسرائيل أكثر من عامة الناس، إلا أنه من غير المرجح أن تشعر هذه المجموعة بارتباط عاطفي بإسرائيل مقارنة بمن هم أكبر منهم سناً، وعلى سبيل المثال، عندما طرح منظمو استطلاعات الرأي العاملون في المعهد الانتخابي اليهودي أسئلة محددة حول إسرائيل وفلسطين على 800 ناخب أميركي يهودي عام 2021، صدم ما وجدوه بعض القادة اليهود، إذ قال 58 في المئة إنهم يؤيدون تقييد المساعدات العسكرية الأميركية لتل أبيب حتى لا تتمكن من إنفاق الأموال على توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، بينما أعرب ربع الذين شملهم الاستطلاع أنهم يتفقون مع عبارة "إسرائيل دولة فصل عنصري" وقال 31 في المئة إن إسرائيل "ترتكب إبادة جماعية" ضد الفلسطينيين.
وتتزايد هذه الانقسامات في سياق حركة تقدمية متجددة، فقد نما الوعي بمحنة الفلسطينيين في الولايات المتحدة مع ظهور حركة العدالة الاجتماعية الصاعدة، والتي تركزت على حركة "حياة السود مهمة" الذين ربط قادتهم مهمة الحركة بقضية التحرير الفلسطيني، مستشهدين بقياسات تاريخية حول الاستعمار الاستيطاني كوسيلة للمقارنة.
مجتمع متنوع
وعلى رغم تماسك المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة، فإنه أيضاً مجتمع متنوع، يتكون من أشخاص ينتمون لأعراق وطوائف ومعتقدات مختلفة، مما يجعل اليهود الأميركيين ليسوا كتلة واحدة. وتعد الطوائف اليهودية التي يشار إليها أحياناً باسم التيارات أو الحركات أو الفروع هي الفئات الرئيسة للانتماء الديني بين اليهود الأميركيين، ويتميز بعضها عن بعض على أساس مناهجها الفلسفية للتقاليد اليهودية، ودرجة إخلاصها وتفسيرها القانون اليهودي التقليدي (هالاخا) بحسب موقع "هاي ألما".
وتمثل حركة "إصلاح اليهودية" الطائفة الأكبر لليهود الأميركيين، إذ ينتمي إليها نحو 37 في المئة منهم، وتؤكد الحركة التزامات القانون اليهودي مع سعيها إلى تكييف تقاليدهم مع حساسيات العصر الحديث، وتعتبر نفسها تقدمية سياسية وموجهة نحو العدالة الاجتماعية. وعادة ما يؤيد أتباع الحركة إسرائيل، لكن بعد ثلاثة أسابيع من الحرب تضاءل التضامن معها من 72 في المئة عقب السابع من أكتوبر مباشرة إلى 59 في المئة بعد ثلاثة أسابيع من الحرب في استطلاع أجراه معهد سياسة الشعب اليهودي، مما يسلط الضوء على المشاعر المتغيرة داخل مجموعة سكانية يهودية رئيسة في الولايات المتحدة مع مشاعر معقدة بالانفصال عن تل أبيب.
وينتمي 17 في المئة من اليهود الأميركيين إلى "اليهودية المحافظة" وهي حركة مثلت نقطة وسط عبر التاريخ بين الأرثوذكسية والإصلاحية، إذ تبنت بعض الأفكار الإصلاحية لكنها حافظت على الخط التقليدي في الكنائس الأخرى، ولا ينظر اليهود المحافظون إلى إسرائيل باعتبارها مسقط رأس الشعب اليهودي فحسب، بل باعتبارها أيضاً مصيره النهائي، ويعكس سلوكهم رغبة في عدم تجريد اليهودية من القومية.
أما اليهودية الأرثوذكسية فتشكل نحو تسعة في المئة من الأميركيين اليهود. وتعبر عن التزام الفهم التقليدي للشريعة اليهودية كما فسرتها السلطات الحاخامية على مر القرون، ويؤيد غالبيتهم إسرائيل وحركة الاستيطان، إلا أن اليهودية الأرثوذكسية الحريدية (المتشددة) التي يرتدي أتباعها من الرجال قبعات سوداء وتلتزم النساء ملابس محتشمة فإنها ترفض الصهيونية وتعتبرها كفراً ولا تعترف بشرعية إسرائيل كدولة.
