Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استراتيجية الخروج الأوكرانية

إن خسائر أوكرانيا البشرية بمختلف المعايير هي أكبر من أن تحتمل

إضافة إلى الخسائر البشرية، هناك مسألة انهيار المعنويات بين صفوف الضباط الأوكرانيين في الجبهات الذين باتوا يرفضون تنفيذ الأوامر العسكرية لأنها في تقديرهم مستحيلة التنفيذ (رويترز)

ملخص

أثبتت التجربة التاريخية أن أميركا تجيد الدخول في الصراعات، لكنها ليست جيدة عندما يتعلق الأمر بالخروج منها

بعد ثماني سنوات من التدخل العسكري الأميركي الواسع في الحرب الفيتنامية، وتحديداً في بداية عام 1968، أجرى الإعلامي البارز في شبكة "سي بي أس" الإخبارية الأميركية والتر كرونكايت زيارة إلى فيتنام لتقصي الحقائق استمرت لأسبوعين بغرض تقييم مدى صدقية ما يقوله البيت الأبيض حول تحقيق نجاحات في الحرب هناك. وفور عودته إلى أميركا قدم تقريره في الـ27 من فبراير (شباط) من العام ذاته بعنوان "تقرير فيتنام"، مفجراً قنبلة مدوية في الأوساط الأميركية حينها.

ودحض التقرير مزاعم إدارة الرئيس الأميركي آنذاك، ليندون جونسون، حول إمكانية النصر في الحرب ضد الشيوعيين، مؤكداً أن الوضع على الأرض خطر، وأن الاستنتاج الواقعي والوحيد هو أن أميركا لم تكن على وشك النصر، بل إن تلك الحرب لا يمكن الفوز بها، وأنه ينبغي لأميركا أن تجد طريقة مشرفة للخروج من هناك، فمن الواضح بشكل متزايد أن "المخرج العقلاني الوحيد سيكون عبر التفاوض، ليس كمنتصرين، ولكن كأشخاص شرفاء أوفوا قدر ما استطاعوا بالتزامهم الدفاع عن الديمقراطية، وبذلوا من أجل ذلك قصارى جهدهم".

وعلى رغم أصداء ذلك التقييم الصادق فإن البيت الأبيض أخذ وقتاً طويلاً قبل أن يصل إلى ذات القناعة، ويقرر أخيراً الانسحاب من سايغون بطريقة مربكة في 30 أبريل (نيسان) 1975. ويسجل التاريخ الأميركي دروس تلك الحرب، وربما كان أبرزها أن الدخول في الحرب ليس كالخروج منها، فتجارب أميركا في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى، أقل ما يقال عنها إنها كانت وما زالت تجارب مرة بطعم العلقم.

واليوم تنظر أميركا إلى حرب أخرى بلا أفق تستعر أوارها منذ 20 شهراً في أوكرانيا وبدعم منها ومن حلفائها في حلف شمال الأطلسي، ولم تحسم بعد استراتيجية للخروج منها بأقل قدر من الخسائر، مع الحفاظ على وحدة أوكرانيا وسيادتها وردع التطلعات التوسعية الروسية نحو دول الجوار.

في مستنقع إقليم الدونباس

يقول الكاتب سايمون شوستر في تحقيق موسع نشره في العدد الأخير من مجلة "تايم" اللندنية، حول تقييمه للحرب الأوكرانية، وعلى لسان كبار المستشارين المقربين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إن تلك الحرب لا يمكن تحقيق النصر فيها، من زاوية كلفتها البشرية. وبحسب تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في أغسطس (آب) الماضي، فإن الكلفة البشرية للحرب على الجانبين مهولة، وبلغت نصف مليون نسمة. فمن الجانب الروسي هناك 120 ألف قتيل و180 ألف جريح، فيما فقدت أوكرانيا الذي يبلغ عديد جيشها، ثلث الجيش الروسي، 70 ألف قتيل و120 ألف جريح، في مذبحة بشرية غير مسبوقة زمنياً. فخلال 18 شهراً من الحرب الضروس فقد الجيش الأوكراني ضعف عدد ما فقده الجيش الأميركي في حرب فيتنام التي استمرت قرابة العقدين من الزمن.

إن خسائر أوكرانيا البشرية بمختلف المعايير هي أكبر من أن تحتمل، فسكانها هم ثلث سكان روسيا الاتحادية ويشكلون تقريباً 44 مليون نسمة مقارنة بـ144 مليون روسي. ومن هنا فإن تحقيق سايمون شوستر يتناول الأثر البشري على لسان أحد مستشاري الرئيس زيلينسكي الذي أكد أنه، حتى لو أوفت أميركا بالتزاماتها بتقديم كل الأسلحة التي تعهدتها، فليس لدى الأوكرانيين الرجال القادرون على استخدامها. ويضيف شوستر أن بعض أفرع الجيش الأوكراني تعاني عجزاً كبيراً في الأفراد أكثر من المعدات والأسلحة والذخائر. وخلص إلى أن متوسط أعمار الجنود الأوكرانيين اليوم هو 43 سنة. ويزداد الجندي الأوكراني تقدماً في العمر مع استدعاء كبار السن مقابل انقراض شريحة الشباب الذين طحنتهم الحرب.

وإضافة إلى الخسائر البشرية، هناك مسألة انهيار المعنويات بين صفوف الضباط في الجبهات الذين باتوا يرفضون تنفيذ الأوامر العسكرية لأنها في تقديرهم مستحيلة التنفيذ، كما أن هناك قضية كثيراً ما آثارها شركاء أوكرانيا الغربيون، ألا وهي تفشي الفساد في الحكومة الأوكرانية، واعترف أحد كبار مستشاري زيلينسكي بشكل غير رسمي بأن "الناس يسرقون كما لو أنه لن يكون هناك يوم غد".

