ملخص
وضعت الحرب جميع السودانيين أمام اختبار جديد يطرح عليهم تحدياً وجودياً
بعد مضي أكثر من ستة أشهر على الحرب العبثية بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في السودان، تغيرت قناعات كثيرة وتحولت آراء عدة في مواقف السودانيين من الحرب عبرت عن ضربات تحويلية انعكس وعيها العنيف على تصوراتهم، فكشف عن ردود فعل وعلامات مدهشة لم يكن ليتصورها أحد قبل ستة أشهر، أو أن يصدق مآلات ما وصلت إليه الحرب اليوم.
لكن حرب الـ 15 من أبريل (نيسان) في قلب الخرطوم التي كانت بمثابة خاتمة أخيرة لحرب استقرت في المركز، بعد سلسة طويلة من حروب عمت الأطراف والهوامش السودانية على مدى أكثر من نصف قرن، تأتي اليوم بكل مراراتها لتذكر السودانيين باستحقاقات كثيرة غفلوا عنها لمجرد إرادة نسيانها، ولأنها استحقاقات لا يمكن أن تنسى بطبيعة الحال، فضلاً عن أن التمادي في نسيانها، تمثلت عواقبها في ردود فعل عنيفة ومفاجئة مثل الحرب التي فاجأت السودانيين غداة الـ15 من أبريل 2023.
وفي وقت يدرك الجميع، نظرياً في الأقل، أن الحرب ظاهرة إنسانية ومن ضرورات الإكراه في حياة البشر، إلا أن وقع الحرب والإحساس بها مباشرة وللمرة الأولى في الخرطوم التي لم يكن ليخطر على بال أحد من السودانيين أن تكون مسرحاً للحرب، هو في تقديرنا الدرس المعكوس والمؤلم لمعنى أن يصحو الشعب السوداني في الخرطوم على عنف موجع ومرير تعيّن عليه أن يتجرعه بالتساوي مع الآخرين للمرة الأولى، وعلى نحو قلب مصائر وجوده الآمن في العاصمة، ليدرك هذا الشعب فجأة أن عليه أن يتذكر كثيراً مما ظل يتناساه من وقائع ظلت أموراً مسكوتاً عنها حتى سرعت الحرب بانفجار تناقضاتها.
لقد ظلت مفاهيم مثل الدولة والثورة والشعب والحرب والسلطة في ذاكرة النخبة الحزبية والثقافية في مركز السودان (الخرطوم) كما لو أنها مفاهيم ناجزة وموروثة أو أنها معطيات غير قابلة للاختبار، حتى كان اختبار الحرب العنيف هو المحك الحقيقي لاختبار تلك المفاهيم ذاتها التي كشفت ردود فعلها اليوم في أوساط كثير من أبناء الشعب السوداني، وبعد 30 عاماً من تجريف الهوية الوطنية للسودانيين بهويات فئوية ومناطقية عبر سياسات نظام "الإخوان المسلمين"، عن أمراض انعزالية وعنصرية وجهوية عكست آثارها الكارثية إلى أي مدى كانت تلك السياسات الإخوانية وصفة مسمومة للشعب ظل يتجرعها 30 عاماً لتبدو حاله على ما هي عليه اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يتأمل اليوم ردود فعل السودانيين على وقائع الحرب التي ضربت قلب اجتماعهم السياسي الهش في الخرطوم غداة الـ 15 من أبريل 2023، سيدرك تماماً أن ما فاتهم من استحقاق وعي تلك المفاهيم الآنفة الذكر بأدوات السياسة وإدارة الدولة، لأكثر من نصف قرن من الاستقرار في المركز (الخرطوم)، حان اليوم أوان إدراكه بطرق أخرى أي على ذلك النحو المخيف من عنف الحرب، لعله يكون درساً أخيراً لمعنى أن يستيقظوا أمام اختبار حقيقي لتلك المفاهيم السياسية التي ظلت في وعيهم أناشيد وطنية حالمة.
ما يعبر عنه بعض السودانيين اليوم، ومن بينهم مثقفون، في ردود فعلهم على هذه الحرب العبثية خطر جداً، وهو في مجمله وعي نكوصي ينكر حقائق الأمور ويصدق بائعي الأوهام الذين يعجّ بهم فضاء الـ"سوشيال ميديا"، بصورة انعكس تأثيرها السلبي حتى على طرفي الحرب وهو أمر ينذر بتوسع الحرب ما لم يتم احتواؤها عبر مساعي المفاوضات التي يرعاها منبر جدة من خلال الميسرين (السعودية والولايات المتحدة).
لقد وضعت الحرب جميع السودانيين اليوم، وعلى رأسهم النخب الثقافية والسياسية، أمام اختبار جديد يطرح عليهم تحدياً وجودياً حيال إعادة قراءة مختلفة لوعي تلك المفاهيم التي ترتبت على عدم وعيها نتائج كارثية على مصيرهم الكياني كسودانيين.