ومع ذلك، فإن ثلث البالغين اليهود الأميركيين (32 في المئة) لا ينتمون إلى أي طائفة أو تيار معين أو فرع مؤسسي لليهودية، كما أن 42 في المئة من البالغين اليهود الأميركيين أكدوا قبل عامين في استطلاع أجراه مركز "بيو" أن الله لم يعط حرفياً أرض إسرائيل للشعب اليهودي وقال ربعهم تقريباً "إنهم لا يؤمنون بالله أو بقوة أعلى على الإطلاق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مجموعات المصالح اليهودية
ومع هذا التنوع في مجتمع اليهود الأميركيين، وعدم وجود مشاعر ثابتة أو متماسكة حيال إسرائيل عبر الأوقات المختلفة، نشأت مجموعات المصالح اليهودية التي تباينت في مواقفها ودرجة تأييدها تلك الدولة، ومن هذه المجموعات وأقدمها المنظمة الصهيونية الأميركية التي أسست عام 1897، ويعلن موقعها على الإنترنت أنها أقدم منظمة مؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة وتعمل على تعريف وإقناع الجمهور والمسؤولين المنتخبين ووسائل الإعلام حول ما تصفه بحقيقة الحرب العربية الإسلامية المستمرة ضد إسرائيل، وهي تعارض إقامة دولة فلسطينية، وترفض حل الدولتين، وتدعم المستوطنات الإسرائيلية، ورفضت الانسحاب الإسرائيلي من غزة في عام 2005، وبعد هجوم "حماس" في السابع من أكتوبر دعت البيت الأبيض والكونغرس لاتخاذ إجراءات صارمة لدعم تل أبيب وتزويدها بكل ما تحتاج، وطالبت بوقف المساعدات المالية لوكالة الأونروا وللفلسطينيين بشكل عام.
غير أن لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) هي جماعة الضغط الأكثر نفوذاً المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة ويحضر اجتماعها السنوي كبار المسؤولين وأعضاء الكونغرس، ومهمتها كما يقول موقعها على الإنترنت هي تعزيز وحماية العلاقة بين واشنطن وتل أبيب بطرق تعزز أمن كل منهما.
وعلى رغم أنها ليست لجنة عمل سياسي ولا تقدم الأموال مباشرة للسياسيين أو الحملات، فإنها تنصح مؤيديها بمن يستحقون التبرع من المرشحين، وتقوم بالضغط من أجل سن تشريعات مؤيدة لإسرائيل وهي تؤيد حل الدولتين دولة إسرائيلية يهودية ودولة فلسطينية منزوعة السلاح، لكن "آيباك" عادة ما تدعم أي موقف للحكومة الإسرائيلية، وخلال الأسابيع الماضية طالبت أميركا بدعم تل أبيب للرد على "حماس" باعتبار أن إسرائيل تمارس حقوقها السيادية في الدفاع عن النفس، ولم تدع إلى وقف موقت لإطلاق النار.
لكن هناك أيضاً جماعات ضغط ليبرالية مثل "جيه ستريت" التي أسست عام 2008، وتعمل على تعبئة الأميركيين المؤيدين لإسرائيل وللسلام، وهي تدعم عملية السلام وحل الدولتين هو البند الرئيس في مهمتها، ولا تدعم حكومة تل أبيب لمجرد أنها حكومة إسرائيلية، إذ نددت في الذكرى العاشرة لتأسيسها بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووصفتهما بالتوأم الشرير.
وخلال الأيام الـ10 الماضية دعمت "جيه ستريت" وقفاً موقتاً لإطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" لأسباب إنسانية، ومن أجل توفير المساعدات وتسهيل مفاوضات الإفراج عن الرهائن، وقالت إنه مهما كان التخطيط جيداً لاجتياح غزة برياً على نطاق واسع فإنه يهدد بإشعال دوامة التصعيد الذي يؤدي إلى حرب متعددة الجبهات.
وإذا كانت جماعات الضغط السابقة تتخذ مواقف مؤيدة لإسرائيل مع اختلاف درجتها، فهناك جماعتان أسستا حديثاً تتخذان مواقف داعمة للفلسطينيين أولاهما منظمة "إذا لم يكن الآن" التي أسست عام 2014 في أعقاب الصراع بين إسرائيل و"حماس"، وبدأت في الاحتجاج على الدعم المؤسسي اليهودي الأميركي لتصرفات تل أبيب، وهي ملتزمة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وعلى عكس معظم الجماعات اليهودية الأخرى، فإنها ترفض اتخاذ موقف داعم لوجود إسرائيل كدولة يهودية، وتستخدم تعبير الحكم العسكري الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة.
أما المنظمة الثانية فهي "الصوت اليهودي من أجل السلام" وهي منظمة يسارية مناهضة للصهيونية، وتقول في بيان مهمتها على الإنترنت إنها تعارض التعصب والقمع المناهض لليهود والمسلمين والعرب، وتسعى إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ووضع حد للعنف ضد المدنيين، ولا تؤيد حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، وتدعم حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتعارض قانون العودة اليهودي.