لا تزال المسألة الفلسطينية منذ سبعة عقود ونيف تطرح الأسئلة على الكتاب والشعراء الذين يطرحونها بدورهم على القراء، وليس ثمة أجوبة قاطعة عنها حتى تاريخه، على أمل أن يستفيق الضمير العالمي، ذات يوم، من سباته الكهفي، ويقوم بالإجابة عن الأسئلة المطروحة. ولعل سؤال المخيم، وهو علامة فلسطينية حاضرة بقوة منذ النصف الثاني من القرن الـ20، هو أحد هذه الأسئلة التي تطرح بين آونة وأخرى. وهو ما يفعله الكاتب الفلسطيني جلال جبارين في روايته "القمح المر" الصادرة عن "الدار العربية للعلوم – ناشرون" في بيروت، وهي الثانية له بعد رواية "عروب".
بالدخول في الرواية من عتبة العنوان، تنطوي عبارة "القمح المر" على تضاد شعري، فنعت القمح بالمرارة يشكل انزياحاً عن المألوف، ويشي بالحصاد الفلسطيني ومرارة الحياة في ظل الاحتلال الإسرائيلي إلى حد الاستحالة. ويأتي تصدير الرواية بمقتبس من محمود درويش ليعزز هذا الانطباع، ويؤكد وحدة الفلسطيني في مواجهة مصائب الدهر، وهو ما يعبر عنه درويش بالقول "القمح مر في حقول الآخرين والماء مالح/ والغيم فولاذ وهذا النجم جارح/ وعليك أن تحيا وأن تحيا/ وأن تعطي مقابل حبة الزيتون جلدك/ كم كنت وحدك...". ومرارة القمح وملوحة الماء وصلابة الغيم ونزف النجم وصعوبة الحياة هي ما تعكسه الوقائع المختلفة في المتن الروائي، وما نستنتجه من الجملة التي يختم بها الكاتب روايته بالقول "يا الله. مر هذا القمح... كيف نعيش في اليسار وأحلامنا في قبضة اليمين؟" (ص 157).
أوضاع مزرية
في المتن يتناول جلال جبارين الحياة في المخيم الفلسطيني في أوضاع مزرية يتضافر فيها ضيق المكان وكثافة السكان وتراكم النفايات وتلوث المياه وانقطاع الكهرباء وانعدام الخصوصية وقلة فرص العمل مع الاحتلال الإسرائيلي على امتهان إنسانية الإنسان والحيلولة دون العيش الكريم، ويقول باستحالة بلوغ العلاقات خواتيمها المنشودة في ظل هذه الأوضاع، فلا النجاح يؤتي ثماره، ولا الحب يتكلل بالارتباط، ولا العمل يسمن من جوع، ولا الأمنيات تتحقق. ففي المخيم لا شيء دائماً، وكل شيء موقت حتى إشعار آخر. هذا ما تطرحه الرواية من خلال رصد العلاقات بين بعض الأسر المتعالقة بعلاقات الجوار أو الصداقة أو القرابة. على أن العلاقة بين أسرتي جبريل ورفيق المتناظرتين في عدد الأفراد، هي المحور الذي ينتظم الأحداث في "القمح المر"، وهي علاقة تتخذ طابعاً ثنائياً بين ثنائيات: جبريل/ رفيق، ليلى/ سعاد، يافا/ نصر، كاسترو/ عنات. ولكل من هذه العلاقات الثنائية مسارها ومصيرها، في إطار التعالق الروائي العام. والمؤسف أنها مسارات متعثرة ومصائر قاتمة. ففي ظل الاحتلال، لا مجال لحياة طبيعية تسير فيها الأمور على رسلها، وتؤول إلى خواتيم منشودة.