فاليوم ربما أدرك كثيرون، من هو الطرف الذي تسبب في الحرب لتصبح على هذا النحو المهدد بمصير كارثي للسودانيين، لكن الإشكالية التي تشوش على وعي كثير من السودانيين وتصرفهم عن الإمساك بمصيرهم السياسي تكمن في نظم إدراك وتأثير شوشت وعيهم العام على مدى 30 عاماً، عبر جهاز إعلام دولة الإسلاميين، حتى أصبح إرثاً ثقيلاً وتزامن مع ظاهرة الـ"سوشيال ميديا" ليغدو الوضع، بعد أن هاجت الحرب، على نحو من التعقيد باتت فيه ضرورة الكف عن التحريض بين الطرفين (الجيش والدعم السريع) أحد أهم بنود إجراءات بناء الثقة التي توافق عليها الطرفان بحسب بيان وزارة الخارجية السعودية عن سير مفاوضات منبر جدة الذي تحدث عن ضرورة "تحسين المحتوى الإعلامي للطرفين وتخفيف اللغة الإعلامية" و"اتخاذ إجراءات حيال الأطراف المثيرة للتصعيد والمؤججة للصراع".
هكذا في وقت تختبر الحرب اليوم السودانيين حيال استعادة وعي جديد لدرس مفاهيم مثل الدولة والثورة والشعب والحرب، ستضعهم أيضاً أمام مفهوم الثورة التي كانت إحساساً شعبياً في العام في ديسمبر (كانون الأول) 2019 لتصبح الثورة اليوم أمام اختبار حقيقي للإدراك الواعي من عدمه، فاليوم لا يكمن نجاح درس الثورة السودانية في الشعارات التي كثيراً ما رفعت من قبل كثيرين، حتى وسط فلول النظام القديم، وإنما يكمن بالضرورة في تحديد خطوات منظمة وفاعلة لتحقيق وحدة قوى الثورة التي تطرح تحدياتها الصعبة أمام أجندة تكوين "الجبهة المدنية" وهي تقف اليوم أمام اختبار وعي وطني لتمثّل مفاهيم صلبة مثل "وحدة قوى الثورة" وامتحان قدرة "الجبهة المدنية" أمام تحدي وقف الحرب واستعادة المسار الديمقراطي.
وما لم تدرك النخبة السياسية درس الحرب بعقل مفتوح وتستجيب للتحديات القاسية التي تطرحها الحرب اليوم على العقل السياسي السوداني، فإن للحرب صيرورة أخرى تخضع لمنطقها الخاص، ذلك أن قدرة الشعب السوداني على رهان النجاح في امتحان إرادة الفعل السياسي الثوري ووحدة قوى الثورة لم تكن يوماً من الأيام تحدياً قاسياً كما هي تطرح درسها اليوم في ظل الحرب.
لقد كانت الثورة السودانية بجسارة ثوارها المدنيين قادرة على الاستجابة لتحديات إسقاط رأس نظام "الإخوان المسلمين" في الـ11 من أبريل 2011 لكن ما لم يكن وارداً في حساباتها التي كشفت قوى الثورة فيها، بعد ذلك، عن هشاشة واضحة، هو أنها لم تدرك الطبيعة المركبة والمراوغة لبنية نظام عمره 30 سنة عبر أقنعته التي تشبه لعبة الدمى الروسية، على رغم أن مسيرة الأعوام الأربعة الماضية وما شهد فيها الوضع السياسي من تدابير المكر والخداع في الخطط التي كانت تتوالى للالتفاف على مكاسب الثورة، ومحاولات العودة لما قبل عام 2019، الأمر الذي بدا معه أن كل الاحتمالات كانت تؤشر إلى أن الحرب بين الجيش و"الدعم السريع" ستكون حتمية بعد الانقلاب الذي حدث في الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 والذي أعاد عبدالفتاح البرهان بموجبه عناصر النظام السابق إلى مفاصل السلطة، وهو ما بدا مؤشراً إلى الفراق بين الجيش و"الدعم السريع" ليتحول ذلك الفراق، بعد فشل الانقلاب في تكوين حكومة قابلة للحياة، إلى حرب في الـ 15 من أبريل على خلفية الموقف من الاتفاق الإطاري، مما سيعني للقوى السياسية السودانية، اليوم، لا سيما بعد تكوين "الجبهة المدنية العريضة" ضرورة الشروع في إدارة حوار سياسي حول مصير الوطن مع كل من كان له استعداد للقبول بالدولة المدنية الديمقراطية من خلال التعاون مع المجتمع الدولي حتى لو كان ذلك بموازاة التفاوض في عملية التفاوض التي تجري في جدة.
إن ما ستؤكده هذه الحرب، خصوصاً في ظل الذين يدعون إلى استمرارها، حتى بعد مضي ستة أشهر من الصراع العبثي، هو أن من يريدها أن تستمر، على رغم هذا الدمار العبثي، شخص يهدف إلى الوصول بهذه الحرب لمحطة الحرب الأهلية الشاملة، ولحسن الحظ ربما تكون فائدة الحروب الأهلية التي طحنت السودانيين أكثر من 50 عاماً اليوم تتمثل في إدراكهم الحقيقي لما تعنيه الحرب الأهلية.
لكل ذلك لن تضع هذه الحرب اليوم أوزارها حتى تضع جميع السودانيين، بخاصة نخبهم الثقافية والسياسية، أمام لحظة استحقاق كاشفة لامتحان إرادتهم الجمعية ووعيهم الوطني والثوري إما باتجاه الجانب الصحيح من التاريخ، أو الجانب المظلم!