وخلال التحقيق شكا عديد من مستشاري زيلينسكي من عدم واقعية أهداف الحرب، وتحديداً تعريف الرئيس الأوكراني لمفهوم النصر، باستعادة جميع الأراضي الأوكرانية المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، متهمين إياه بالتصلب بشكل يثير قلقهم، ومعتبرين أنه "موهوم مع علمه بأننا لا نمتلك خيارات، ونحن لا نحقق انتصارات". وطلبوا من شوستر أن يخبر الرئيس بهذه الحقائق. وبات الرئيس زيلينسكي يواجه صعوبة جمة في إقناع حلفائه بإمكانية تحقيق النصر على روسيا، بقوله لشوستر "لا أحد يؤمن بانتصارنا كما أؤمن أنا، لا أحد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


استراتيجية الخروج وطوق النجاة

وتزايدت أخيراً الأصوات داخل الكونغرس وفي الإعلام الأميركي، وحتى بين صفوف أعضاء الحزب الديمقراطي الذين كانوا بالأمس من أشرس المدافعين عن الحرب في أوكرانيا، وإرسال المساعدات المتواصلة لهزيمة التطلعات التوسعية الإمبراطورية الروسية تجاه جيرانها. وما زال الموقف الرسمي للبيت الأبيض يشدد على أهمية "قيادة الجهود الدولية لدعم أوكرانيا وحربها من أجل كرامتها واستقلالها"، والدليل على ذلك إقرار الكونغرس أخيراً حزمة مساعدات مالية لعام 2024 بقيمة 105 مليارات دولار لصالح كل من إسرائيل وتأمين الحدود الأميركية الجنوبية مع المكسيك في وجه تدفق اللاجئين، وسيخصص 61 مليار دولار منها لدعم أوكرانيا.

إلا أن الأصوات بدأت تطالب إدارة بايدن بصياغة استراتيجية للخروج، حيث أشارت مجموعة من المشرعين في ولاية أوكلاهوما أخيراً إلى أهمية التوصل إلى صياغة هذه الاستراتيجية، مما سيقلل من أخطار الغرق في مستنقع الدونباس، بخاصة أن التجربة التاريخية أثبتت أن أميركا تجيد الدخول في الصراعات، ولكنها ليست جيدة عندما يتعلق الأمر بالخروج منها. وفي استطلاع للرأي أجرته وكالة "رويترز" أخيراً فإن 41 في المئة من الأميركيين المشاركين في الاستفتاء يرون أهمية استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا اليوم، مقارنة بـ65 في المئة في يونيو (حزيران) الماضي حين بدأ الهجوم الأوكراني المضاد.

ويرى مراقبون أن روسيا على رغم خطاب بوتين المشبع بالسردية التاريخية للعظمة الروسية، واستخدامه للماضي كسلاح لتحقيق طموحات الهيمنة لتركيع أوكرانيا وإعادتها إلى بيت الطاعة الروسي، إلا أنها دفعت ثمناً باهظاً أسقط جدوى السردية المتغطرسة التي لا تقبل باستقلال الشعوب التي كانت في الماضي ترزح تحت ربقة الاستعمار الروسي. لقد تضرر الإنسان والاقتصاد الروسي بفعل الركود الاقتصادي، فروسيا تدفع قرابة مليار دولار يومياً لحرب تقوم على فرضية تاريخية، فيما يزداد غلاء المعيشة، وارتفعت الأسعار، وانقطعت روسيا بشكل شبه تام عن السوق الغربية بفعل العقوبات الغربية، وهي التي كانت أهم مصادر قوة الاقتصاد الروسي. وباتت روسيا وبشكل متزايد تتحول إلى مستعمرة اقتصادية للصين، كما أكد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز.

ويجمع المتابعون لخيارات السلام على أن الوقت حان للنظر في البدائل السلمية لوقف الحرب، في ضوء تجارب الوساطة الكثيرة مثل وساطة الزعماء الأفارقة، أو تلك التي تقدم بها الرئيس البرازيلي، أو رئيس وزراء الهند، والجهود المتواصلة للرئيس التركي، بما في ذلك نجاحه في اتفاق الحبوب، والحوار الذي أجراه بابا الفاتيكان مع بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. وتظل المبادرة السعودية بنظر كثر هي العلامة الواعدة الوحيدة في الوقت الراهن التي يمكن البناء عليها، نظراً إلى مكانة السعودية لدى أطراف النزاع. ففي أغسطس (آب) الماضي دعت السعودية إلى مؤتمر دولي بمشاركة 40 دولة للاتفاق على المبادئ الأساسية لإيجاد تسوية سلمية تنهي الحرب الروسية - الأوكرانية.

وبالإمكان وضع كل مبادرات السلام على طاولة الرياض، بدءاً من اتفاق "مينسك 2" المحدثة لعام 2015، والتي تنص على وقف لإطلاق النار، وإجراء إصلاحات دستورية في أوكرانيا تمنح حكماً ذاتياً موسعاً لمناطق معينة في إقليم الدونباس، مع الاعتراف بالسيادة الأوكرانية الكاملة على الحدود الدولية. وربما بحثت المبادرة السعودية مسألة العودة عن الإجراءات أحادية الجانب التي اتخذتها روسيا في المنطقة وتقديم خطة دولية شاملة لإعادة إعمار أوكرانيا. ويأتي إعلان المفوضية الأوروبية الصادر الأربعاء الماضي بفتح مفاوضات انضمام أوكرانيا لعضوية الاتحاد الأوروبي مدخلاً صحيحاً لإعادة تموضع العلاقات الأوروبية الروسية في المستقبل.

المزيد من آراء