تدور الأحداث في مخيم الفوار جنوب الضفة الغربية، وتنخرط فيها الأسرتان هاتان، ناهيك بأسرة العم ناهض وأفراد يتحدرون من أسر أخرى، يحمع بينهم المكان والاشتراك في البؤس والمعاناة. على أن إرادة الحياة لدى الأسر والأفراد تجعلهم يجترحون الفرح في مناسبات معينة، ويمارسون التضامن في أخرى، مما يشكل نجاح ثائر بن جبريل وليلى في الثانوية العامة مناسبة للاحتفال والرقص في الشارع، ويكون تقاعد رفيق أبي جهاد من الوظيفة فرصة لتقديم التهاني والاحتفاء به من جهة. وتمتنع الأم ليلى المعروفة بمكاسرة التجار خارج المخيم عن القيام بذلك مع باعة المخيم بذريعة أنهم "أهلنا ومش خسارة فيهم"، ويقوم الأب جبريل بتفهم وضع قاسم المادي ويتساهل معه في استيفاء أجرة الدكان. وهكذا، لم تحل الأوضاع المزرية دون اجتراح الفرح، وحتمت التضامن بين الأهل والجيران، مما يعكس قدرة الفلسطيني على التكيف في جميع الظروف.
أسلاك مقطوعة
بالعودة للثنائيات المذكورة تشغل ثنائية كاسترو/ عنات السلك الأطول في الرواية مقارنة بالثنائيات الأخرى، فالعلاقة بين طرفي هذه الثنائية تبدأ منذ الطفولة بقرار من الأمين ليلى وسعاد بأن يكون "كاسترو لعنات، وعنات لكاسترو"، بمعزل عن رأي طرفي العلاقة. فقرارات الزواج والنسب في المخيم كثيراً ما "تقرر وفقاً للانتخاب والحجز المبكر للزواج من طرف أولياء الأمور"، وتستمر من خلال اللقاءات العابرة والزيارت والرفقة المدرسية ووسائل التواصل الاجتماعي، وتتمظهر في اختلاس القبلات واغتنام اللقاءات وتناول الطعام وتبادل الاتصالات الهاتفية، حتى إذا ما تعرضت العلاقة بين الأسرتين لبعض الاهتزازات، ينجح طرفا الثنائية بالمحافظة عليها وتجنيبها تلك الاهتزازات. وبذلك تتوافر الظروف المواتية، الذاتية والموضوعية، لعلاقة حب يتوقع أن تؤتي ثمارها المرجوة. غير أن قيام الاحتلال، في نهاية الرواية، بإطلاق النار على كاسترو، على عتبة بيته، وهو يحاول إنقاذ ابن أحد الجيران، يؤدي إلى إصابته بالشلل، واستطراداً إلى فك عرى العلاقة بين كاسترو وعنات، فتضطر هي إلى القبول بما سبق أن رفضته من زواج بابن عمتها والسفر إلى أميركا، ويضطر كاسترو إلى تجرع كأس العجز والفراق ومعاقرة الوحدة والفراغ. وهكذا، يشكل الاحتلال عنصراً غريباً يمعن في تخريب الأمور وإخراجها عن مسارها الطبيعي.
من خلال هذا السلك وتعالقه مع الأسلاك الأخرى، يمكن تظهير شخصيتي كاسترو وعنات، فيبدو هو على قدر من الوعي والحكمة وحسن التصرف والشعور بالمسؤولية والبر بالأسرة ومساعدة الآخرين، مما يجعله أقرب إلى المثال منه إلى الواقع. وتبدو هي على قدر من القوة والثقة بالنفس والجرأة وامتلاك زمام المبادرة وإتقان الكر والفر، مما يجعلها مفارقة للواقع المعيش. وإذ تشارف العلاقة بين الطرفين مصيرها المنشود، يأتي تدخل الاحتلال ليحرفها عن مسارها الطبيعي إلى آخر لم يكن في الحسبان.
إذا كان تدخل الاحتلال المباشر يطيح أن تؤتي العلاقة بين كاسترو وعنات ثمارها، فإن تدخله غير المباشر يحقق الهدف نفسه، ولو بطريقة أخرى، في ثنائيتي الأبوين والأمين، فالعلاقة بين طرفي ثنائية جبريل/ رفيق لم تتأثر برفض يافا، ابنة الأول، الارتباط بنصر، ابن الثاني، وبقيت على حرارتها، غير أنه حين يضطر جبريل بفعل الحاجة إلى العمل في الداخل المحتل تختل العلاقة بين الطرفين، ويأخذ الثاني على الأول قبوله العمل في المستوطنات الإسرائيلية باعتباره نوعاً من التطبيع الناعم، لا سيما أنه سبق له أن رفض ذلك بالقول "أنا جبريل. بدك مني أشتغل عند هذول الكلاب! بدك مني أبلط مستوطناتهم وأدهن إسكاناتهم عشان يناموا مرتاحين! بدك مني بعد هذا العمر وبعد هذا الشيب وبعد سنين الأسر والقمع أعمر أرضنا لغيرنا! صحيح وضعي المادي زفت... لكن مليون مستحيل أفكر أو أخوض في هذا التطبيع الناعم..." (ص 46). وهكذا، يتقدم الوطني على الاجتماعي في سلم القيم المعمول به في المخيم. وهذا الاختلال في العلاقة ينعكس فتوراً في العلاقة بين طرفي ثنائية الزوجتين ليلى/ سعاد بعد سنين من الجيرة والصداقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما ثنائية يافا/ نصر فلم يكن للاحتلال، بتدخله المباشر وغير المباشر، أي دور في انقطاع العلاقة بين طرفيها اللذين قررت أماهما أن يكون أحدهما للآخر، على غرار ما فعلتا مع كاسترو وعنات. غير أن عدم التكافؤ بين الطرفين وثقة يافا بالنفس وامتلاكها حرية الخيار جعلها ترفض الارتباط بنصر، وتختار الارتباط بحبيبها مجد والعيش معه خارج المخيم. إلى ذلك، ثمة شخوص أخرى في الرواية، من خارج الثنائيات المذكورة، تراوح بين الإيجابية والسلبية، فالحاج عزيز الموسى الذي يرفض الاحتلال والاعتياد على حياة المخيم ما يصرف عن المطالبة في حق العودة، ويساعد الآخرين، ويصلح ذات البين بينهم، يعكس صورة فلسطين في ملامحه وسلوكياته، ويمثل نموذجاً متقدماً في الإيجابية، من جهة. وثائر الذي يلح في طلب المال من أبيه رغم معرفته بعدم امتلاكه، ويرفض العمل مع الأب، ويخطط للاقتران بابنة أحد المتمولين، ويصطنع التدين لكسب رضا هذا الأخير، ويعنف أخته لمجرد أنها تجرأت على الحب، ويقبل أن تبيع أمه مصاغها لتأمين المال له، وتبرر الغاية عند الوسيلة، يخرج من المولد بلا حمص، ويشكل قمة في السلبية والأنانية والانتهازية وعدم الشعور بالمسؤولية، من جهة ثانية. ولعل اعتقاله من المحتلين بعد مقتل أخيه من شأنه أن يخفف من حدة هذه السلبية، إلى حد ما.
يضع جلال جبارين "القمح المر" في 17 وحدة سردية، يتراوح طول الواحدة منها بين صفحتين اثنتين، في الحد الأدنى، كما في الوحدة الـ17، و17 صفحة، في الحد الأقصى، كما في الوحدة السابعة. ويسند مهمة الروي فيها إلى راوٍ شريك هو كاسترو، فيعوضه بهذا الإسناد عما أنزله به الاحتلال. وبذلك يشكل الروي نوعاً من المقاومة غير المباشرة للمحتل. ويصوغ جبارين وحداته بلغة رشيقة، تتعدد مصادرها المعجمية وتتنوع، وتراوح بين الحربي والنحوي والجغرافي والزراعي والمسرحي والسينمائي والتشكيلي والموسيقي، وغيرها، ما يشي بتنوع ثقافة الكاتب، ويضفي على السرد حيوية هو في حاجة إليها. أما الحوار فيتم بالمحكية الفلسطينية، ويوهم بواقعية المروي وصدقيته.